العدد 2360 - الجمعة 20 فبراير 2009م الموافق 24 صفر 1430هـ

السودان ليس بنما!

عزوز مقدم Azzooz.Muqaddam [at] alwasatnews.com

تشاءم الكثيرون من قرب صدور مذكرة توقيف من قبل محكمة الجنايات الدولية للرئيس السوداني عمر البشير وذلك بتهم ارتكاب جرائم حرب في دارفور، وإن هذا الأمر ربما تكون له تداعيات خطيرة على استقرار السودان. وذهب بعض الكتاب ووسائل الإعلام إلى أن هذه المذكرة المشؤومة ستكون بداية لتفتيت هذا البلد فيما تنبأ آخرون باحتمال وقوع انقلابات عسكرية وأخرى مضادة. لكنني في الواقع لا أرى ذلك. وعلى رغم أنني لا أدافع هنا عن البشير أو حكومته ولكنني متفائل بأنه لن تحدث مستجدات كارثية كما توقع البعض فهذه المذكرة سيئة الصيت ليست إلا إحدى المطبات التي استطاع السودان تجاوزها من قبل.

وأذكر هنا أنه عندما وقع الانقلاب العسكري بقيادة البشير وبتدبير من الزعيم الإسلامي حسن الترابي في يونيو/ حزيران 1989 تخوفت كثير من البلاد العربية من تصدير الثورة الإسلامية وساءت العلاقات السودانية الدولية وخصوصا مع الغرب. وجاءت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مارغريت أولبرايت واجتمعت بنظرائها في الدول الإفريقية المجاورة للسودان، في العاصمة اليوغندية كمبالا واتفقت معهم على الإطاحة بنظام الخرطوم بكل الوسائل العسكرية وغيرها. ولكن ما لبث أن انقلب السحر على الساحر وتبدل الوضع في دول الجوار بشكل مغاير فقد تغيرت الأنظمة في كل من إثيوبيا واريتريا والكونغو وتشاد وإفريقيا الوسطى وجاءت أنظمة جديدة متعاونة مع الخرطوم إلى حد ما.

ثم أعادت واشنطن الكرة مرة أخرى بإيعازها ليوغندا بغزو جنوب السودان وقد حدث ذلك فتصدى السودان للتدخلات العسكرية اليوغندية وهزم الجيش اليوغندي شر هزيمة.

ثم جاءت بعد ذلك الضربة العسكرية الأميركية لمصنع الشفاء السوداني للأدوية فمثلت أكبر فضيحة أميركية وخدمت النظام السوداني دبلوماسيا بشكل كبير.

وعليه مادامت الجبهة الداخلية السودانية متماسكة وتساند البشير فإنه لن يحدث طارئ في السودان وهذا ما حصل عليه النظام حتى الآن من القوى السياسية السودانية المختلفة وعلى رأسها الأحزاب التقليدية الكبرى على سبيل المثال حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي والحزب الاتحادي الديمقراطي برئاسة محمد عثمان الميرغني وحتى الزعيم الإسلامي حسن الترابي المنشق عن حزب البشير والذي يعتبر الآن المعارض الوحيد للإجماع الوطني ويؤيد تسليم البشير لمحكمة لاهاي، ربما يغير رأيه قريبا وخصوصا بعد إجراء مفاوضات مع جناحه العسكري، حركة العدل والمساواة في الدوحة أخيرا.

إن أسوأ سيناريو محتمل أن تقوم الدول الكبرى ممثلة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومن خلال مجلس الأمن الدولي بمحاولة فرض عقوبات على السودان كأن يحظر تصدير النفط السوداني بحجة أنه يؤجج الصراع في دارفور أو أن تحاول تلك الدول فرض حظر لتحليق الطيران الحكومي في سماء الإقليم المضطرب المترامي الأطراف ولكن كلا الاحتمالين ليس سهلا تمريرهما عبر مجلس الأمن الدولي. فهناك دول مستفيدة من استيراد النفط السوداني كالصين التي لها مقعد دائم في مجلس الأمن،وكذلك بعض الدول في شرق وجنوب آسيا كالهند. كما لتركيا التي تتمتع باستثمارات ضخمة في السودان، مقعد غير دائم في مجلس الأمن ربما تعارض أيضا فرض عقوبات اقتصادية على الخرطوم.

وعموما، فرض مثل هذه العقوبات لا يجدي نفعا في دولة توجد لديها حدود برية مع تسع دول مجاورة. وحتى إذا أثرت العقوبات (بسبب رفض تسليم البشير نفسه للمحكمة) على مستوى النمو الاقتصادي الذي حدث أخيرا فإن الشعب السوداني بطبعه معتاد على المقاطعة الغربية وهو لا يكترث كثيرا بشظف الحياة إذ لم يركن للدعة والرفاهية طوال عقود من الزمان طالما ترفع الحكومة الشعارات الإسلامية. ومن المستبعد أن تندلع ثورات شعبية كتلك التي حدثت ضد نظام جعفر النميري في العام 1985 أو ضد نظام إبراهيم عبود في العام 1964.

ومن الصعوبة بمكان أيضا أن تفرض الدول الكبرى حظرا للطيران الحكومي في دارفور وهي تحتاج كما زعمت مساعدة المتأثرين بالنزاع من المدنيين في الإقليم، فكيف تستطيع حظر الطيران الحربي السوداني وتسمح بتحليق طائرات الأمم المتحدة في حين يسيطر الجيش السوداني بكل وحداته على الأرض، ولديه كل الوسائل الممكنة للتصدي لأي طيران أجنبي معادٍ وهو جيش متمرس على الحروب منذ أكثر من ستين عاما.

إن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا هي التي تحتاج لاستمرار نظام البشير وستكون هي المتضرر الأول من زواله لأنه يمثل الآن الضامن الوحيد لأكبر عملية سلام في العالم جاءت بجهود أميركية عقب أطول حروب إفريقيا في جنوب السودان ويعتبر الكيان السياسي الآن في جنوب البلاد «أكراد السودان» حليف لأميركا والغرب، ولديه ثروة نفطية معتبرة، يريد الغرب الحفاظ عليها بعيدا عن النزاعات وقد بغض الجنوبيون الحرب أيضا. كما أن فرنسا تحتاج للسلام في المنطقة وخصوصا لدى حليفتها تشاد وأي امتداد للنزاع في دارفور ستتأثر به القوات الأوروبية المرابطة في شرق تشاد.

إن وجود السودان كمدخل حصين للعالمين الإفريقي والعربي ليس مرتبطا بوجود شخص في السلطة أو زواله، كما رأى بعض الكتاب ووكالات الأنباء بأن توقيف البشير يعني الفوضى في السودان. فالرهان هنا على الجبهة الداخلية التي من المتوقع أن تتوحد أكثر وسيحاول الإسلاميون (أنصار البشير ومؤيدو الترابي) تجميع صفوفهم ومن المحتمل أن تعود الشعارات القديمة - الجديدة المناهضة لأميركا إن تشددت إدارة باراك أوباما في مواقفها تجاه الخرطوم وعندها سيردد هؤلاء كثيرا:

«يا أمريكا لمي جدادك» (دجاجك)

«الريس ما نوريغا

ريسنا السيف البيقطع

شعب السودان ما بنما

ده شعبنا شهابا يسطع»

(بمعنى يا أميركا خذي دجاجك المستورد في السودان، فرئيسنا ليس مانويل نوريغا حاكم بنما سابقا الذي اختطفته القوات الأميركية بعد غزوها لذلك البلد الصغير العام 1989).

إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"

العدد 2360 - الجمعة 20 فبراير 2009م الموافق 24 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً