العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ

الاعتراف بوصفه معضلة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لمفهوم الاعتراف جذور هيغلية، إلا أن صياغته المكتملة تعود إلى المفكر الكندي تشارلز تايلور. وقد تركّز جهد هذا الأخير في نقل مفهوم الاعتراف من سياق الصراع الدموي إلى سياق الحوار السلمي؛ لأنه يرى أن السمة الحاسمة في الحياة البشرية تكمن في «طابعها الحواري بصورة أساسية» (The Politics of Recognition, in: New Contexts of Canadian Criticism, P.102)، فنحن نتشكل عبر الاتصال بالآخرين والحوار معهم، ولهذا نكون بأمس الحاجة إلى اعترافهم، وذلك بقدر حاجتهم هم إلى اعترافنا.

الاعتراف إذن حاجة تتطلب الآخر بالضرورة، الآخر الذي يعترف بنا ونعترف به. وبهذا المعنى يصبح الاعتراف أكبر من مجرد رغبة بشرية عابرة، وأكبر من مجرد كياسة وتأدب ومجاملة يتبادلها أحدنا مع الآخرين، بل هو مطلب ملح و«حاجة إنسانية حيوية» (ص99). وتكمن إلحاحية هذا المطلب وحيويته في علاقة الدعم المتبادل بين الاعتراف والهوية، فنحن، كما يقول تايلور، «نتشكّل بالاعتراف». وإذا كان للاعتراف تأثير إيجابي كبير في بناء الذات والهوية الفردية والجماعية، فإن عدم الاعتراف أو سوء الاعتراف (أو الاعتراف الخاطئ) Misrecognition قد يتسببان في ألم فادح وأذى معنوي خطير بحق الأفراد والجماعات، وربما أثقلا ضحاياهما «بكراهية معوّقة للذات»، وبحسب تايلور كذلك فإن «الشخص أو جماعات البشر يمكن أن يقاسوا ضررا فعليا، وتشويها حقيقيا، وذلك إذا كان الناس أو المجتمع من حولهم يعكس محدوديتهم، أو يحقّرهم ويمثّلهم بصورة تدعو للازدراء» (ص98).

يؤسس تايلور مفهوم الاعتراف على مبدأ الكرامة البشرية، وهو واحد من مبادئ فكر التنوير في الغرب. فبدل مفاهيم النبالة والشرف والألقاب المفخّمة (لورد، ليدي...) التي كانت حكرا على الفئات «النبيلة» في المجتمع، وتسهم في تقسيم هذا المجتمع إلى طبقات عليا ودنيا، بدل هذا أصبح لدينا اليوم مفهوم الكرامة البشرية الذي يقوم على فكرة أن لدى كل البشر الحق في التمتع بالاحترام بصورة متساوية، وصرنا نتداول ألقابا تقوم على التكافوء والتساوي بدل التراتب (سيد، وسيدة، وآنسة...). ونتج عن مبدأ الكرامة البشرية الاعتراف بمبدأ كرامة المواطن، وهذا مبدأ «لا يعني أن الجميع مشتركون في الكرامة فحسب، بل إنه يشير إلى شكل من الاعتراف المتساوي، وأن هذا النوع من الاعتراف أصبح جوهريا في المجتمعات الديموقراطية» (ص99).

هذا تأصيل مهم لمفهوم الاعتراف، إلا أن هذا المفهوم يبقى واحدا من المفاهيم الإشكالية الكبيرة، لأنه يطرح الكثير من الإشكالات التي تعيدنا من جديد إلى معضلة المساواة والمعاملة المتساوية. فإذا كان من حق جميع المواطنين أن يحظوا بمعاملة متساوية من قبل الدولة، فكيف يمكن ترجمة الاعتراف المتساوي على أرض الواقع فيما يتعلق بالحقوق الثقافية؟ وإذا كان على الدولة أن تحترم التنوع الثقافي، فكيف يترجم هذا الاحترام في عملية التشريع ورسم السياسات العامة؟ وإذا كان الناس مختلفين من حيث الدين والعرق والثقافة والطبقة والجنس...إلخ، فهل من واجب الدولة عندئذٍ أن تعترف بكل هذه التنوعات في تشريعاتها وسياساتها العامة؟ كيف يترجم، على سبيل المثال، اعتراف الدولة المتساوي بالتنوع القومي بين مواطنيها خاصة وأن لكل قومية لغتها الخاصة؟ فهل يترجم اعتراف الدولة بهذا التنوع من خلال اعترافها بكل هذه اللغات كلغات رسمية؟ وهل يجب على دولة مثل المغرب والجزائر أن تعترف بالعربية والأمازيغية كلغتين رسميتين في الدولة؟ وهل على دولة مثل العراق أن تعترف بتنوعاتها الثقافية المتكاثرة كقوميات أو جماعات رسمية؟ وهل على إيران أن تعترف بالفارسية والعربية والآذارية والكردية والبلوشية كقوميات رسمية؟ وفي حالة الدين هل يكون على دولة مثل مصر أن تعترف بالإسلام والديانة القبطية والبهائية كأديان رسمية؟ وفي حالة المذهب هل يترجم الاعتراف في دول الخليج في صورة اعتراف رسمي بالمذهبين السني والشيعي (والأباضي في حالة عمان) كمذاهب رسمية في الدولة؟

يدخل مفهوم الاعتراف، عند هذه النقطة، في نفق مظلم، ودول العالم تتباين في التعامل مع هذه المعضلة، فهناك دول مثل الولايات المتحدة الأميركية لا تعترف بأية لغة رسمية. وهناك دول مثل سنغافور تعترف بأربع لغات رسمية، وتعترف سويسرا بثلاث لغات رسمية، ولغة رابعة شبه رسمية. في حين أن غالبية دول العالم تعترف بلغة الغالبية كلغة رسمية وحيدة للدولة. والحال كذلك فيما يتعلق بالدين والمذهب وغيرها من الاختلافات الثقافية. ولكن، هل يتطلب احترام التنوع الثقافي أن تبادر الدولة إلى الاعتراف الرسمي بكل اللغات والثقافات والأديان التي توجد ضمن حدودها؟ وهل بالإمكان أن يتحقق الاعتراف الرسمي في صيغ أخرى لا تشترط بالضرورة ترجمته في تشريعات وسياسات عامة ومؤسسات خاصة بكل جماعة؟ ثم أليس من الممكن أن يتحول الاعتراف الرسمي إلى نوع من شرعنة الانقسامات الدينية والطائفية والقومية داخل الدولة؟ أليس من الممكن، كذلك، أن يتحول اعتراف الدولة بالجماعات إلى نوع من الجماعية القمعية التي تقيّد حياة الأفراد وحرياتهم الشخصية؟ هذا ما سنتناوله في مقالة الأسبوع المقبل

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً