العدد 2331 - الخميس 22 يناير 2009م الموافق 25 محرم 1430هـ

الإسلام والمسيحية في القرن 21: دعوة للتأمل والحوار والتعايش

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

العام الجديد عادة يمثل مناسبة مهمة للتأمل والتفكير، ولعل من أكبر القضايا التي تستحق ذلك في هذه اللحظة العلاقة بين الإسلام والمسيحية وانعكاسات ذلك على المجتمعات وعلى السياسة الدولية.

ويمثل اتباع كل من الإسلام والمسيحية أكبر الأعداد البشرية لأتباع أي دين آخر. كما أنهم يمتازون بامتدادهم أو تواجدهم عبر القارات والحضارات، ويشترك الإسلام والمسيحية في عدة خصائص منها:

الأولى: إنهما دينان يقومان على مفهوم التبشير بمعنى السعي لتحويل الآخرين لاعتناق الدين. ولعل ذلك يفسر كثرة أتباع كل من هذين الدينين وانتشارهم عبر القارات والحضارات. كما أنه يفسر الاختلاف الكبير لدى كل من هذين الدينين من حيث التفسير والمعتقد، ولعلنا نشير إلى اختلاف الكاثوليك ولابروتستانت والآرثوذكس بالنسبة للمسيحية واختلاف السنة والشيعة بالنسبة للإسلام بل وانقسام كل فريق كبير إلى عدة فرق صغيرة ومتناثرة وأحيانا متنافرة. ولهذا قامت بين تلك الفرق الحروب، ولعل حروب الكاثوليك والبروتستانت وحروب السنة والشيعة من أشهر تلك الحروب. وحروب الأديان ليست قاصرة على داخل كل دين بل هي أيضا ممتدة بين أنصار كل دين، ولعل أشهرها حروب الفتوح الإسلامية والحروب الصليبية.

الثانية: إن كل دين من هذين الدينين: الإسلام والمسيحية يستمد أصوله من عقيدة واحدة ومصدر واحد هو الله سبحانه وتعالى، وعقيدة التوحيد به، مع اختلاف في تفسير معنى التوحيد لدى أنصار كل دين نتيجة لما تعرض له أتباعه من اضطهاد من ناحية، وصراع داخلي من ناحية أخرى، وانتشار في مناطق وحضارات عدة تأثر بثقافاتها وحضاراتها من ناحية ثالثة.

الثالثة: أن كلا من الإسلام والمسيحية يعتقد أنصاره ودعاته أنه دين الحق الذي جاء ليتمم وليصحح الدين الإلهي الذي سبقه. فالمسيحية خرجت من رحم اليهودية وكان المسيح عليه السلام راهبا من رهبان اليهود، ثم اختط لنفسه عقيدة جديدة في ضوء ما لمسه من انحراف اليهود عن تعاليم الله، ومن ثم ناصبه اليهود العداء، واضطهدوه وأتباعه، وتآمروا ضده مع الحكام الرومان. والإسلام جاء بعقيدة جديدة بالنسبة لمعتنقي مبدأ التوحيد مثل اليهودية والمسيحية، بل إنه جاء ليتمم الدين، ويكون الدين كله لله، ويصحح ما انحرفت إليه اليهودية والمسيحية بفعل أهواء بعض أنصارها وبفعل تقادم الزمن، ومن ثم يعيدهما إلى نقاوتهما الأولى كما كانتا في عهد موسى وعيسى. ومن ثم تعاطف معه اليهود والنصارى نسبيا في البداية، ضد عبدة الأوثان من العرب ولكن سرعان ما ناصبوه العداء وتآمروا ضده وكان اليهود - بتعبير القرآن الكريم- أشدهم عداوة، في حين كان النصارى - المسيحيون- أقربهم مودة لأن فيهم قسيسين ورهبان وأنهم لا يستكبرون.

الرابعة: أن كلا من الإسلام والمسيحية اعتقد بسمو تعاليمه على ما سبقه من العقائد والأديان، ومن ثم طالب أنصار تلك العقائد بالتخلي عنها واعتناق عقيدته. واستمر هذا المنطق حتى الآن حيث برزت مجددا دعوات التبشير المسيحي. كذلك دعوات التبشير الإسلامي، وبرزت طوائف معينة في نشاطها التبشيري في كل من الديانتين.

محصلة ما سبق هو ظواهر جديدة قديمة بالغة الخطورة

الظاهرة الأولى: هي حدوث صراع لم يتوقف عبر القرون، وغذت هذا الصراع عوامل ومشاعر دينية، كما غذته بدرجة أكبر دوافع مصلحية واقتصادية. ولن نتطرق للحروب الصليبية وأسبابها وإنما يكفي أن نقول إن حرب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ضد الإرهاب ليست إلا حربا صليبية جديدة. كما انزلق هو نفسه باستخدام التعبير في أول خطاب له بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. كما أن ابن لادن والقاعدة انزلق في نفس المنزلق بالدعاوى المتكررة التي صدرت وتصدر عنهم ضد الصليبيين واليهود وأشباههم. ولن نقول كثيرا على ذوي الاتجاهات المتطرفة من الجانبين، ولكن الأخطر هو ذوي الاتجاهات المعتدلة حيث يسود الفكر الإسلامي مفهومان هما: مفهوم أهل الذمة، ومفهوم دار الحرب ودار السلام. وكلاهما يرتبط بالسمات التي سبق وأشرنا إليها. وفي نفس الوقت ساد الفكر المسيحي الغربي مفهومان مماثلان هما نشر المسيحية ونشر الحضارة، وأدى ذلك لنشأة الظاهرة الاستعمارية والتي لعب فيها كل من السيف والكتاب المقدس دورا بارزا، وأدى ذلك إلى تعميق الهوة بين الشعوب وبخاصة بين المسلمين والمسيحيين.

الظاهرة الثانية: هي طرح مفاهيم حديثة في السياسة الدولية وفي العلوم السياسية اعتبرت مفاهيم ترتبط بالغرب وبالمسيحية، وأن هدفها الأساسي النيل من الإسلام والمسلمين. وفي مقدمة تلك المفاهيم موضوعات حقوق الإنسان وحريات الأساسية وسياسات ومشروعات عملية من بينها ضرورة التغيير الثقافي لمنطقة الشرق الأوسط، ومشروع الشرق الأوسط الجديد، والربط بين الإسلام والإرهاب، والإسلام والحض على كراهية الآخر ونحو ذلك.

الظاهرة الثالثة: هي الانحياز الغربي المسيحي لإسرائيل ليس فقط لوجود جذور مشتركة للحضارة الغربية، تعتمد على الجذور المسيحية اليهودية المتمثلة في العهدين القديم والجديد بل وأيضا كوسيلة للتكفير عما ارتكبته أوروبا المسيحية من اضطهاد لليهود بلغ ذروته في عهد النازية. ولقد تجاوزت عقدة الذنب هذه الحدود المنطقية لدى المجتمع الأوربي حيث أصبح لا يقبل أي إعادة تفسير أو نظر أو تحقيق في مسائل معاداة السامية أو المحرقة التي تعرض لها اليهود في اوروبا، بل إن العقلانية الفكرية الأوروبية والأميركية تكاد تكون قد تجمدت وتحولت إلى آلة صماء بلا عقل في أي شيء يخص اليهود ومعاناتهم، وأي شيء يفعله اليهود في «إسرائيل» ضد الفلسطينين ومعاناتهم المستمرة والواضحة. وبلغ الأمر ذروته في التقارير التي تصدرها وزارة الخارجية الأميركية حول معاداة السامية، وحول إصرار السياسة الأميركية على الربط بين التعاون الاقتصادي مع الدول الأخرى وبين انفتاح تلك الدول على «إسرائيل» وعدم توجيه أي نقد لها، وإحداث شلل في مجلس الأمن الدولي تجاه أي قضية تمثل إدانة أو نقدا لسياسة «إسرائيل» مهما كانت هذه السياسة رغم المجازر التي ترتكبها ضد الفلسطينين في غزة وفي غيرها من المدن الفلسطينية.

الظاهرة الرابعة : والأكثر خطورة وهي بروز الاتجاهات الدينية المتشددة في المسيحية، سواء في أنصار المسيحية المتصهينة في أميركا، أو في الكاثوليكية المحافظة كما في مواقف الباب بندكت السادس عشر وخطابه في جامعة ريجنسبرج بألمانيا في 12 سبتمبر/ أيلول 2006، ضد الإسلام ونبيه، كذلك في كلمات وخطب لكثير من القساوسة في أوروبا والولايات المتحدة. ونقول إن هذه الظاهرة هي الأشد خطورة لأن المفاهيم الدينية لكونها مرتبطة بالمشاعر والوجدان، ومن ثم فهي تجد آذانا صاغية وقلوبا وعقولا متفتحة لها مغلقة ضد غيرها. وهذه الحالة العجيبة تظهر وتتعمق في عصر يدعو لأعمال العقل والمنطق ولاحترام التنوع والديمقراطية وحقوق الإنسان. ونجد مواقف متشابهة في بعض الدعوات الإسلامية المتشددة ضد أتباع الديانات الأخرى رغم أن الإسلام الصحيح يدعو للتسامح والاعتدال والاعتراف بالآخر واحترامه.

السؤال الذي نطرحه، ما العمل؟

لا شك أننا نعيش في كوكب واحد ونواجه جميعا - بغض النظر عن الأديان والعقائد والمذاهب - مصيرا واحدا يتسم بخطر داهم ومحدق، لعل من مظاهره مسائل مثل: ثقب الأوزون، البيئة، التلوث، الحروب، اللاجئين، المخدرات والأزمات المالية والاقتصادية الراهنة، وهذه المسائل أصبحت عابرة القارات والحدود ولا تتوقف عند حدود دولة واحدة أو قارة بعينها، أضف لما سبق قضايا المجاعات ونقص الغذاء والأمراض الفتاكة والتي منها مرض الايدز وغيره من الأوبئة.

ومع هذا، فإن العقل البشري لدى البعض لا يزال يعيش في أوهام السيطرة على الآخر وإخضاعه وتغيير قيمه ومبادئه ويرفض عمليا المبدأ الذي ينادي به نظريا وهو مبدأ التنوع والتعدد ومبدأ احترام الخصائص الحضارية والثقافية للشعوب الآخرى.

وبما أن أكثر الأديان عنفا وصلابة في مواقفها تجاه الآخر هما المسيحية والإسلام، ونقول إنهما أكثر عنفا وصلابة من حيث السلوك الفعلي لبعض أتباعهما وإن لم يكن من حيث أصولهما الفكرية، فالأصل الفكري للمسيحية متمثلا في قول السيد المسيح عليه السلام (من ضربك على خدك الأيسر أدر له خدك الأيمن). أليس هذا قمة التسامح. والأصل الفكري في الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة المشركين (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وإن الإسلام هو دين السلام، وقول الله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) سورة: الكافرون، الآية: 6 أليس ذلك هو في قمة التسامح وقمة الاعتراف بالآخر المختلف فكرا وسلوكا وشكلا، وجعل ذلك الاختلاف آية من آيات الله لقوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين) سورة: الروم الآية 22 وكذلك قوله (لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) سورة: هود، الآية: 118.

إذن ما هو العمل اليوم في القرن الحادي والعشرين؟ نقول إن المنطق يقتضي إيجاد قاعدة مشتركة صلبة للتسامح بين الأديان جميعا سواء كانت سماوية أو غير سماوية، ولكن نقطة البداية هي التسامح بين الإسلام والمسيحية أو بالأحرى التصالح بينهما للأسباب السابق ذكرها في بداية هذا التحليل.

ونضيف أنه إذا كانت المسيحية تسامحت وتصالحت مع اليهودية رغم الاتهام التقليدي في المسيحية بأن اليهود تآمروا على السيد المسيح وساعدوا في صلبه بواسطة الرومان، ورغم اتهامات اليهود التقليدية للمسيح عليه السلام وأمه وهي اتهامات غير أخلاقية البتة. نقول إن ما بين المسيحية والإسلام أقل من ذلك بكثير لأنه لا يمس جوهر العقيدة بقدر ما يسمى سلوكيات بعض أفرادها ومصالح شعوب هذه العقيدة أو تلك عبر الأزمنة والعصور مع عدم تجاهلنا أو إغفالنا لوجود بعض الاختلافات الجوهرية في صلب كل من العقيدتين المسيحية والإسلام في النظر للسيد المسيح.

إن استمرار العداء ليس في مصلحة أي من المسيحية أو الإسلام، بل ليس في مصلحة أية عقيدة أخرى قائمة في عالمنا المعاصر. ولعل نقطة الانطلاق للمصالحة هي إعلان كل من المسيحية والإسلام التخلي عن مفهومين: مفهوم سمو العقيدة على غيرها من العقائد، ومفهوم الدعوة للتبشير وتحويل الآخرين لهذه العقيدة أو تلك. وإذا كان مفهوم السمو مسألة شخصية وذاتية فهذا في ذاته لا يضر الآخرين، أما إذا تحول مفهوم السمو لمذهب حركي فإنه يعني كراهية الآخر وهنا مكمن الخطر. والأخطر من ذلك دعوة التبشير إنها مسألة حركية بامتياز، ولسنا في عصر نشأة الأديان من جديد، ولكننا في عصر التسامح والتصالح والقضاء على عناصر الخصومات والنزاعات.

ولعلني أشير إلى دعوة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود التي أطلقها في مارس/ آذار 2008، بالدعوة لاجتماع يضم أنصار المسيحية واليهودية والإسلام ثم أنصار العقائد الأخرى لبحث كيفية إنقاذ البشرية من الدمار وتحلل الأخلاق والحفاظ على القيم المشتركة وانعقاد مؤتمر تالٍ لذلك في جدة للتقريب والتفاهم بين المذاهب الإسلامية وفي مدريد بين الأديان السماوية الثلاثة ثم في نيويورك في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي حضرته مختلف الأديان والعقائد. إن مثل هذه الدعوة لو تعمق فهمها واقتنع أصحاب تلك الديانات بها وعملوا على هديها فإن هذا سيكون إيذانا بعصر فكري جديد يسوده التسامح الديني، والاعتراف المتبادل دينيا، والاعتدال السياسي والعقلاني في العلاقات الدولية، وتحديد أسلوب التفاعل الدولي، وترشيد أدوات الصراع بين أنصار العقائد والأديان في القرن الحادي والعشرين

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2331 - الخميس 22 يناير 2009م الموافق 25 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً