العدد 2300 - الإثنين 22 ديسمبر 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1429هـ

هل الدولة خيّاطٌ رديءٌ وكسول؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يميل معظم الليبراليين إلى الاعتقاد بأن مطلب المعاملة المتساوية أمام قانون موحّد، يمثّل مخرجا مع كل المعضلات التي تفترضها التعددية الثقافية. وهذا اعتقاد مشتق أساسا من فكر التنوير الذي يفترض وجود طبيعة بشرية واحدة تتمتع بحقوق طبيعية ثابتة ومتساوية.

وعلى غرار كونية التنوير التي افترضت وجود «إنسان تجريدي» ومجرد من كل الملامح والارتباطات والانتماءات، فإن هذا الحل الليبرلي يقوم على افتراض مؤداه أن المواطنة مقولة تجريدية، وأن الناس حين يتقمصون دور المواطنة فإنهم يتحولون إلى مواطنين بلا ملامح مميزة، ومجردين من أية انتماءات خاصة. هناك صياغة معدلة ومطوّرة لهذا النوع من الليبرالية لا تنكر التنوع بل تعترف بوجود أناس متنوعين وذوي انتماءات وثقافات متنوعة، إلا أنها تميّز بين التنوع بصفته حقيقة، والتنوع بصفته معيارا ينبغي أن تلتزم به القوانين والتشريعات والسياسات. ويمثّل التنوع، بالنسبة إلى المفكر البريطاني بريان باري، حقيقة عالمية غير قابلة للإنكار، إلا أن هذه الحقيقة لا تترتب عليها أية التزامات قانونية وسياسية. الالتزام الوحيد المطلوب هو المساواة المدنية والسياسية التي تتطلب قوانين ينبغي أن تضمن «المعاملة المتساوية لكل أولئك الذين ينتمون إلى معتقدات دينية مختلفة وثقافات مختلفة» (Culture and Equality, p.24). الاختلافات إذن حقيقة قائمة، إلا أن القانون ينبغي أن يتعامل معها بحيادية مطلقة، لأنه لا يهم القانون أن يكون المواطن أبيض أو أسود، ذكرا أو أنثى، جميلا أو قبيحا، مسلما أو غير مسلم وهكذا.

والحق أن هذه معضلة سياسية ذات جذور بعيدة جدا، فأرسطو، في القرن الرابع ق.م، تطرق إلى هذه المعضلة، وعدّها من «المسائل الصعبة» في الفلسفة السياسية. وبحسب أرسطو فإن الخير في السياسة يكمن في العدل، و «العدل هو نوع من المساواة» التي «يجب أن تسود بين المتساوين بالضرورة» (السياسة، ص212)، وبما إن «المواطنين أشباه»، وإن «الدولة ليست إلا جمعية من أفراد متساوين»، فإنه يجب «أن تكون الاختصاصات والحقوق متماثلة بالضرورة» (ص229). إلا أن الصعوبة تكمن في تحديد هذه الحقوق التي ينبغي أن تكون متماثلة بين المواطنين المتساوين بالضرورة. ثم إذا كان الناس مختلفين في أمور كثيرة، ففي أي شيء هم متساوون على وجه التحديد؟ بالطبع هم متساوون في المواطنة، وهذه المساواة هي التي تشترط حقوقا سياسية ومدنية متماثلة لكل هؤلاء، فإذا كان المواطنون مختلفين من حيث القامة والوزن والعمر واللون والجمال وخفة الحركة...إلخ، فإن كل هذه الاختلافات لا قيمة لها فيما يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية، وبحسب تمثيل أرسطو فإن البعض إذا كان «أخفّ في الجري، والآخرون أثقل، فذاك ليس سببا في السياسة لأن يكون للأولين أكثر من الآخرين. فإنما هو في الألعاب الرياضية أن تقدّر هذه الفروق حق قدرها» (ص213). والمعنى من ذلك أن الجري نشاط يتفاوت الناس فيه تبعا لخفتهم وثقلهم، وهذا التفاوت ينبغي أخذه بعين الاعتبار إذا كنا بصدد اختيار أحد اللاعبين ليمثّلنا في مسابقة الجري، إلا أن هذا النوع من الفروق بين البشر لا قيمة له فيما يتعلق بالحقوق السياسية. وكذلك «لا يهم أن يكون الذي ارتكب الزنى رجلا نابه الذكر أو رجلا خاملا، فإن القانون لا ينظر إلا إلى الفرق بين الجرائم ويعامل الأشخاص كأنهم على أتمّ ما يكون من المساواة» (علم الأخلاق، ج:2، ص73). والأمر كذلك إذا كان المواطنون متفاوتين من حيث القامة، فهذا تفاوت قائم بينهم، إلا أنه يعني الخياط الذي كُلّف بخياطة ملابسهم، فليس من العدل أن يخيط الثوب القصير للرجل الطويل، كما ليس من العدل أن يخيط ثيابا بمقاسات موحّدة لجميع زبائنه وفيهم قصير القامة وطويلها.

وعلى الرغم من هذا، فإن الدولة، في معظم الحالات، تقوم بمهمة شبيهة بمهمة هذا الخياط البروكستي، فهي، كما الخياط الرديء والكسول، مكلّفة بتفصيل مجموعة من الحقوق المتماثلة لتتناسب مع مجموعة من المواطنين المختلفين. لنفترض أن دولة أقرّت حق التصويت، وهو من أهم الحقوق السياسية، فهل يكون من الواجب أن تفصّل هذا الحق وفق مقاسات موحّدة أم وفق مقاسات متنوعة تبعا لاختلاف المواطنين وتنوعهم؟ وهل سيكون حق التصويت متاحا لكل المواطنين رجالا ونساء دون تمييز؟ وفقا لمبدأ المساواة في الحقوق فإن الرجال والنساء يجب أن يكونوا متساوين في حق التصويت، إلا أن الواقع يحتفظ بأمثلة تخلّ بهذا المبدأ، فالمرأة في كثير من دول العالم كانت محرومة من هذا الحق، وإلى عهد قريب كانت المرأة الكويتية، على سبيل المثال، محرومة من حق التصويت والترشيح حتى مايو/ أيار 2005.

ويُعَدُّ حرمان المرأة من حق التصويت مثالا صارخا على الظلم والتمييز الذي يقع على المرأة، وهو تمييز يخلّ بمبدأ المساواة في الحقوق. ولهذا كان هذا النوع من التمييز مستنكرا على نطاق واسع، إلا أن أحدا لم يستنكر حرمان فئات أخرى من المواطنين من هذا الحق، فهل استنكر أحد، من الليبراليين وغيرهم، حرمان الأطفال، بمن فيهم الطفل الرضيع، من حق التصويت والترشيح؟ كان ينبغي، وفقا لمبدأ الحقوق المتساوية، أن يتساوى جميع المواطنين في هذا الحق بمن فيهم الطفل الرضيع؛ لأنه مواطن مثله كمثل المرأة والرجل الراشدَين، فكان مقتضى العدل - بما هو مساواة في الحقوق - أن يتمتع هذا الطفل بحق التصويت والترشيح. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، إلا أن كل دول العالم لا تتحرّج من حرمان الأطفال من حقهم في التصويت، فهل هذا ظلم وتمييز بحق الأطفال؟ وهل يخلّ هذا التمييز بمبدأ المساواة في الحقوق والمعاملة المتساوية أمام قانون موحّد؟ من المؤكد أن معظم الناس لا يعتبرون حرمان الطفل من التصويت تمييزا ضد الأطفال، إلا أن هذا لا ينفي أن ثمة جهات تتعامل مع هذا الحرمان على أنه تمييز صارخ ضد الأطفال، وتطالب هذه الجهات بأن تبقى الدولة خياطا رديئا وكسولا يخيط أثوابا بمقاسات موحّدة لجميع المواطنين المختلفين بمن فيهم الأطفال. ولهؤلاء حجج قوية ومقنعة، سنعود إلى مناقشتها في الأسبوع المقبل

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2300 - الإثنين 22 ديسمبر 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً