العدد 2279 - الإثنين 01 ديسمبر 2008م الموافق 02 ذي الحجة 1429هـ

ليبرالية مصابة بالعمى

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لا يمكن الحديث عن الليبرالية وموقفها من التنوع الثقافي دون التطرق إلى أطروحات جون ستيورات ميل (1806 -1873م) بوصفه أحد المفكرين الليبراليين المؤثرين بقوة في تاريخ الليبرالية الغربية في القرن التاسع عشر.

تقوم ليبرالية ج. س. ميل على الفردية وتعلي من قيمة الحرية الشخصية والاستقلال الشخصي، بل إنه يذهب إلى القول إن «التطوير الحر للفردية هو أحد المكونات الرئيسية للسعادة» (عن الفردية، ضمن كتاب: الفردية والمجتمع المدني، ص94)، و»إن الفردية هي صنو للتطور، وإن تنمية الفردية هي فقط ما ينتج أو يستطيع إنتاج كائنات بشرية جيدة التطور»، وتسير في «طريق التقدم».

إلا أن ميل يستدرك ليربط كل هذا التقدم والتطور بالتنوع. ولهذا تراه يرجع التقدم الحاصل في أوروبا إلى التنوع والتعدد، يقول: «لم يكن ذلك «أي التقدم» بسبب أي امتياز فائق لهم، لأن هذا الامتياز عندما حصل، جاء نتيجة لا سببا، بل بسبب التنوع الملحوظ في شخصياتهم وثقافاتهم. الأفراد والطبقات والشعوب يختلفون بشدة فيما بينهم: لقد اختطوا لأنفسهم طرقا متنوعة كثيرة، كل منها يؤدي إلى شيء مفيد. وعلى رغم أن الذين سلكوا طرقا مختلفة في كل عصر لم يكونوا يقبلون بعضهم بعضا، وكل منهم كان يتمنى لو كان بالإمكان إلزام الباقين جميعا بالسير في طريقه، فإن محاولاتهم لإعاقة تقدم بعضهم بعضا نادرا مَّا كانت تحقق نجاحا دائما. وكل منهم جاء عليه وقت قبل فيه الأشياء التي قدمها له الآخرون. أوروبا، في رأيي، مدينة كليا بتقدمها وتطورها المتعدد الجوانب لهذا التعدد في الطرق».

تقترب هذه الفقرة من لغة ليبراليي الأربعينات فصاعدا من أمثال كارل بوبر وحنا أرندت وأشعيا برلين، والسبب أنها تنطوي، كما هو الشأن في خطاب هؤلاء الأخيرين، على احتفاء ليبرالي جليّ بالتعدد والتنوع. وهو تنوع شخصي على مستوى الأفراد، وجماعي على مستوى الثقافات والطبقات والشعوب. وكلاهما تنوع لا يجوز اختزاله وتقليصه إلى هوية أحادية منمطة.

ليس من الصعب الاستدلال على دفاع ميل عن النوع الأول من التنوع: تنوع الأفراد؛ لأن هذا الدفاع هو جوهر الليبرالية التي يطورها. ويتكشف هذا النَّوع من التنوع في دفاعه عن الفردية ضد «طغيان المجتمع»، وفي نفوره مما يسميه «استبداد العادات» الذي يحجب أصالة الأفراد وعبقريتهم المتجددة. وبحسب ميل فإن الفرد حين يخضع لاستبداد العادات و»ميكانيكية المعتقدات والممارسات» يكون قد تخلى عن الجانب الأصيل في ذاته وهو فرديته، وحقه الأصيل في الاختلاف والتغريد خارج السرب، أي حقه في أن يكون «خارج الجماعة» وخارج الحشود. ولا يكون المرء داخل السرب و»ضائعا وسط الحشود» إلا في مجتمع تستبد فيه العادات والتقاليد، وتتراجع فيه قوة الأشخاص وتنطفئ فيه عبقرياتهم الخاصة، وعندئذٍ يختفي الاختلاف ويكون الجميع متشابهين كنسخ متطابقة. والاختلاف هنا مؤشر على عافية المجتمع، فبقدر ما يكون الاختلاف يكون إلى جنبه «وفرة في قوة الشخصيات»، ذلك أن «كمية الاختلاف في أي مجتمع تتناسب عموما مع كمية العبقرية والحيوية الذهنية والشجاعة المعنوية في ذلك المجتمع. وكون قلة فقط هم الذين يجرأون على أن يكونوا مختلفين هو نذير بالخطر الرئيسي للعصر». ولهذا السبب يبدي ميل نفورا واضحا من كل أشكال القولبة والتنميط التي تمارسها الدولة أو المجتمع؛ وذلك لأنه ليس ثمة من سبب كاف لتشكيل الناس جميعا «في نموذج واحد». ومن هذا المنطلق أيضا يرفض أن يكون التعليم بيد الدولة؛ لأن «كل ما قيل عن أهمية تفرد الشخصية وتنوع الآراء وأشكال السلوك، يتضمن بالدرجة نفسها من الأهمية تنوع التعليم. التعليم العام في الدولة هو مجرد وسيلة لقولبة الناس ليصبحوا نماذج متشابهة تماما».

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن الدفع بهذا التحليل إلى أقصاه فيكون على الثقافات والطبقات والشعوب - تماما كما كان على الفرد أن يقاوم ضغوط القولبة التي تمارسها عليه الدولة والمجتمع - أن تقاوم ضغوط القولبة التي تمارسها ثقافات وطبقات وشعوب أخرى أو حتى تلك التي تمارسها الدولة بقصد إزالة التنوع الثقافي داخل محيطها؟ ليس ثمة إجابة واضحة ومركزة لدى ج. س. ميل عن هذا السؤال، إلا أن حديثه عن التنوع في الثقافات والطبقات والشعوب التي تسلك طرقا مختلفة، ينطوي على موقف إيجابي من التنوع الثقافي. كما أن الفقرة التي استشهدنا بها سابقا، والتي يتحدث فيها ميل عن فشل كل المحاولات التي كانت ترمي إلى إلزام الثقافات الأخرى بالسير على طريقة واحدة، إنما تعني أن التنوع حقيقة إنسانية غنية وكثيفة ويستحيل اختزالها أو تقليصها.

إلا أن ج. س. ميل، حين قال إن أوروبا مدينة كليّا بتقدمها وتطورها إلى التعدد، إنما كان يتحدث عن التعدد في أوروبا فقط، أي عن ثقافات أوروبا وطبقاتها وشعوبها من جرمانية وإنجليزية وإسبانية وإيطالية وفرنسية وغيرها. هذا هو التنوع الذي يقصده ميل في عبارته السابقة. وفشل محاولات اختزال «التنوع اللانهائي للبشر» سيعني أن الجرمانيين لم ينجحوا في إلزام الفرنسيين والإنجليز مثلا بالسير في طريقهم، وبالتخلي عن «فرنسيتهم» و»إنجليزيتهم» ليصبحوا جرمانيين مثلهم. بالطبع كانت هناك محاولات كهذه في أكثر من اتجاه، إلا أنها كلها باءت بالفشل. وميل في هذا لا يختلف عن أي مفكر أوروبي ظهر في عصر التنوير ولاحظ أن أوروبا واحدة ومتعددة في الوقت ذاته، وبحسب تودوروف، فإن ديفيد هيوم هو «أول مفكر رأى هوية أوروبا عوض أن تتمثّل في سمة يشترك فيها الجميع (إرث الإمبراطورية الرومانية الدين المسيحي) تتجسّد في تعدديتها بالذات، لا تعددية الأفراد بل تعددية البلدان التي تكونها» (روح الأنوار، ص153).

أوروبا إذن مدينة كليا بتقدمها إلى التعدد، إلا أنه تعدد داخلي يقع بين أفرادها وبلدانها فقط، ولهذا لا يتردد هذا المفكر الليبرالي الكبير عن تبرير الحكم الاستبدادي المطلق إذا كان في مجتمع بربري أي غير أوروبي، يقول: «الحكم الاستبدادي المطلق هو صيغة مشروعة من الحكم إذا كان التعامل يجري مع البرابرة، بشرط أن تكون الغاية هي تحسينهم». هذه نزعة إمبريالية ومركزية عرقية تنبّه إليها إدوارد سعيد حين أشار إلى أن ج. س. ميل مدافع عظيم عن الحرية والديمقراطية، «لكنه عندما عمل في وزارة شئون الهند، لم يدافع قط عن شيء سوى استمرارية التبعية والإخضاع فيما يخص الهند» (السلطة والسياسة والثقافة (حوارات مع إدوارد سعيد)، ص199)، كما أن ميل أوضح «في كتابيه «عن الحرية» و»الحكومة الممثّلة» أن آراءه فيهما لا يمكن أن تطبّق على الهند (...) لأن الهنود كانوا حضاريّا، إن لم يكن عرقيّا، في مستوى دوني» (الاستشراق، ص48).

نحن هنا أمام مفارقة ضدية هي نتاج تلك النزعة العرقية والإمبريالية التي حرمت واحدا من «أبطال الحرية» في الغرب من رؤية التنوع على حقيقته كواقعة بشرية متجذرة وعامة، فحضارات الآخرين تنطوي على التنوع تماما كما تنطوي «حضارة الغرب»، وكما أنه لا يجوز اختزال تنوع الغرب في هوية أحادية مفردة، فكذلك لا يجوز اختزال تنوع الآخرين في هوية أحادية مفردة كما لو كانوا نسخا متطابقة في الهند كما في الجزائر كما في أي مكان آخر من بلاد «البرابرة». إنها بالفعل ليبرالية مصابة بالعمى عن التنوع

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2279 - الإثنين 01 ديسمبر 2008م الموافق 02 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً