العدد 2321 - الإثنين 12 يناير 2009م الموافق 15 محرم 1430هـ

هل لحيادية الدولة حدود؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

انتهينا، في مقالة الأسبوع الماضي، إلى أن معيار التشريع ينبغي أن يرتكز على الخير العام أو المصلحة العامة، وليس على الترجيح بين مصالح فئات معينة من المواطنين داخل الدولة. إلا أن الحديث عن المصلحة العامة لا يخلو من تضليل؛ لأنه يوهم أن هناك مصلحة عامة واحدة فقط، في حين أن هناك مجموعة من المصالح العامة غير المتوافقة، وهذا يعني ضرورة الترجيح أو التسوية بينها في الحياة الاجتماعية والتشريع القانوني ورسم السياسات العامة.

إلا أن الحديث عن مصالح عامة غير متوافقة يعني انهيار مفهوم «الكلية الليبرالية» و»المساواة المجردة»؛ لأن الحرية من حيث هي قيمة ومصلحة عامة قد تتعارض مع المساواة بوصفها قيمة ومصلحة عامة كذلك، كما أنها قد تتعارض مع قيمة الأمن والسلامة العامة للدولة أو للمجتمع. وهذا ما حمل جون جراي، المفكر البريطاني ما بعد الليبرالي، على الاستنتاج بأن الفرضية الليبرالية التي تقول «بأنه يحق للبشر كافة الحصول على نفس النوع من الحقوق والاستحقاقات فرضية خاطئة» (ما بعد الليبرالية، ص467)؛ لأن هناك الكثير من «أشكال الازدهار البشري التي تعتمد على التفاوتات»، أو على التمايزات تماما كتلك التمايزات التي ينطوي عليها قانون الانتخاب الذي يحرم الأطفال من التصويت، أو قوانين العمل التي تحظر تشغيل الأطفال حتى سن معينة، أو أنظمة التقاعد التي تنطوي على معاملة تمايزية بين الرجال والنساء وهكذا.

تتطلب المساواة المجردة الحياد التام من قبل الدولة تجاه المفاهيم المتعددة للخير وأساليب الحياة المختلفة. وهذه «المساواة الراديكالية» هي التي يتبناها «الليبراليون الجدد». وبحسب هذا النوع من المساواة فإنه «من الخطأ أن تمارس الحكومة التمييز لصالح أو ضد أية صيغة من صيغ الحياة المفعمة بفكرة واضحة عن الخير»؛ وذلك لأن «سياسة كهذه تخرق نموذج المساواة الذي يتطلب احتراما متساويا من قبل الحكومة لكل الأفكار المتشعبة عن الخير وطريقة الحياة التي تجسدها» (The Failings of Neutrality, p.23). وهذا يعني أن على الدولة أن تتعامل مع كل أساليب الحياة بحيادية كاملة، الأمر الذي يعني أن «طريقة حياة المدخّن، والمدمن على الكحول، والمتفاني في شهواته حتى على حساب صحته، لا ينبغي أن تسلب الامتياز أو تُمنى بعدم التفضيل أو يمارس التمييز ضدها من قبل سياسات الحكومة» (p.23).

وبحسب هذا النوع من الحيادية التامة من قبل الدولة، ستكون كل القوانين التي تحظر التدخين في الأماكن العامة قوانين خاطئة لأنها تخرق «حيادية الدولة» تجاه أساليب الحياة التي يختارها الأفراد. وهذا يعني، كذلك، عدم الحاجة إلى تجريم القتل لا لشيء سوى أن هناك مجرمين يسترزقون من وراء القتل المأجور أو هم يتلذذون بقتل الأبرياء! وبمنطق الحياد التام فإن على الدولة أن تحترم رغبة هؤلاء القتلة وتقدر حاجتهم إلى المال، وذلك على قدم المساواة مع رغبة الأبرياء في الحياة وعدم الموت قتلا. يضع جون جراي هذا المفهوم الليبرالي عن «حيادية المساواة الراديكالية» في قبال المفهوم الكلاسيكي عن «التسامح»، وهو مفهوم يزعج الليبرالية الجديدة؛ والسبب أنه لا يقوم على الحياد التام، بل يقوم على حقيقة أن المجتمع يضم العديد من الرؤى الأخلاقية وأساليب الحياة المتنوعة وغير المتوافقة، إلا أن هذا لا يعني أن كل هذه الرؤى والأساليب جيدة وخيرة بقدر متساوٍ، بل ثمة فكرة واضحة ومعينة حول الخير، وهذه الفكرة هي التي تسمح بالترجيح بين هذه الرؤى والأساليب الجيدة والرديئة.

ليس معنى هذا أن المساواة الكلية أصبحت من المفاهيم البالية، وأن لا حاجة بنا إليها بعد اليوم، وحتى جون جراي لا يذهب إلى هذا الرأي المتطرف، ولكنه يرسم حدودا لقوة هذا المفهوم الليبرالي، حيث تقف هذه القوة عند الحد الأدنى من الحقوق الأساسية التي تتعرض عادة للانتهاك في الأنظمة الشمولية والتسلطية، وبتعبير جراي نفسه فإن هذا المفهوم سوف تكون له «قوة فقط فيما يخص الحد الأدنى من مضمون الأخلاق الذي يحدد القيم الليبرالية بشكل كبير ويقاومه الكثير من المجتمعات والأنظمة الحاكمة غير الليبرالية التي لا تعترف بالصفات الأساسية للحرية وغير ذلك» (ما بعد الليبرالية، ص467).

وتقوم التعددية الثقافية على انهيار هذا النوع من الكلية والمساواة الراديكالية المجردة، فإذا كانت الدول والمجتمعات لا تتحرج من الممارسات القانونية والسياسية المتمايزة على أساس العمر والجنس، فلماذا لا يكون هناك ممارسات متمايزة على أساس الثقافة والمعتقد الديني؟ وإذا كان الناس مختلفين من حيث العمر والجنس، فإنهم مختلفون كذلك من حيث الثقافة والدين، والحكمة التي أجازت الممارسات التمايزية الأولى ينبغي تعميم خيرها من أجل إجازة الممارسات التمايزية على أساس الثقافة والدين. وهذا هو المطلب الأساسي في التعددية الثقافية.

ويجادل بيخو باريخ، على سبيل المثال، بأن «إعطاء الناس معاملة خاصة على أساس اعتقاداتهم، هو شبيه بحالة اثنين يتمتعان بحق الرعاية الطبية المتساوية، إلا أنهما يحصلان على معاملة مختلفة بناء على طبيعة مرضهم». وهنا يضيف باريخ عنصرا جديدا إلى النقاش الذي يدور حول العدالة والمعاملة المتساوية. وبحسب باريخ فإن المعاملة المتساوية تقتضي أن نضع حاجات الناس المختلفة في الحسبان، «ففي المجتمع متعدد الثقافات توجد جماعات مختلفة ولها حاجات مختلفة، وبعضها قد يكون، وبصورة بنيوية، محروما ويفتقد إلى المهارة والثقة للمشاركة في التيار الرئيسي في المجتمع لينتفع بفرصه» المتاحة. وبالعودة إلى تقرير «مستقبل بريطانيا كدولة متعددة الأعراق»، سنجد أن بيخو باريخ يعيد التشديد على مبدأ أن «لدى المواطنين حاجات مختلفة، وأن المعاملة المتساوية تتطلب أن نأخذ اختلافاتهم في الحسبان الكامل. وحين تتجاهل المساواة هذه الاختلافات الجلية وتشدّد على المعاملة الموحّدة، فإنها تقود إلى الظلم وعدم المساواة. وفي المقابل، حين تتجاهل الاختلافات مطالب المساواة فإن التمييز يكون هو النتيجة. فالمساواة ينبغي تعريفها بطريقة حساسة ثقافيا، كما ينبغي تطبيقها بصورة متمايزة discriminating لا تمييزية discriminatory». ومن هنا سيكون على الدولة أن تقوم بـ»الموازنة بين الحاجة إلى معاملة الناس بصورة متساوية، والحاجة إلى معاملتهم بصورة مختلفة»، كما أن على الدولة أن تعتمد مقاييس متمايزة لحقوق الجماعات، وتطبيقات سياسية وقانونية متمايزة على أساس ثقافي، وبرامج متنوعة لدعم الأقليات، ومن بينها برامج «التمييز الإيجابي».

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2321 - الإثنين 12 يناير 2009م الموافق 15 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً