العدد 2412 - الإثنين 13 أبريل 2009م الموافق 17 ربيع الثاني 1430هـ

الاختلاف ليس إهانة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

هناك تعريفات كثيرة للقومية، إلا أن أشهرها ذلك التعريف الذي قدّمه بندكت أندرسون حين عرّف القومية على أنها «مجتمع سياسي متخيّل». والحق أن هذا التعريف ينطبق على كل الكيانات الجماعية المرتبطة بالقومية والإثنية والطائفة والدين، فكل هذه الكيانات هي عبارة عن «جماعات متخيّلة». والمقصود بـ»متخيّلة» هنا أنها لا تقوم على المعرفة والاتصال المباشرين، بل يكفي أن يكون لدى كل واحد من أبناء الجماعة فكرة عن قرابةٍ ما تجمع بينه وبين أعضاء الجماعة الآخرين، وربما البعيدين. فقد لا يقابل المسلم الأندونيسي مسلما مغربيا قط، ومع ذلك فثمة فكرة عن قرابة دينية توحّد بينهما، والأمر كذلك مع القرابة المذهبية التي تجعل الشيعي الخليجي أو العراقي أو اللبناني يشعر بالقرب من شيعي أفغاني لم يلتق به قط، وربما لا يلتقي به أبدا، غير أن ما يجمع بينهما هو تلك الفكرة التي تعيش في ذهن كل واحد منهم عن تلك القرابة المذهبية التي تجمع بينهم. وقد تتاح الفرصة ليتقابل، وبصورة مباشرة، عربي مصري وآخر عراقي، ومسلم أندونيسي وآخر مغربي، وشيعي خليجي وآخر أفغاني، إلا أنه من المؤكد أن كل واحد من هؤلاء لن تتاح له الفرصة ليتعرف على جميع أفراد قوميته ودينه ومذهبه فردا فردا. يقول أندرسون: «إنه (مجتمع) متخيّل لأن أبناء حتى أصغر القوميات لا يعرفون أغلب أفراد قوميتهم، ولا يقابلونهم، ولا حتى يسمعون بهم، ومع ذلك ففكرة تجمعهم وتوحدهم تعيش في ذهن كل واحد منهم». ويترتب على وجود هذه الفكرة الموحِّدة، وجود «مشاعر» موحدة، وهي في العادة مشاعر إيجابية تجاه أبناء الجماعة المتخيلة، وسلبية تجاه المختلفين المتخيّلين كذلك.

وحين تكون الجماعة متخيلة، فإن «المشاعر» الموحدة التي تولّدها تكون، هي الأخرى، متخيّلة، فالأخوة الدينية أو القومية ليست مشروطة باتصال المرء بجميع أبناء دينه وقوميته بصورة مباشرة. وفي المقابل فإن المرء لا يكره أبناء الأديان والقوميات الأخرى لأنه يعرفهم ويتصل بهم بصورة مباشرة، بل يكفي أن يكون في وجدانه مشاعر إيجابية عامة تجمعه مع أبناء دينه وقوميته، وأخرى سلبية تستبطن مسافة البعد عن أبناء الجماعات الدينية والقومية الأخرى.

يذهب أميتاي إتزيوني إلى تعريف المجتمع على أنه «نسيج من العلاقات المحمّلة بالمشاعر بين مجموعة من الأشخاص». وبناء على هذا التعريف، يكون من الطبيعي أن يلتزم الفرد بـ»واجبات خصوصية» تجاه أفراد مجتمعه الذين يتقاسم معهم التضامن والمشاعر الإيجابية. ويكون من الطبيعي، كذلك، أن تتقدم محبةُ الأقربين على محبة الأبعدين، فلو «جاع ثلاثة أولاد في مجتمع ما، فإن أعضاء هذا المجتمع يعتبرون هذا الأمر مفجعا أكثر مما لو مات آلاف الأشخاص من الجوع في بلد بعيد».

ربما كان من الطبيعي أن أحمل مشاعر إيجابية تجاه أفراد المجتمع الذي أنتمي إليه، إلا أنه ليس من الطبيعي أن أحمل مشاعر سلبية تجاه الآخرين، سواء كانوا قريبين ومعروفين من قبلي أم من أبناء المجتمعات البعيدة والمجهولين بالنسبة إلي. فهؤلاء إما أن يكونوا خارج إطار شعوري وإدراكي، وإما أن أحمل تجاههم مشاعر محايدة لا هي سلبية ولا هي إيجابية. وإذا كان القرب يولّد مشاعر إيجابية تجاه أبناء مجتمعي ممن أتبادل معهم المنافع والمشاعر معا، فإن المسافة المتخيّلة لا تبرر مشاعر الكراهية تجاه الآخرين القريبين أو البعيدين. ربما كان من المبرر أن أحمل مشاعر سلبية تجاه من أساء إلي أو أهان ديني وقوميتي، لكن الاختلاف بحد ذاته ليس إساءة أو إهانة مقصودة لا إليّ ولا إلى ديني وقوميتي. ولو كان الاختلاف إساءة وإهانة لكان على كل واحد منا أن يكره حتى أقرب الناس إليه، الأب والأم والزوجة والأولاد؛ لأنهم، حتما، يختلفون عنه من حيث العمر أو الجنس. ثم إن هذا يعني كراهية الجنس البشري كله؛ لأنك لن تجد شخصا يتطابق معك في كل شيء، فالذي يتطابق معك في الجنس قد يختلف عنك في العمر، ومن يلتقي معك في العمر والجنس قد يفترق عنك في القومية والدين والطبقة، وهكذا.

لا يجوز التعامل مع الاختلاف على أنه إساءة وإهانة، كما لا يجوز تبرير كراهية الآخر باسم الطبيعة البشرية؛ لأن الصحيح أن التضامن المفرط وشعور المرء المبالغ فيه تجاه جماعته وانتمائه الأحادي المطلق، قد ينقلبان، في أية لحظة، إلى ضرب من العداوة والنفور تجاه الجماعات الأخرى القريبة أو البعيدة حتى لو كان يلتقي معها في قواسم مشتركة أخرى. وهذا واحد من الجوانب اللامعقولة في الانتماء والتضامن الجماعيين، فهل ثمة منطق حين أكره شخصا لا لشيء سوى أنه ينتمي لدين يختلف عن ديني؟ وهل ثمة مهزلة أكبر من أن يكرهني شخص ما، أو أن يتعامل معي بخصومة حاقدة لا لشيء سوى أن اسمي يختلف عن اسمه، أو أن ملبسي ولغتي (أو حتى لهجتي) ومذهبي ولوني على خلاف ملبسه ولغته (أو لهجته) ومذهبه ولونه؟ نعم، هناك مهزلة أكبر من ذلك، وهي المهزلة التي تحوّل هذه الكراهية إلى دافع لمباشرة القتل بحق المختلفين. وبحسب باسكال، فإنه ليس ثمة مهزلة أكبر «من أن يكون لإنسان حق في قتلي لا لسبب إلا أنه قاطن على الضفة الأخرى من النهر، وأن أميره وأميري في خصومة، وإن لم يكن بيني وبين هذا الجار أي خصومة». وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه المهازل البشعة قد تكررت في حوادث القتل على الهوية في أماكن مختلفة حول العالم.

قد لا يكون ثمة مهزلة أكبر من تلك التي يتحدث عنها باسكال، إلا أن هذه المهزلة البشعة قد تكون نتاجا لتلك المهزلة الأولى (المشاعر المتخيلة)، والمهزلتان معا هما نتاج تلك الرغبة في التطابق مع المثيل والشبيه من أبناء «الضفة الواحدة» في مشاعرهم المشتركة بما فيها مشاعر الكراهية، هكذا كما لو كانت هذه الكراهية «عدوى عاطفية» تسري داخل الجماعة، وتبعث بين أفرادها الرغبة في طرد المختلف أو التعامل معه بسلبية مقيتة طلبا للنقاء. إلا أن مأساتنا الكبرى هي أن هذه المهازل أصبحت جزءا من حياتنا اليومية وتعاش هنا والآن، فكم من جار كان يتعامل مع جاره بتعاون واحترام إلى أن اكتشف أنه ينتمي إلى دين أو مذهب مختلف فقلب له ظهر المِجنّ، وكم من زميل كان يتعامل مع زميله في الدراسة أو العمل بحفاوة إلى أن اكتشف أنه ينتمي لأيديولوجيا مختلفة أو لتيار سياسي مختلف أو لعرق مختلف، وكم من مدرس كان يقرّب تلميذا مجتهدا، وانقلب الحال حين اكتشف أنه من المنطقة الفلانية أو ينتمي إلى المذهب العلاّني. أليست هذه مهزلة؟

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2412 - الإثنين 13 أبريل 2009م الموافق 17 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً