العدد 2318 - الجمعة 09 يناير 2009م الموافق 12 محرم 1430هـ

مبدأ المساواة: كيف تَشكَّل في الوعي السياسي؟

مصباح الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع مصباح الحرية

ممّا لا شك فيه أن مبدأ المساواة بين البشر، على اختلاف انتماءاتهم العقديّة والفكرية والسياسية، قد تشكّلَ عبرَ آلاف السنين بل ولا يزال في طور التشكُّل حتى الآن. ولعلّ مرورَهُ بتلك الحُقب الزمنيّة المديدة قد ساهم بدوره في غموضه للدَّرجة التي أصبح فيها من الصعوبة بمكان الوقوف على معناه وفهم طبيعته. وآية ذلك، أن ما نفهمهُ اليوم من عبارة «المساواة» يختلف اختلافا كبيرا عمَّا كانت تَعْكسهُ من معنى لأيٍّ من مُواطني أثينا إبّانَ عهد بيركليز، على سبيل المثال.بل لعلَّنا نُفاجأ إذا ما علمنا أن أرسطُو لم يجد أدنى غضاضة في أنْ يصرّح في كتابه «السيّاسة» بأنَّ الفطرة هي التي أرادت أن يكون البرابِرة عبيدا لليونان، وأنَّ الآلهة قد خلقت نوعين من البشر: نوع رفيع المقام زوّدَتهُ بالإرادة والعقل، وهم اليونان بطبيعة الحال، وآخر لمْ تزوّده إلا بالقوةِ الجسمانية فقط، وهم غير اليونانيين!

أمَّا في الجزيرةِ العربيَّة، في حُقبة ما قبل الإسلام، فكانت الغلبة هي المعيّار الوحيد لتحقيق السيادة ومنْ ثَمَّ لتحديدِ مَنْ هُمُ الأحرارُ ومَنْ يكون العبيد، ولدرجة أنَّ بعض جبابرة العرب كانوا يقيسونَ عزَّهُم بإذلالِهم للآخرين!

ومع أن الإسلام أقرَّ المساواة بين الناس بعدم تقرير التمايز بين البشر لأيِّ سبب كان؛ إلا أنَّ الواقع التطبيقي لمبادئه (وخاصة في المراحل المتاخرة) كانت أبعد ما تكون عن ذلك بحيث أدَّت، فيما أدَّت، إلى إحداث نوع من العلاقات غير المتوازنة على مُستوى كُلٍّ من: توزيع السلطة، واختزال العلاقات الاجتماعية فى نمطٍ ثُنائِيٍّ من السيادة والتبعية، ما أدى إلى تهْميشِ القُوى الفاعلة في عملية الإنتاج، والمشاركة السياسية... إلخ.

صحيح أنَّ الإسلام قد بسط لشعوب القرنيْن السابع والثامن حياة أكثَر مساواة وحرية وأمنا من أي عَصْر مضى، وأنه في كثير من الأحيان حدث التحوّل الإرادي من قبل شعوب الأرض للإسلام نتيجة للخدمات الكبرى التي قدَّمها المسلمون أنفسهم دينيَّا وإداريا وتعليميا؛ إلا أنَّ الخيّارات التي كانت متاحة لشعوب المناطق التي غزتها الإمبراطوريات الإسلامية لم تكُن تَصُّبُ في اتجَاهِ المُساوّاةِ وتحقيق الحُريَّة الدينيَّة، وهي «الدخول في الإسلام - دفعُ الجِزْيَة - القتال».

أضف إلى ذلك انتشار الفهم المغلوط لدى معظم المسلمين بأن محلّ التفاضل بالتقوى، كما هو منصوص عليه في الآية الكريمة «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات: آية 13)، في الحياة الدُّنيا! ما يكونُ له أثر سلبي في آلياتِ تطبيقِ القانون على المواطنينَ، أو في إعْمَالِ مبدأ المواطنة الكاملة والمساواة التامة بينهم في تولي المناصب والترقي... إلخ. بينما المقصود بأنَّ محل التفاضل بالتقوى لا يكون إلا في الآخرة أمام الله، وليس في الحياة الدُّنيا.

أمّا في أوروبا العصور الوسطى، فقد ظلَّ لورداتُ وباروناتُ الأراضي يتمتعونَ حتى القرن الرابع عشر بـ «حق الليلّة الأولى»!، أي قضاؤها مع كل عروس يعقد عليها أحدُ «الأقنَان» ممّنْ يقومون بزراعة الأراضي وتنتقل تبعيتهم معها في حالات البيع والشراء!

وفيما يتعلق بالمساواة في الحقوق السياسية، فمن المعلوم أن اليونانيين قد بدأوا باستخدام عبارة «Demokratia» بحدود منتصف القرن الخامس قبل الميلاد للدّلالَة على «حكمِّ الشَّعب». فهل كان ذلك يعني اشتراك جميع طوائف وطبقات الشعب في الحكم؟، «لا» بطبيعة الحال.

أمّا في ظلِّ شريعةِ رُوما التي سادت لفترات طويلة من التاريخ، فكان الناس يقسمون إلى أحرار وغير أحرار، والصنف الأول يقسم إلى طبقتين: أحرار أصلاء هم الرومان، وأحرار غير أُصَلاء هُمُ اللاتين. أما غير الأحرار فكانوا أنواعا أربعة: الأرقّاء، والمُعْتّقون، وأنْصاف الأحرار، والأقْنَان التابعون للأرض!

وفي كل الأحوال، لم يكُن «الديموس» يضم إلا عددا يسيرا منَ السكان البالغين في أثينا، حتَّى في أوج ازدهار الديمقراطية بها. وواقع الأمر، أنها لم تكن فريدة في هذا الإطار فعلى الدوام هناك من يتمُّ استثناؤهم من العمليَّةِ السياسية برمتها.

ويذكر روبرت دال في كتابه «Democracy and its Critics» أنه حتى حلول القرن العشرين، عندما حصلت النساء أخيرا على حقِّ الانتخاب، كان عددُ اللاتي يتم استثناؤهن يزيد كثيرا يوما بعد يوم عن عدد المشاركات. أمّا على مستوى الفكر العربي المعاصر، فإنّنا نُلاحظ ابتداء من رفاعة الطهطاوي في كتابه «تخليصُ الإبريز في تلخيص باريز» اهتماما متزايدا بمسألة المساواة في الإسلام حيث أعلن صراحة أن مفاهيم فرنسية مثل الدستور والجُمهوريَّة والحريَّة تُرادِفُهَا في المجال الإسلامي قيم العدل والإنصاف والشورى والمساواة.

وفي السياق ذاته، يكثُر الحديث اليوم عن مقاصِد الشريعة وتطبيقاتها العملية المتعلقة بمصالح العباد، وعلى رأسها تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس. لكن يبقى الخطاب العربي في عمومه، سياسيّا كان أو دينيّا، بعيدا كلّ البعد عن الاجتهادات العالميّة الخاصّة بنظرياتِ المساواة والجدال الذي يتسع حولَها يوما بعد يوم، مُحْتفِظا بتحليقه في فوضى اليوتوبيا.

وبحسب ما يؤكد نُوح الهَرْمُوزي في مقاله «قراءة لنظريَّات المساواة والعدالة الاجتماعية»، فإنَّهُ بالإمكان حصر أهمّ هذه النظريات إجمالا في مذهبين رئيسين يتحدَّدان وفْق رؤيتهما للمعيار الأنسب الخاص بقياس العدالة وهما: مذهب العدالة التوزيعيَّة، ومذهب العدالة الإجرائيّة أو التاريخية.

ففيما تعْتَمد المدرسة الأولى في قياس العدالة على وضعيَّة النتائج النهائية للأفراد، أي التساؤُل عمَّن يملُك وليس عن كيفية حصوله على ما في يده، تأخُذ مدرسة العدالة الإجرائيَّة مُجْمل الظُروف الزمنية التي ساهمتْ في الوصول إلى تلك النتيجة في الاعتبار. وبالتالي، فإنَّها تُولي اهتماما بالغا بآليَّة الحُصول على الثروات والمُدَّخرات والمُمتلكات، وليس فقط بوضعية نتائجها الِهائية.

يترتَّبُ على ذلكَ أيضا، أنَّهُ فيما تَعْني العدَّالَة لدى الفريق الأول المُساواة في النتائِج، ينحو الفريق الثاني نحو تحديدها بعدالة القواعد والإجراءات المؤدية إلى حيازة الثروة، وبما يضمن أخذ الفروق الفردِّية بين المواطنين/ المتنافسين في الاعتبار.

وختاما يبقى القُول، إن ثمة هوة سحيقة تفصل ما بين نظريات المساواة والعدالة الاجتماعية وبين تحققها على أرض الواقع. وأبسط دليل على ذلك أنه رغم مرور ستين عاما على اعتماد «الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان»، والذي ينص في مادته الأولى على أنَّهُ «يولد جميع الناس أحرارا ومُتساوينَ في الكرامة والحقوق»؛ إلا أنَّ اتساع دائرة الانتهاكات وارتفاع وتيرتها في مُعظم أرجاءِ العالَم يجعل منها مُجرَد «حِبْر على ورق»، فضْلا عن اتبّاع المَعايير المزدوجة في تطبيقها من قبل الدُّول العُظمى، ولعلّ في الانتهاكاتِ الإسرائيليَّة الأخيرة أبلَغ دليل على ذلك.

* باحث وكاتب مصري،

والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع مصباح الحرية»

www.misbahalhurriyya.org

إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"

العدد 2318 - الجمعة 09 يناير 2009م الموافق 12 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً