العدد 2314 - الإثنين 05 يناير 2009م الموافق 08 محرم 1430هـ

الدولة والمعاملة المتمايزة العادلة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

سبق لأرسطو، كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق، أن أسس العدل على المساواة بين المتساوين، إلا أن أرسطو نفسه عاد وأخلّ بهذه الصيغة حين ناقش تمايز الأشخاص في مدى إسهامهم في تكوين الدولة، وانتهى إلى أن الفروق ذات الاعتبار فيما يتعلق بالاختصاصات والحقوق السياسية ينبغي أن تتناسب مع حجم إسهام هؤلاء في «تكوين الدولة» (السياسة، ص213). وعلى هذا، سيكون نصيب الأغنياء والأشراف والرجال الأحرار وقواد الجيوش من الحقوق والامتيازات أكبر من نصيب الآخرين لأن إسهامهم في «تكوين الدولة» أكبر من الآخرين، ولذا وجب أن تكون مواطنتهم أعظم؛ لأن «الشريف هو أشد مواطنة حقيقة من السَّفَلة» (ص214). إلا أن الدولة الحديثة تقوم على مبدأ يقع على الضد من ذلك، حيث كل المواطنين شرفاء ومهمون في «تكوين الدولة»، ولهذا وجب أن يتمتع الجميع بحقوق مواطنة متساوية.

وعلى رغم هذه الحقيقة، فإن الثابت أن المواطنة كمطلب أولي ووحيد لا تكفي لتأسيس مبدأ المساواة في الحقوق، لأن الواقع يثبت أن ثمة حقوقا متمايزة لمواطنين مختلفين على أساس الجنس أو العمر أو القدرة (الأصحاء في قبال المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة). رأينا ذلك في حرمان الأطفال من حقهم في التصويت والترشيح، وفي تخفيف العقوبات على الأطفال والمرضى. ويمكن رؤية ذلك في حقوق العمال المتمايزة على أساس الجنس، لنأخذ «قانون العمل في القطاع الأهلي» في البحرين، فالعمل حق للمرأة والرجل، إلا أن للمرأة استثناءات بحيث «لا يجوز تشغيل النساء ليلا فيما بين الساعة الثامنة مساء والسابعة صباحا، ويستثنى من ذلك دور العـلاج والمنشآت الأخرى التي يصدر بشأن العمل بها قرار من وزير العمل والشئون الاجتماعية» (مادة - 59)، كما «يحظر تشغيل النساء في الصناعات أو المهن الخطرة والمضرة بصحتهن وصحة الجنين التي يصدر بها قرار من وزير الصحة بالاتفاق مع وزير العمل والشئون الاجتماعية» (مادة - 60). وهناك تمايز بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بحق التقاعد عن العمل، فهذا حق للعامل سواء كان رجلا أو امرأة، وكان ينبغي أن يتمتع الاثنان بهذا الحق على قدم المساواة دون تمييز بينهم على أساس الجنس، إلا أن الحاصل أن معظم الأنظمة الاجتماعية تحيل المرأة على التقاعد وترك العمل في سن أبكر من الرجل، فنظام التقاعد في دولة مثل البحرين يحيل المرأة على التقاعد حين تبلغ سن الخامسة والخمسين، في حين يحال الرجل على التقاعد إذا بلغ سن الستين، أليس هذا تمايز قائم على أساس الجنس؟

ولنفترض أن دولة أقرت نظام التجنيد الإجباري على مواطنيها، ألن تكون هذه الدولة مضطرة لاستثناء العاجزين من المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة من هذه الخدمة الإلزامية، حتى لو كان هذا الاستثناء يعدّ إخلالا بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات؟ بل إن تطبيق هذا المبدأ في هذه الحالة سيكون ظالما بحق المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة. فكيف يمكن حلّ هذه المسألة؟

يكمن الحل، من منظور التعددية الثقافية، في الاعتراف بالمعاملة المتمايزة العادلة، وفي وجود ترتيبات سياسية وقانونية وخصوصا لأبناء كل دين أو لكل جماعة ثقافية. وتقوم حجة التعددية الثقافية في هذه المطالبة على مبدأ أن العدالة لا تتطابق مع المساواة بالضرورة؛ إذ إن المعاملة المتساوية قد تكون عادلة بحق بعض المواطنين وظالمة بحق آخرين. ولنفترض أن دولة أقرت قانونا مثل «قانون الحشمة»، ونص القانون في أحد بنوده على فرض الحجاب على جميع النساء البالغات في الأماكن العامة، أليس تطبيق مبدأ المعاملة المتساوية أمام قانون كهذا سيكون ظالما بحق غير المسلمات والعلمانيات من المسلمات؟ ألن تنتهي المعاملة المتساوية عندئذٍ لتصبح «معاملة ظالمة» أي غير عادلة؟

هناك من ينتقد هذا التوجّه، بحجة أنه يؤسس لمواطنة منقسمة ولحقوق متمايزة. ومن بين هؤلاء بريان باري، المفكر البريطاني، الذي يرى أن الحل يكمن في المعاملة المتساوية أمام قانون عام موحد. ولا يشك باري نفسه في أن أي قانون عام سيكون ذا أهمية مختلفة بالنسبة إلى أناس مختلفين، إلا أنه لا يرى أي ظلم في هذا الاختلاف؛ والسبب أن «جوهر القانون يكمن في حماية بعض المصالح على حساب مصالح أخرى حين تتعارض. ولهذا فإن مصلحة النساء اللائي لا يرغبن في أن يكن مغتصبات تعطى الأولوية على حساب مصالح المغتصبين المحتملين في صياغة قانون يمنع الاغتصاب. وبالمثل، فإن مصلحة الأطفال في ألا يتعرضوا لاعتداء جنسي تكون لها الأولوية على حساب مصلحة أولئك الذين يرغبون في ممارسة الجنس مع الأطفال» (Culture & Equality, p.34). المسألة إذن ليست مسألة معاملة متساوية عادلة أمام قانون موحد بقدر ما هي مسألة ترجيح مصالح معينة حين تتعارض مع مصالح أخرى.

إلا أني أتصور أن المسألة لا يمكن اختزالها في كونها مجرد ترجيح مجموعة من المصالح تبدو وكأنها مصالح متعادلة من حيث المستوى والأهمية. وإذا أردنا النقاش حول هذه المسألة بلغة المصالح والأولويات فإن علينا أن نتنبه إلى أن ثمة مصالح غير متعادلة، وأن التغليب ينبغي أن يكون لمصلحة عليا على حساب مصلحة من مستوى أدنى. وبتعبير جون لوك فـ»إن الخير العام هو معيار التشريع» (رسالة في التسامح، ص44)، وبتعبير جان جاك روسو فإن «الخير الأقصى للجميع هو] الذي ينبغي أن يكون غاية كل نظام تشريعي» (في العقد الاجتماعي، ص61). وإذا كان الخير العام والأقصى يمثل مصلحة عامة فإنه يضع، في الوقت ذاته، معايير للتشريع يعتمد عليها حين تتعارض المصالح الخاصة داخل المجتمع. ومن هنا يجب تغليب الخير العام على الخير الخاص وعلى الضرر عموما وعلى مصالح أخرى من مستوى أدنى. وبهذا المعنى فإن المسألة ليست ترجيح بين مصالح فئات مختلفة من المواطنين، بل هو ترجيح من أجل مصالح عامة للجميع. ومن هذا المنطلق فإن العبرة في سن قانون يمنع الاغتصاب لا تكمن في تغليب مصلحة النساء اللائي لا يرغبن في الاغتصاب على حساب مصلحة المغتصبين المحتملين، بل تكمن في تغليب الخير العام المتمثل في حق الأفراد في أن يأمنوا على أنفسهم ضد أي اعتداء جسدي أو نفسي، والأمر لا يختلف مع قانون منع الاعتداء الجنسي على الأطفال. وهاتان الحالتان لا تختلفان عن قانون منع القتل والسرقة، فالعبرة هنا لا تكمن في ترجيح مصلحة الناس الذين لا يحبون الموت قتلا ولا يرغبون في أن يتعرضوا للسرقة على حساب مصلحة أولئك القتلة المأجورين واللصوص المحترفين، بل ثمة مصلحة عامة في تجريم القتل والسرقة. فإذا افتراضنا أن ثمة رجلا قرر الانتحار وبلغ به الهوس بمشاهدة المسلسلات التاريخية العربية حدّ الرغبة في الموت بحد السيف، واستأجر أحد السيّافين من أجل أن يضرب عنقه ويحقق رغبته، فأي مصلحة عندئذ ستكون لها الأولوية في قانون منع القتل؟ هل سيجري ترجيح مصلحة المقتول الذي كان راغبا في القتل أم مصلحة السيّاف المأجور؟ طبعا لا هذا ولا ذاك، لأن المسألة ليست مجموعة مصالح متعارضة لمواطنين مختلفين، وأن علينا أن نغلّب إحداها على حساب الأخرى، بل ثمة مصلحة عليا هي تحقيق الخير العام والصالح العام للجميع. ولهذا لا يجوز التذرع بتغليب مصلحة مجموعة من المواطنين على حساب الآخرين فيما يتعلق بقانون عام مثل «قانون الحشمة» أو ضديده المقابل: قانون منع الرموز الدينية في المدارس العامة في فرنسا، وحظر ارتداء الحجاب في الجامعات في تركيا؛ والسبب أن القانون لا ينبغي أن يقوم على الترجيح بين مصالح المواطنين أنفسهم، بل على ترجيح ثابت للمصلحة الأهم من بين المصالح العامة غير المتوافقة، أو على التسوية بينها. وبانعدام المصلحة العامة في مثل هذه القوانين والتشريعات تسقط مبررات وجودها؛ إذ لا مصلحة عامة في تغليب مصلحة العلمانيين الذين يمقتون الحجاب بصورة مَرَضية، ولا في تغليب مصلحة الإسلاميين ممن ينظرون إلى نزع الحجاب على أنه ضرب من الفجور والفسوق غير المحتمل على قلب «المتديّن». ومن الثابت أن مصالح هذين الطرفين الراديكاليين ستكون متعارضة حين يجدون أنفسهم في مجتمع واحد، ولكن من قال إن على الدولة أن تقوم بترجيح مصلحة طرف على حساب الآخر؟ بالطبع هذه ستكون هي رغبة كلا الطرفين، إلا أن الدولة ليست ملزمة إلا بالمصلحة العامة أو الخير العام، وحين تتعارض المصالح العامة فإنها ستجد نفسها مضطرة إلى التسوية بينها أو ترجيح إحداها على الأخرى، كما يحدث حين تجد الدولة نفسها معرّضة لهجمات إرهابية وشيكة، وأن الإرهابيين سيتلقون إشارة بدء التنفيذ عبر اتصال هاتفي. في هذه الحالة ستجد الدولة نفسها مضطرة إلى الترجيح بين مصلحة الأمن والسلامة العامة، وبين مصلحة حرية التعبير والحق في خصوصية المكالمات الهاتفية على سبيل المثال

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2314 - الإثنين 05 يناير 2009م الموافق 08 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً