العدد 2391 - الإثنين 23 مارس 2009م الموافق 26 ربيع الاول 1430هـ

متى ستكون صفحة الدولة بيضاء؟!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يمكن اختصار تاريخ الجدل الطويل الذي دار حول الدولة في كونه سعي من أجل تأسيس وتسويغ وتأمين «حيادية الدولة».

وفي وقت ما، أطلق على جزء من هذا الجدل اسم «العلمانية»، والتي لم تكن أكثر من محاولة لتحييد الدولة تجاه انتماءات المواطنين الدينية. إلا أن التاريخ القريب يقدم أكثر من دليل على أن تحييد الدولة لا ينبغي أن يقف عند حدود الدين وانتماءات المواطنين الدينية فحسب؛ والسبب أن الدولة ليست مهددة بالانزلاق حين تمارس التمييز بحسب الانتماء الديني لمواطنيها فحسب، بل إنها مهددة بالانزلاق حين تمارس التمييز/ الامتياز تجاه مواطنيه على أي مستوى من المستويات: عمرية، وجنسية، وعرقية، وطبقية، وطائفية، ومناطقية، وأيديولوجية، وسياسية، ولونية... إلخ.

وعلى خلاف العلمانية فإن التعددية الثقافية تطرح المعاملة المتمايزة (لا التمييزية)، ويمكن أن تفهم هذه المعاملة على أنها تحييد للدولة ولكن بطريقة إيجابية. إلا أننا إذا ابتعدنا عن هذا الجدل النظري فسوف نكتشف أن ما يطالب به المهمشون والجماعات المقموعة ليس أكثر من تحييد الدولة ضمانا للمساواة ورفضا للتهميش والقمع والإقصاء. ويمكن تحقيق مطلب المساواة من خلال السماح للجميع بحق التعبير العلني عن هويتهم دون معاملة تمييزية ولا امتيازية من قبل الدولة. والسؤال الذي تطرحه هذه الجماعات هو: هل علينا أن نحتفظ بهوياتنا بصورة خاصة وسرية، في حين تحظى الجماعة المهيمنة بحق التعبير العام والعلني عن هويتها في الدولة وفي المجال العام؟ وهل من المعاملة المتساوية أن تكون هوية الجماعة المهيمنة هي المرجع والمعيار الطبيعي، وهوية الجماعات المهمشة هي الانحراف والانزياح عن هذا المرجع المعياري؟ والمسألة هنا لا تنحصر في احتجاجات الجماعات الثقافية والدينية والعرقية فحسب، بل ثمة مطالبات تنطلق من أرضية مختلفة. وعلى سبيل المثال، يشير طارق مودوود، وهو أحد دعاة التعددية الثقافية في بريطانيا، إلى مطلب «الشاذين جنسيا»، فهؤلاء يطالبون بالاعتراف بهم بصورة إيجابية وكما هم يريدون أي كمثليين جنسيا، ويرون أنه ليس من المعاملة المتساوية أن يجري التعامل في قوانين الدولة وسياساتها العامة مع «الغيرية الجنسية» على أنها المرجع المعياري والحالة الطبيعية في الميول الجنسية للبشر، لأن هذا يمثل انحيازا من قبل الدولة ضدهم ولصالح الغيريين جنسيا، ومن هنا يطالب هؤلاء بـ «تطبيع الشذوذ» من خلال الاعتراف المتساوي بالمثلية الجنسية كإحدى الميول الجنسية «الطبيعية» تماما كما هو الحال مع الغيرية الجنسية. والمثليون هنا لا يمثّلون «هوية منهارة» وبحاجة لدعم الدولة وإنقاذها، كما أنهم لا يطالبون بمعاملة متمايزة خاصة بهم كمثليين، بل يطالبون بحياد الدولة وتفريغ قوانينها وسياساتها من الانحياز لصالح الغيريين على حسابهم. ويترتب على الاعتراف المتساوي بالمثليين أن يحصل هؤلاء على كل حقوق الغيريين كحق الزواج وتبني الأطفال وغيرهما من حقوق الأزواج.

تثير مطالب المثليين جدلا واسعا في الغرب قبل غيره، إلا أن هذه المطالب، مهما كانت مواقفنا تجاهها، تشير إلى أن الطريق أمام تحييد الدولة مازال طويلا. وإذا تركنا مطالب المثليين جانبا، فإن قائمة المطالب طويلة جدا. هذا ما ينطوي عليه الصعود المتأخر لمطالب الأقليات والجماعات المهمشة حول العالم. فقد كشفت هذه الأقليات وهؤلاء المهمشون أن «صفحة» الدولة لم تكن بيضاء بالكامل، بل ثمة نقوش محفورة على وجهها هي نقوش الهويات الغالبة والمهيمنة. وما تطالب به الأقليات والجماعات المهمشة هو إما السماح لها بالنقش على هذه الصفحة على قدم المساواة مع الجماعة المهيمنة، وإما الشطب الكلي لكامل النقوش لتعود الصفحة بيضاء كما ينبغي أن تكون. فليس من المعاملة المتساوية في شيء أن تعترف الدولة بهوية مهيمنة معينة بصورة رسمية، وتنكر الاعتراف الرسمي بهويات الآخرين، وهنا لا يكفي أن تعبّر الدولة عن احترامها لهويات الآخرين وكأنهم عالة ومتطفلون وزائدون عن حاجة الدولة. وبالمعنى هذا، يكون من حق السنة واليهود والمسيحيين والزرادشتيين والبهائيين أن يعترضوا على اعتراف إيران الرسمي بالدين الإسلامي والمذهب الجعفري. ومن حق الأكراد أن يعترضوا على جعل القومية التركية قومية رسمية في تركيا، وعلى جعل القومية العربية قومية رسمية في العراق (سابقا) وسوريا. وتمثل «المسألة الأمازيغية» في الجزائر والمغرب واحدة من المسائل الكاشفة في هذا السياق. فإذا كانت الدولة دولة الجميع فإن من حق الجميع أن يتمتعوا بحقوق مواطنة متساوية، ومن بينها حق الاعتراف المتساوي، فإذا كان لزاما على الدولة أن تعترف بقومية أو لغة رسمية فإن مبدأ المساواة يقتضي أن تعترف الدولة بجميع قومياتها ولغاتها بصورة رسمية وعلى قدم المساواة. وما كشفته «المسألة الأمازيغية» هو أن الدولة ليست حيادية في هذه النقطة، وأن القومية العربية هي الهوية المرجعية الثقافية في الدولة. ولهذا كان الاعتراف بـ»الهوية الأمازيغية» - قومية ولغة وتاريخا - واحدا من المطالب الأساسية لدى أمازيغ الجزائر والمغرب، وكان على الجزائر أن تمرّ بحوادث «الربيع الأمازيغي» في العام 1980، وبمواجهات منطقة القبائل الدامية في العام 2001، حتى تعترف في أكتوبر/ تشرين الأول 2001 بأن الأمازيغية لغة رسمية في البلاد. وفي أكتوبر2001 أصدر ملك المغرب محمد السادس الأمر بإنشاء «المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية» الذي كلّف برسم السياسات الكفيلة بالنهوض بالثقافة الأمازيغية كمكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية المغربية المتنوعة.

والخلاصة أنه ليس أمام الدولة في مجتمع متعدد الثقافات إلا الاعتراف المتساوي بجميع ثقافاتها. إلا أن الاعتراف المتساوي لا ينبغي أن يترجم، بالضرورة، في صورة اعتراف رسمي بجميع هذه الثقافات، بل يمكن أن يترجم في صورة الحرية السلبية الخاصة بعدم التدخّل كما شرحها أشعيا برلين. وعلى سبيل المثال، فإن الحرية الدينية في الولايات المتحدة الأميركية مضمونة لا بفضل الاعتراف الرسمي المتساوي بثقافاتها واحدة واحدة، بل بفضل الحرية السلبية التي يؤمنها قانون «توطيد الحرية الدينية» المقرّ في العام 1786، والذي يمنع الكونغرس من تحديد دين للدولة أو التدخّل في الممارسة الحرة للعبادة. وربما تعارض هذا مع سياسات الاعتراف الرسمي، إلا أنه لا يتعارض مع مفهوم الاعتراف المتساوي، بل هو ترجمة له بطريقة أخرى، وهي طريقة بديلة تتجنّب الكثير من عيوب الاعتراف الرسمي، المتساوي وغير المتساوي، وتتجنب، كذلك، تشيئ الثقافة، والتعامل معها كجوهر موضوعي ثابت، واختزال الأفراد في انتمائهم الثقافي للجماعة، وهو ما يقود، في الغالب، إلى اختزال الجماعة في زعيمها الديني أو القومي أو السياسي.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2391 - الإثنين 23 مارس 2009م الموافق 26 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً