العدد 24 - الأحد 29 سبتمبر 2002م الموافق 22 رجب 1423هـ

لماذا العراق، وليس دولة أخرى من «محور الشر»؟

الوسائل الأربع في السياسة الأميركية

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

 لدى الولايات المتحدة وسائل متعددة تستعملها في دبلوماسيتها دعما لسياستها الخارجية وهي: السياسة (الدبلوماسية)، الاقتصاد، المعلومات والقوة العسكرية. تندرج هذه الوسائل الاربع كأعمدة اساسية في بنية وهيكلية عملية انهاء الصراعات. فتستعمل اميركا السياسة كنقطة انطلاق. من ثم الاقتصاد، إيجاباً وسلباً. إيجاباً من خلال المساعدات والاغراءات. سلبا، من خلال الحظر والاحتواء، عبر القوانين التي تصدر عن الكونغرس، او القرارات التي تصدر من قبل مجلس الأمن. تدخل المعلومات في اتجاهين، الأول كأن تعرف أميركا نوايا الآخر قبل، أثناء وبعد المباحثات، وذلك عبر التنصت والتجسس. الثاني، كاستعمال هذه المعلومات والتكنولوجيا لمساعدة الآخر لتغيير سلوكه. في الختام، يأتي دور القوة العسكرية التي ترافق وتواكب عملية انهاء الصراع او الخلاف في كل مراحله لتكون سيفا مسلطا على الفريق الآخر. ترتفع وتيرة التهويل العسكري، بمقدار ما يصمد الآخر في موقفه مانعا الحل السياسي كما ترغبه اميركا. من الناحية السياسية - التاريخية، لاتزال حرب الخليج الأولى قريبة زمنياً. حتى انها اعتبرت في بعض التحليلات، الحرب العائلية لآل بوش. فالرئيس الاب بدأها في العام 1991، وقد ينهيها الرئيس الابن في العام 2002. اعتبرها البعض، انها حرب قد تستكمل نضوج الرئيس في الشئون الخارجية، ليظهر وكأنه ملم بما سيصبح العالم عليه لمرحلة ما بعد العمل العسكري. حتى ان حربه هذه، قد تدرج اسمه في التاريخ كصانع اساسي للنظام العالمي الجديد.ويذهب البعض الآخر ابعد من ذلك. فيقول مثلا، ان هذه الحرب هي ليست لاعادة ترتيب الشرق الاوسط. لا، بل هي، قد تعني وتحدد ما ستكون عليه صورة السياسة الخارجية الاميركية ووسائلها للعقدين القادمين من الزمن. فالنجاح يعني استمرار الآحادية الاميركية حتى وقوع ازمة اكبر تعيد اميركا إلى رشدها. اما الفشل، فقد يؤدي باميركا إلى ضرورة العودة إلى الواقع، ودروس التاريخ للاعتراف بأن ما تقوم به هو مناقض لما تعوّد عليه العالم. اما من جهة ما يخص الحرب الاميركية على «الارهاب» يبدو العراق مثاليا كهدف ثان بعد افغانستان. وهنا يدخل دور الجغرافيا كعامل اساسي. فالحرب الافغانية قد تسمى حرب اميركا على «محيط دائرة الارهاب». اما حرب العراق، فقد تكون حرب اميركا «في قلب دائرة الارهاب». فالعالم العربي حاليا متهم بأنه يدعم، يمول، يجند ويدافع عن الارهاب والارهابيين. وهو متهم ايضا بأنه يسعى إلى اسلحة الدمار الشامل، التي قد تنتقل لاحقاً إلى «يد الارهابيين» واستخدامها ضد اميركا ومصالحها. من هنا كان العالم العربي الساحة الرئيسية للنشاط العسكري الاميركي. اما لجهة الطاقة، فإن العراق يشكل «بيضة القبان». فبعد الاستيلاء والسيطرة على نفط قزوين، يشكل العراق توازنا اساسيا فيما خص انتاج النفط بين كل من السعودية، وما قد تكون عليه روسيا في الميدان النفطي مستقبلا. فالسيطرة على نفط العراق (ثاني احتياط نفطي في العالم - 113 مليار برميل)، قد تجعل السعودية ثانويّة التأثير لجهة سيطرتها على الانتاج العالمي وعلى اسعار النفط. وقد توازن النفط الروسي مستقبلا فيما خص الانتاج والتسعير. هذا عدا السيطرة على مصدر الطاقة الاساسي لدول الشرق الاقصى، وخصوصاً ان دراسة اعدت سابقا، اظهرت انه في العام 2020 سيذهب 90٪ من نفط الخليج إلى دول الشرق الاقصى. في الشق العسكري الاستراتيجي، تبدو ايضا الارضية جاهزة تقريبا. فالآلة العسكرية الاميركية موجودة في المنطقة بكامل عتادها، وتجربتها لاتزال طازجة في المحيط المباشر للعراق، افغانستان. وهي انشأت منظومتها العسكرية - الامنية في منطقة الشرق الاوسط - آسيا الوسطى، بشكل يماثل ما كانت عليه في اوروبا ابان الحرب الباردة. كذلك الامر، وهذا امر مهم، لا يوجد في محيط العراق قوى عظمى تمانع الحرب وتشكل عاملا سلبيا على المخطط الاميركي. هذا عدا عما يشكله العراق من هاجس امني لاسرائيل في المنطقة. لماذا ليس إيران؟ على رغم العداء المستفحل بين اميركا وايران، لاتزال اميركا تعتبر ان لايران وزنا اقليميا مهما، وخصوصا في موضوع التوازن الاستراتيجي الاقليمي. فهي تكون مهمة في حال توتر العلاقات بين اميركا وروسيا مستقبلا، وهي تكون هاجسا على دول الخليج، خصوصا في الشق المذهبي. وهي دولة غنية في نفطها وغازها، التي تشكل ساحة خصبة للشركات الاميركية. ويقال ان اميركا تعرف تماما، ان التوجه الايراني نحو المشكلة الفلسطينية هو مؤقت وسيتبدل جذريا مع الوقت، ذلك بسبب الامور الآتية: البعد الجغرافي الايراني عن فلسطين، الاوضاع السياسية الداخلية الايرانية والصراع على السلطة، المخاطر الاقليمية المحدقة بايران، خصوصا بعد السيطرة الاميركية على افغانستان وكل آسيا الوسطى، التقارب الروسي الاميركي، والضغط الروسي على ايران لجهة توزيع حصص النفط للدول المشاطئة لبحر قزوين. هذا عدا عن استمرار استراتيجية الاحتواء المزدوج الاميركية لكل من العراق وايران. وعلى رغم الجهوزية العسكرية الاميركية في المنطقة، لا يمكن لاميركا ان تخوض الحرب ضد ايران. ويعود هذا الامر لعدم توافر الوسائل العسكرية الكافية لذلك، وعدم توافر التمويل. ولعدم امكانات النصر الحاسم في ايران. كذلك الامر لا يمكن لاميركا ان تتورط عسكريا في عدة اماكن في الوقت نفسه، الامر الذي سيتحول إلى ضغط داخلي على الادارة الاميركية. هذا عدا عن الممانعة العالمية لضرب ايران. فهل يقبل العالم ان تخوض اميركا حروبها على كل من العراق، ايران، وافغانستان وغيرها في الوقت نفسه؟ يفسر هذا الامر وكأن اميركا تخوض حربا على الاسلام وحده من دون غيره ويمكن ايضا لايران ان تزعج اميركا في افغانستان. فهي دولة مجاورة جغرافيا ولها تأثير مذهبي كبير، وخصوصاً ان اميركا بدأت تعاني ما عاناه السوفيات سابقا. في الختام، قد يصبح الوضع الايراني اسهل للمعالجة بعد النجاح في ضرب العراق. فهي ستصبح معزولة عن كل محيطها، خصوصا في البعد الفلسطيني، الامر الذي يجعلها تغير من سلوكها السياسي في المستقبل، لذلك، يمكن القول انه يمكن لاميركا ان تحقق الكثير من اهدافها مع ايران كنتيجة حتمية لسقوط العراق بيد العم سام. فلماذا تضييع الجهد في غير محله؟ لماذا ليس كوريا الشمالية؟ إذا كان كل من العراق وايران، يسعيان للحصول على اسلحة الدمار الشامل، فإن كوريا الشمالية، هي مصدر انتشار هذه الاسلحة لتلك الدول. وهي التي تهدد جيرانها وتطلق الصواريخ عليهم (فشل اطلاق قمر اصطناعي العام 1998، سقط على الشواطئ اليابانية). وهي التي تتحرش بجارتها كوريا الجنوبية، حليفة الولايات المتحدة الاساسية في المنطقة. كان آخرها عملية التحرش البحري. وهي ايضا النظام الستاليني المغلق والوحيد المتبقي في العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وهي الدولة التي تسعى إلى النووي بشكل تبتز به الولايات المتحدة. وهي المصدر الوحيد لبيع تكنولوجيا الصواريخ المتقدمة لأعداء الولايات المتحدة. فهي باعت إلى جانب ايران والعراق، كل من ليبيا والسعودية ومصر. قال كبير المفاوضين الاميركيين لشئون الحد من التسلح وكيل وزارة الخارجية جون بولتون الذي زار حديثاً كوريا الجنوبية، ان كوريا الشمالية «مدججة» بأسلحة فعالة ويجب ان توقف بيع تكنولوجيا الصواريخ عبر العالم اذا ارادت ان تحسن علاقاتها مع الولايات المتحدة وان تحصل على مساعدة خارجية لتلافي انهيار نظامها. وردد كلام الرئيس الاميركي جورج بوش في يناير/ كانون الثاني الماضي عن ''محور الشر''، اذ رأى ان في كوريا الشمالية «نظاما شريرا مدججا بالسلاح، بما فيه اسلحة دمار شامل وصواريخ باليستية». واضاف في خطاب امام مجموعة من المسئولين الحكوميين والعلماء في سيول ان «استخدام الرئيس بوش مصطلح ''محور الشر'' لوصف ايران والعراق وكوريا الشمالية كان اكثر من تأنق بياني، انه صحيح واقعيا». وأكد ان «ثمة صلة متينة بين هذه الانظمة - محور - تتدفق عبرها اسلحة خطرة وتكنولوجيا خطرة». على رغم كل هذا لم تستنفر اميركا ترسانتها لضرب هذا البلد، لا بل على العكس هي تسعى للمساعدة في بناء مفاعلات نووية مجانية. فمن ضمن اتفاق عقد في العام 1994 بين اميركا وكوريا الشمالية، تقرر ان تساعد اميركا كوريا على بناء مفاعلات نووية لاهداف سلمية، شرط ان تسمح كوريا لمفتشي الامم المتحدة بدخول كل منشآتها النووية. في الشق العسكري، يوجد في شبه الجزيرة الكورية ما يقارب الـ 35 ألف جندي اميركي، وهم ضمن اتفاقات الحرب الكورية 1950 - 1952. لذلك يمكن القول ان الارضية العسكرية جاهزة تقريبا. إذاً ما الذي يمنع الحرب على كوريا الشمالية؟ تبدو اميركا الآن منهمكة في «الحرب على الارهاب»، وفي الاستعداد للحرب على العراق. وهي حتى الآن، لم تنته من ترتيب الوضع الافغاني. حتى ان الحكومة التي ركّبتها، لا تسيطر إلا على القصر الحكومي. فقرضاي محمي من قبل الجنود الاميركيين. ويقال ان التاريخ يعيد نفسه مع القوات الاميركية. فما حصل مع الجنود السوفيات، يتكرر مع جنود بوش، وهم اصبحوا اكثر تورطا من قبل. والعملية التي اعتبرت في البدء، قصيرة وسريعة تأخذ حتما وقتا اطول. فالخروج الاميركي السريع بعد نصرهم العسكري. يعني عودة الفوضى للاطاحة بما أنجز. من هنا صعوبة التورط في كوريا. هذا عدا عن البعد الجغرافي للمسرح الكوري عن اميركا وقواعدها حتى ولو كانت هناك قواعد قريبة في اليابان وكوريا الجنوبية. كذلك الامر لا يمكن قتال كوريا الشمالية، كما تم قتال العراق وطالبان. فكوريا الشمالية لديها ترسانة من الصواريخ البالستية، منها التقليدي، ومنها غير التقليدي. والنظام الكوري الشمالي معروف ايضا بأنه قد يستعمل هذه الصواريخ ضد القوات الاميركية، وحتى ضد نصفه الآخر. قد يؤثر الوضع الجيو - سياسي على القرار الاميركي في الحرب على كوريا الشمالية. فكوريا تجاور كل الاعداء المحتملين لاميركا في المستقبل. فهناك اليابان، الصين، وروسيا. تخاف اليابان من الحرب الاميركية على كوريا الشمالية لأسباب عدة. فهي قد تكون هدفا للصواريخ الكورية في حال ارادت هذه الاخيرة ان تحرج اميركا. لذلك لن تسمح اليابان باستعمال اراضيها لهذه الحرب. كذلك تعتبر اليابان ان الحرب على كوريا قد تجلب عليها المزيد من الكوارث الاقتصادية، اضافة إلى الكوارث التي تعيشها منذ عقدين من الزمن. من هنا اتت اخيرا مبادرة رئيس الوزراء الياباني لزيارة كيم يونغ أيل. تعتبر روسيا ان كوريا الشمالية ضرورية لها في المستقبل، فهناك حدود مشتركة بين البلدين. وهي سئمت من استراتيجية الاحتواء لها، وخصوصا انها قد تجددت في آسيا الوسطى مع الحرب على افغانستان. تعتبر روسيا ان كوريا الشمالية ضرورية لها اقتصاديا. فهي تنوي وصل سكك الحديد الآتية من كوريا الجنوبية بخطها السيبيري، لتصبح هي الممر الاهم للبضائع الآسيوية باتجاه اوروبا. كذلك الامر، مهتمة هي بالمشاريع النفطية لشركاتها بعد اكتشاف النفط في الشمال الكوري (البحر). وهي تتطلع ايضا إلى بيع بيونغ يونغ المزيد من الاسلحة مقابل العملة الصعبة. وهي ترغب ايضا في استغلال اليد العاملة الشمالية في سيبيريا بدلاً من اليد العاملة الصينية، التي من الممكن ان تسيطر مستقبلا على هذه المنطقة الغنية والخالية من السكان الروس. كذلك الامر، تريد روسيا ان يكون لها وزن عالمي، ويبدأ حتما بقدرة التأثير على المحيط المباشر. من هنا اتى اهتمام الرئيس فلاديمير بوتين باستقبال الرئيس الكوري الشمالي مرات عدة. لاتزال ذكرى العمليات العسكرية الاميركية في كوريا، ماثلة في الوعي الاستراتيجي الصيني. وإن اكثر ما يقلق الصين مما يخص امنها، التهديد المباشر لمحيطها الجغرافي. فوحدة الصين الداخلية (وهي هاجس)، كانت تتأثر تاريخيا بمدى التأثيرات الخارجية على محيطها الجغرافي المباشر، لذلك ادخلت الصين سرا العام 1950، ما يقارب الـ 100 ألف جندي إلى كوريا الشمالية، الامر الذي ادى إلى مفاجأة استراتيجية للقائد الاميركيي ماك آرثر، نتج عنها اكثر من 200 ألف قتيل. لا ترغب الصين في حرب اميركية على كوريا الشمالية. فقد يعني هذا استكمال الطوق عليها، بهدف الاجهاز على صعودها السريع لاحقا. فالتطويق قد يعني تهديد وحدة الداخل، الامر الاكثر قدسية في العقل الصيني. واميركا تعرف كل هذا، وهي تعرف ان الصين دولة نووية مع صواريخ عابرة للقارات. واميركا تعرف ايضا، ان الحرب على كوريا قد يشجع الصين على استعادة تايوان بالقوة. فما يحق لها، قد يحق لغيرها، لما لا؟ وهي لا تريد كل هذا التصعيد من اجل مسرح ثانوي تقريبا. فلا نفط استراتيجي في كوريا الشمالية، ولا سوق استهلاكية كبيرة على غرار الصين، ولا حتى موقع استراتيجي يستغل في مراحل متقدمة. لا بل هي عبء، وهي دولة فاشلة ساقطة بمجرد أن يزاح النظام الحالي. فلماذا المخاطرة، في الوقت الذي يمكن لاميركا ان تحقق الاحتواء او غيره عبر البوابة الكورية الجنوبية؟ من هنا التركيز الوحيد الفعلي على العراق.

العدد 24 - الأحد 29 سبتمبر 2002م الموافق 22 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً