العدد 2352 - الخميس 12 فبراير 2009م الموافق 16 صفر 1430هـ

السعي لتكريس الانقسام الفلسطيني

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

تتواصل الحرب الإسرائيلية على الشَّعب الفلسطيني بأشكال جديدة، وأساليب مختلفة، مشفوعة بتغطية سياسية وإعلامية غربية، وبضغوط عربية تستهدف الدفع بالفلسطينيين إلى الفخِّ الإسرائيلي، للتسليم بالشروط الإسرائيلية التي توفر المناخ السياسي الملائم للانتخابات الصهيونية، بعدما حاولت آلة الحرب طوال ما يزيد على ثلاثة أسابيع أن تمهّد الطريق الأمني لذلك دونما جدوى.

إن ما يحدث في المنطقة في هذه الأيام يمثل الترددات للزلزال الذي أحدثته غزة عربيا وإسلاميا، وحتى دوليا، على رغم قسوة الحرب ووحشيتها، ومن حجم التواطؤ الذي استهدف الشعب الفلسطيني... وما نشهده في هذه الأيام من لقاءات تمثل الامتداد للتِّقاءات والقمم العربية، لا يبتعد عن كونه محاولات جديدة للدفع بالاتجاه نفسه الذي تحركت فيه الدبابات الإسرائيلية، بهدف سَوْق الفلسطينيين إلى الاستسلام الذي يُنهي قضيتهم تحت عنوان «حل قضية الشرق الأوسط».

إنني أعتقد أن العرب، على مستوى الكثير من الأنظمة، لا يخلصون للقضية الفلسطينية، ولا يعملون لتوحيد الفلسطينيين من خلال حوار هادئ وبنّاء، بل يتطلعون إلى تأمين صدقية وأهمية لمحور هنا ولشخصيات سياسية هناك، وهي التي وجدت نفسها محرجة أمام هول ما حدث في غزة، وفي ظل اتساع الهوّة مع شعوبها، ولذلك أرادت أن تكرّس الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني، وأن تُحدث مشكلة في الواقع العربي والإسلامي تحت عناوين ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب والانقسام.

ولعلَّ ما يبعث على الأسى والأسف، أن ينطلق الصوت من داخل السلطة الفلسطينية برفض الحوار مع من لا يعترف بمنظمة التحرير، التي لم نجد لها أي موقف في أثناء الحرب كما لو فقدت الحياة، مع أن هؤلاء يحاورون العدو الذي لا يعترف بالشعب الفلسطيني، ليستكمل هؤلاء وأولئك الهجمة المنظَّمة على الشعب الفلسطيني، وعلى قضيته التي يراد لها أن تكون رهينة في ساحة «الاعتدال العربي»، قبل أن يُصار إلى تسليمها للراعي الأميركي الذي يتطلّع إلى تسليمها للعدو جثّة هامدة باسم منع تهريب السلاح، متجاوزا مسألة الاحتلال التي تمثل أصل المشكلة، والتي يحاول الإعلام العالمي وبعض الإعلام العربي أن يقفز فوقها، فلا يرى أمامه إلا صواريخ تُطلق، وعبوات تُزرع، ويتناسى أنها لم تنطلق إلا كرد فعل على الاحتلال الذي لم يترك مجالا من مجالات الوحشية والعدوانية إلا وخاضه.

إننا في الوقت الذي نؤكد أنّ على الفلسطينيين، بكلِّ مكوّناتهم السياسية، أن يسارعوا إلى تلمّس طريق الحوار والوحدة الداخلية، ندعو الأطراف العربية والإسلامية إلى تحمّل مسئولياتها في الامتناع عن وضع العصيّ في دواليب الحوار الفلسطيني، لأننا نعتقد أن طريق الحوار ينبغي أن ينطلق من خلال الحاجة الفلسطينية الداخلية، لا من خلال الشروط التي تفرضها «إسرائيل» وتريد للعرب أن يعملوا على تسويقها.

القدس: مؤامرة تهديم الأقصى

وفي موازاة ذلك، وفي الوقت الذي يتعرّض المسجد الأقصى لمؤامرة جديدة تهدف إلى جعله ينهار بفعل الحفريات التي ازدادت مؤخرا، وأدت إلى سقوط عدد من الإصابات، ندعو جميع الحقوقيين العرب والمسلمين، وكل أولئك الذين انتصروا للشعب الفلسطيني المظلوم من أنصار الحرّية في العالم، إلى أن يسعوا بكل إمكاناتهم وطاقاتهم لملاحقة المسئولين في قيادات العدو وجيشه على الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها في غزة، لأننا نعتقد أن معركة غزة لم تنتهِ، وأن بالإمكان محاصرة العدو في نتائجها الإنسانية وملاحقته دوليا، ليتحمَّل كل فريق مسؤوليته بحسب إمكاناته، بعدما تحمّل الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة وزر المواجهة الكبرى في حرب غير متكافئة، ولكنها كانت النموذج في إرادة صنع القوة على مختلف المستويات.

العراق: افتتاح عهد سياسي جديد

وفي المسألة العراقية، نطلَّ على انتخابات مجالس المحافظات، والتي برزت فيها مشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي والعرقي والديني في العراق، بما يؤسس لمرحلة من المشاركة السياسية المتوازنة على مستوى السلطة، وبما يطل على آفاق سياسية للوحدة الداخلية لم تكن متوافرة بهذا المستوى من قبل.

إننا نريد للشعب العراقي أن يستفيد من هذه التجربة، لتكون منطلقا له في تعزيز وحدته الداخلية، وتعاون مكوّناته السياسية، بعيدا من العناوين المذهبية أو العرقية وغيرها، وصولا إلى الغاية الكبرى التي يتطلّع إليها هذا الشعب العزيز في بناء العراق الحر الموحَّد بعد إخراج المحتل من كل الأراضي العراقية، وتحرير العراق وطنا وأرضا وقرارا.

إيران: انتصارات سياسية وعلمية

وفي مجال آخر، نلتقي في هذه الأيام بالذكرى الثلاثين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، هذه الثورة التي انطلقت من الخط الإسلامي الذي عاش في فكر الإمام الخميني، والذي بقي الإسلام كمنطلق للحكم والشريعة والحياة في قلبه وفكره، حيث كتب عن الحكومة الإسلامية منذ كان في النجف.

وقد سارت الثورة في خطى هذا الإمام الكبير، وحاولت أن تنفتح على الإسلام في تجاربها المتعددة، وعلى الحركات الإسلامية، وعلى أحرار العالم، كما انفتحت على القضية الفلسطينية وبقيت وفيّة لها، فلم تتنازل عن احتضانها ورعايتها ودعم الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة، على رغم الإغراءات الهائلة التي انهالت عليها عالميا.

إننا في الوقت الذي نعرف أن الثورة حاولت أن تجسّد الإسلام في كل حركتها وتوجهاتها، وخصوصا في ظل الضغوط الكبيرة التي عملت على محاصرتها والإطباق على مسيرتها، إلا أننا نعتقد أن الإسلام ظل الهاجس الذي التزمته قيادات الجمهورية الإسلامية، ولذلك فنحن ندعو الحركات الإسلامية، بمختلف انتماءاتها المذهبية وتوجهاتها السياسية، إلى الانفتاح على هذه التجربة، ورفدها بالنصيحة الإسلامية، وبالموقف السياسي الإسلامي الذي يتطلّع إلى مصلحة الإسلام والمسلمين والأمة كلها.

لقد جعلت الثورة الإسلامية من قاعدتها في حركتها السياسية موقعا قويا متحركا ضد الظلم والظالمين، والاستكبار والمستكبرين، وآلت على نفسها أن تقف مع المستضعفين في العالم، ودخلت في ساحة الصراع مع كل هذه القوى الطاغية التي أعلنت الحرب عليها تحت وابل من عناوين الإثارة والعصبية، تارة من خلال الحديث عن المذهبية الشيعية، وأخرى من خلال تحريك عنوان القومية الفارسية، ولا تزال أميركا، ومعها حلفاؤها في أوروبا وحتى في العالم العربي والإسلامي، تسعى لعزل إيران من خلال استخدامها العنوان النووي وغيره، ولكننا نعتقد أن كل هذه الأساليب ستفشل أمام إيران التي تسلك طريق الرشد السياسي من خلال قيادتها الإسلامية الواعية والحكيمة.

ونحن في الوقت الذي نبارك للجمهورية الإسلامية خطوتها النوعية الأخيرة بإطلاق أول قمر اصطناعي للاتصالات محلي الصنع، ونجاح هذه الخطوة التي تمثل واحدة من الإنجازات الكبرى للثورة على خط الاكتفاء الذاتي في مسيرة التطور العلمي والتكنولوجي، وفي مجال الدفاع الذاتي بمواجهة العدو الصهيوني ومن يكيدون لإيران الإسلام، نريد للمسلمين جميعا، وللأمة كلها، أن تستفيد من تجارب الجمهورية الإسلامية في إيران، ليس على مستوى حركية الحكم والاستقلال في القرار الذاتي فحسب، بل على مستوى التطور العلمي الذي يصوّب عليه الأعداء، ويخشاه ضعاف النفوس، أولئك الذين يمعنون في السير في خطّ الضعف، لأنهم يخافون من أن تتقدّم الأمة في مسيرتها العلمية والجهادية بما يفتح عيون العالم عليها، وخصوصا العالم المستكبر والظالم.

لبنان: ابتعاد القيم الأخلاقية عن الخطاب السياسي

أما في لبنان، فإننا نلاحظ أن السياسة اللبنانية - في كثير من نماذجها - ابتعدت عن الجانب الأخلاقي، وأضحت القيم الأخلاقية مستبعَدة من الحركة السياسية، وحتى من التعبيرات السياسية، وقد دخل ملف التنصّت، بمستوره ومفضوحه، على الخط بما يمقته الناس الذين استذكر بعضهم الحقبة الماضية، حيث كان الزوج يتكلم بحذر شديد حين يتحدث مع زوجته، أو التاجر مع شركائه، أو المواطن مع أقرانه، بما يمثل تجسيدا لديكتاتورية الملاحقة والقمع، بعيدا عن الذرائع الأمنية التي يتحدث المسئولون عنها.

ونحن نستغرب مواصلة المسئولين والسياسيين سجالاتهم الداخلية بهذه الطريقة الاستعراضية، فيما يستعرض العدو عند الحدود مع فلسطين المحتلة، ويبعث - عبر وزير حربه - بالمزيد من التهديدات، ويتحدث بلغة الحرب إذا امتلكت المقاومة صواريخ أرض جو التي قد تهدد حركته العدوانية اليومية فوق الأراضي اللبنانية، ولعل ما يبعث على الاستهجان أكثر، أن الذين يستهلكون الحديث حول سلاح المقاومة والاستراتيجية الدفاعية لا يحركون ساكنا، كما أن الدولة توحي في كل حركتها السياسية والأمنية الصاخبة أنها لم تعدّ العدة لهذا الموضوع، فضلا عن صمت «اليونيفيل» والمجتمع الدولي الذي لا يفكر إلا في أمن «إسرائيل» ولو تمّ تدمير الأمن العربي واللبناني والإسلامي كله.

إننا أمام هذا الواقع، ندعو الجميع إلى سحب سجالاتهم الداخلية بعناوينها الخلافية لحساب التصدي لمخططات العدو ومكائده وأفخاخه، والتي تستهدف لبنان حجرا وبشرا وموقعا، كما ندعو إلى إخراج المواضيع السجالية، بصناديقها المختلفة، وعناوينها المتعددة، من الدوائر المذهبية ومن لعبة المحاصصة الطائفية، لمصلحة الوطن في قضاياه الكبرى، ولمصلحة الأمة في قضاياها العليا.

تحية إلى سفينة أصحاب المواقف الحرّة

وأخيرا، إننا نحيّي سفينة الأخوة اللبنانية وركابها، وعلى رأسهم صاحب المواقف الحرّة المطران هيلاريون كبوجي، والجهات التي ساهمت في هذه المبادرة الرمزية ذات الدلالة الكبرى في التضامن مع أهلنا في غزة... ونقول للدولة اللبنانية والمقاومة: إن هذا الاعتداء على السفينة اللبنانية بات في عهدتهم للرد على هذا العدوان بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب... ونقول للعرب والمسلمين وكل الأحرار إنّ عليهم القيام بخطوات تضامنية مماثلة من شأنها كشف العدو الذي لا يقيم وزنا للقوانين الدولية، والذي ينبغي العمل لفضحه وتعريته على المستويات الإعلامية والسياسية والإنسانية وغيرها. كما نقول لما يسمّى المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا ودول الاتحاد الأوروبي، إنّك قد كشفت عن وجهك البشع مجددا أمام هذه الغطرسة والقرصنة الإسرائيلية الجديدة، لأنك لا تحترم حقوق الإنسان إلا إذا كان يهوديا أو كان يسير في خط مصالحك

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 2352 - الخميس 12 فبراير 2009م الموافق 16 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً