العدد 2272 - الإثنين 24 نوفمبر 2008م الموافق 25 ذي القعدة 1429هـ

هل توجد ليبرالية تعددية؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

للإجابة عن هذا السؤال سيكون لزاما علينا العودة إلى أطروحات أشعيا برلين، المفكّر اليهودي البريطاني الروسي الأصل؛ لأنّ هذا الأخير كان واحدا من أهم المنظرين الليبراليين في النصف الثاني من القرن العشرين. ويُعد، في الوقت ذاته، أهم المؤصلين لقيمة التعدد والتنوّع في العصر الحديث. حتى صار كثيرون يعتبرون التعددية هي فكرة أشعيا برلين الأساسية، وأصبح لا غنى للتعددية الثقافية عن إسهامه الفلسفي فيما يتعلّق بالتعددية في «التنوّع الأخلاقي»، كما في «أنظمة القيم المختلفة، ومفاهيم العدالة المختلفة من أجل حلّ التعارض بين القيم»

(Isaiah Berlin: A Value Pluralist and Humanist View, p.2).

لقد كان هذا المفكّر مخلصا للتعددية والليبرالية في الوقت ذاته، بحيث لم يكن يراهما فكرتينِ مترابطتينِ فحسب، بل كان يفترض أنّ بينهما تلازما منطقيا، فالليبرالية تستلزم التعددية بقدر ما تستلزم التعددية الليبرالية، ولهذا توصف ليبراليته بأنّها ليبرالية تعددية، كما توصف تعدديته بأنّها تعددية ليبرالية. وهي بهذا التوصيف الليبرالية الوحيدة، كما يكتب جون جراي، «التي يمكن تبريرها والدفاع عنها» (ما بعد الليبرالية، ص120).

تقوم ليبرالية أشعيا برلين على فكرة الحرية السلبية والإرادة الحرة وعدم تدخل الآخرين في هذه الحرية. فالحرية السلبية تعني أنّ من حق المرء أنْ يعيش كما يريد من دون تدخل قسري خارجي من الآخرين أو من الدولة. وفي الوقت ذاته كان هذا المفكّر على وعي بحاجة البشر إلى الانتماء إلى جماعة. فإذا ما قرّر المرء الذي يتمتع بإرادته الحرة أنْ ينتمي إلى جماعة من الجماعات أو أن يتبنى أسلوبا معينا من أساليب الحياة المختلفة فإنّ على الجميع أنْ يحترمَ هذا القرار النابع من حرية الاختيار التي ينبغي أنْ يتمتع بها كلّ فرد.

وبحسب أشعيا برلين، فإنّ القيم الإنسانية متعددة بصورة يتعذر اختزالها، كما أنّها قيم غير متوافقة بالضرورة، فـ»هناك الكثير من الغايات الموضوعية، والقيم المطلقة، بعضها غير متوافق مع غيره، وتسعى لتحقيقها مجتمعات مختلفة في أوقات مختلفة، أو مجموعات مختلفة داخل المجتمع نفسه، أو طبقات أو كنائس أو أعراق بأكملها، أو أفراد بعينهم داخل كلّ منها، وقد يجد أيّ منها نفسه عرضة لمطالب متضاربة لا يمكن الجمع بينها، ولكنها تتساوى في كونها غايات مطلقة وموضوعية» (Isaiah Berlin: A Value Pluralist and Humanist View, p.13). والمعنى من هذا أنّ ثمّة قيما مطلقة كثيرة، إلاّ أنّها غير متوافقة بالضرورة، بل قد تكون في حالة تعارض. والتعارض هنا ليس بين قيم الخير وقيم الشر، بل بين قيم الخير ذاتها. يحدث ذلك حين تتعارض قيمة الرحمة مع قيمة العدل، أو قيمة الحرية مع قيمة المساواة مثلا. ومن هذا المنظور فليس ثمّة معيار نهائي يسمح بالتحكيم بين هذه القيم المتعارضة؛ لأنّها أساسا «قيم غير متكافئة»، كما لا يُوجد مجتمع - لا ليبرالي ولا علماني - يمكنه أنْ يتمثل النموذج المثالي الذي تتوافق فيه كلّ هذه القيم والغايات. وأكثر من هذا، فإنّ «الفكرة التي تقول إنّ بإمكان مجتمع ما أو جماعة ما أنْ تعيش في يوم من الأيام من دون توتر (بين القيم والغايات)، هي بالنسبة لبرلين، ليست فكرة غير مترابطة فحسب، بل هي كذلك حلم يوتوبي خطير جدا» (p.15)؛ لأنّ السعي إلى تحقيق هذا النوع من المجتمع لا يكتب له النجاح إلاّ من خلال التضحية بالتنوّع القائم في المجتمع، وهنا بالتحديد تكمن خطورته. وبانعدام هذا النوع من المجتمعات المثالية الخطرة تكون الفرصة متاحة لانبثاق أنماط متنوّعة من المجتمعات، وتنوّعها هذا نابع من كونها تتبنى مجموعة من القيم والغايات، وتستبعد أخرى. ولهذا فإنّ على المجتمع - كما الحال لدى الأفراد - أنْ يختار من بين القيم والغايات المتعارضة أو يسعى للتسوية بينها، فهناك مجتمع يتبنى قيمة التضامن بين أعضائه ويجعلها قيمة مركزية، وهو النموذج الذي يدعو له الجماعاتيون على وجه العموم، وفي المقابل هناك مجتمع يتبنى قيم الفردية والاستقلال الشخصي ويعلي من قيمة الحرية الشخصية، وهو النموذج الذي يدافع عنه الليبراليون على وجه العموم.

هذه بعض أفكار أشعيا برلين في ليبراليته التعددية، إلاّ أنّ سؤالا يتبادر إلى الذهن هنا وهو: هل هذه أفكار ليبرالية حقا؟ وإذا كانت كذلك فما السبب وراء النفور الليبرالي الحديث من التعددية الثقافية؟ بالنسبة لجون جراي، المفكّر البريطاني ما بعد الليبرالي، فإن الحديث عن ليبرالية مفردة حديث مضلل، والصحيح أنْ يجري الحديث عن «ليبراليات» - وهو عنوان أحد كتبه، والصادر في العام 1989 -. هناك، إذن، ليبراليات عديدة وربما متعارضة، وتمثل ليبرالية أشعيا برلين إحدى هذه الليبراليات وأكثرها قدرة على التكيّف مع الزمن، إلاّ أنّ ثمة ليبرالية كلاسيكية يسميها جراي «ليبرالية أصولية»، ويقصد بها ليبرالية جون سيتوارت ميل والتي بسطها في كتابه «عن الحرية» (1859). وبحسب جراي، فإنّ ليبرالية ميل تعتمد على «إهمال التراث الثقافي»، أمّا المجتمع الذي تمجّده فهو «شكل خاص ليس في حقيقته أيّ نوع من أنواع المجتمع التعددي. إنّه مجتمع تحكمه نخبة من صنّاع الرأي (...) تدافع دفاعا عنيدا عن نموذج متحيّز ضيّق للفردية العقلانية والنزعة التقدمية. وفي هذه الرؤية الذاتية المحدودة تصبح التقاليد عوائق وعقبات في سبيل الفردية، وليست وسائل يمكنها البقاء فيها بمفردها والتعبير عن نفسها، ويكون التنوّع الموروث من الأساليب وطرق المعيشة الشعبية حديقة من الأعشاب الضارة التي يجب التخلّص منها بدلا من استكشافها والتمتع بها» (ما بعد الليبرالية، ص401).

إذا كنّا في عجلة من التحليل فيمكننا الاستنتاج سريعا بأنّ النفور الليبرالي من التعددية لم يكن طارئا بقدر ما هو عودة مستجدة لنوع عتيق من الليبرالية الأحادية والأصولية. وإذا كان تفسير جون جراي لليبرالية ميل صائبا ودقيقـا - وهو ما سنعود إلى مناقشته في الأسبوع المقبل - فإنّ هذه الليبرالية تصبح عندئذٍ أحادية وشمولية؛ لأنّها لا تختلف كثيرا عن الأيديولوجيات الشمولية السابقة من فاشية ونازية وستالينية من حيث إنّها تسعى إلى إلزام البشر كافة بنسق معياري ثابت من الأفكار والمعتقدات والقيم وحتى الحقوق والواجبات. ولهذا ليس غريبا أنْ تلتقي هذه الليبرالية مع الأيديولوجيات الشمولية في نفورها من التعدد والتنوّع، فهي لا تختلف عن الأيديولوجيات الشمولية التي كانت تنتخب ثقافة مفردة أو نسق فكري وأيديولوجي وحقوقي مفرد وتريد تعميمه بصورة كلية على جميع البشر في كلّ المجتمعات. وبحسب جون جراي أيضا، فإنّ جون ستورات ميل يعبّر عن «احتقاره للشعوب الصغيرة والأقليات الثقافية، الأمر الذي يشترك فيه مع ماركس»، والأحرى أنّ تفسير جراي لو كان دقيقـا فإنّ ميل سوف يشترك في هذا مع هتلر ونازيته؛ لأنّ طموح هذه الليبرالية الميلية يتمثل في «خلق عالم اجتماعي يخلو من الغجر والحسيديين (طائفة من اليهود)، ويجري فيه استيعاب الثقافات المهاجرة على وجه السرعة» (ص402). ومن هنا يستنتج جراي بأنّ «الليبرالية الميلية» تعدّ على الصعيدين النظري والتطبيقي، «برنامجا للتماثل الثقافي»، و»قوّة داعمة للتجانس الثقافي ومضادة للتنوّع» (ص401). فهل هذا الاستنتاج صائب؟ نترك الإجابة عن هذا السؤال للأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2272 - الإثنين 24 نوفمبر 2008م الموافق 25 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً