العدد 2419 - الإثنين 20 أبريل 2009م الموافق 24 ربيع الثاني 1430هـ

زمن القبائل والجماعات المِثليّة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

تكشف الرغبة في التطابق بين أبناء الجماعة الواحدة عن نفسها في صورة الرغبة في العيش مع المثيل والشبيه. وقد كان ميشيل مافيزولي، المفكر الفرنسي ما بعد الحداثي، بارعا حين أطلق على هذه الظاهرة اسم «القبليّة ما بعد الحداثية» أو «المجتمعية المثليّة» تعبيرا عن الصعود المستجدّ لـ»عناصر عتيقة خلناها قد سُحقت بالمرة من قبل عقلنة العالم. فالعصبيات الدينية المختلفة، والنهوض العرقي، والمطلبيات اللغوية أو مختلف الارتباطات بالأرض، هي التمظهرات الأكثر بداهة لهذه العتاقة».

وبحسب مافيزولي، فإن هذا النوع من التمظهرات «لا تدين بأي شيء الآن للبرمجة العقلانية (الفردانية)، بل هي تقوم على الرغبة في العيش مع الشبيه، حتى لو أدى ذلك إلى طرد المختلف. إنها المجتمعية المثلية التي تهيمن على كل الميادين». يتعلّق الأمر هنا بنظام تواصلي ورمزي يستعيد حضوره مرة أخرى بعد انسحاب قسري فرضته الحداثة الغربية بقيمها العقلانية والفرادنية.

وفي «زمن القبائل» هذا، تتراجع تنظيرات الليبراليين والحداثيين فيما يتعلق بالفرد والحريات الشخصية والعقلانية الفردانية والاستقلال الشخصي، وذلك لصالح تجمعات منبعثة تقوم على الرغبة في العيش مع الشبيه والمثيل، وتعيش في «فضاء جمعاني» لا قيمة للفرد فيه إلا مع جماعته، بحيث «تنمحي استقلالية الفرد باعتباره سيدا ومالكا لنفسه، كما أن هويته الراسخة تنشرخ انشراخا. بالمقابل تنبثق عملية تماهٍ تجعل مني شخصا مركّبا، أي شخصا لا يوجد إلا بالآخر (الشبيه) وبفضله، وهكذا يتحدد نظام اجتماعي جديد في السراء والضراء».

مارسيل غوشيه، المفكر الفرنسي الآخر، كان يفسّر هذه المجتمعية المثلية على أنها نتيجة مباشرة لتحولات مسّت المعتقدات والانتماءات الجماعية في الوقت الراهن. وتتجلى أبرز هذه التحولات في «تحويل المعتقدات إلى هويات». الأمر الذي يعني أن على المرء أن يؤمن داخليا بمعتقداته، وأن يُشهر في الخارج انتماءه إلى هذا المعتقد كهوية في الوقت ذاته. كان الإيمان، في المعتقد القديم، ينطوي على قناعة داخلية يتوجّه بها المؤمن نحو السماء، في حين أن تحويل المعتقد إلى هوية يعني -إضافة إلى القناعة الداخلية- التأكيد على مظاهر خارجية تشترك فيها جماعة المؤمنين المتماثلين، وتحرص على الحفاظ عليها وإشهارها أمام الجميع. والدافع وراء التأكيد هنا ليس طلب الثواب من السماء كما كان الحال في الإيمان القديم، بل «دافعه الأساسي تحديد الهوية على الأرض» وإثبات الوجود أمام الآخرين. وهذا دافع دنيوي يتجلّى في «الاهتمام بمراعاة الطقوس، والتعلق بإعادة اكتشاف العادات، وإعطاء الأولوية للعلامات التي تفصل داخل الجماعة عن خارجها». ويتم هذا الفصل من خلال «إشهار التمايزات» بين داخل الجماعة وخارجها. وهذا ما فرض على الجماعة أن تكتشف خصوصياتها وما يميزها عن الآخرين من أجل إشهارها وتأكيد تمايزها.

وينطوي هذا التحوّل، من منظور غوشيه، على تغيير ثلاثي الأبعاد، فهو تغيير داخل الأشخاص أنفسهم، وتغيير في العلاقة مع الآخرين (المتشابهين والمختلفين)، وتغيير مدنيّ ينعكس في أنشطة المجال العام داخل الدولة والمجتمع. وفيما يتعلق بالبعد الأول فإن التحول الذي جرى في المعتقدات والانتماءات الجماعية التقليدية، قد قلب «فكرة الذاتية» رأسا على عقب، بحيث لم تعد هذه الفكرة الليبرالية التي ترجع جذورها إلى مشروع التنوير في القرن الثامن عشر، حاكمة على تصور المرء لنفسه أو على علاقته بذاته. وبمقتضى فكرة الذاتية تكون «الأنا الحقيقية هي تلك التي تكتشفها في داخل ذاتك في مواجهة الانتماءات التي تميّز خصوصيتك، وفي مواجهة المعطيات الطارئة التي تحدّك في مكان معين وفي وسط محدد».

وتقترب هذه الفكرة من فكرة الأصالة لدى تشارلز تايلور الذي يشتبك معه مارسيل غوشيه في أكثر من مناسبة. وبحسب غوشيه، فإنني «أصبح أنا ذاتي بشكل فعلي» حين أتحرر من هذه الانتماءات والمعطيات النسبية، فإذا كان صحيحا أن المرء يولد، بالمصادفة ومن دون إرادته واختياره، داخل هذه الانتماءات والمعطيات، فإن الصحيح كذلك أن بإمكانه أن يعي هذه الحقيقة، وأن يتحرر من هذه الانتماءات والمعطيات، وعندئذٍ يكون الإنسان ذاته بشكل فعلي أو أصيل.

هذه هي فكرة الذاتية التي كانت تتناسب مع عصر الحداثة العقلانية والإيمان بالفردانية والاستقلال الشخصي، إلا أن الحال انقلبت إلى النقيض، بحيث لم يعد مطلوبا ليكون المرء ذاته بشكل فعلي أن يتحرر من انتماءاته وخصوصياته الثقافية النسبية، بل المطلوب هو تبني وجهة نظر الجماعة، وتأكيد هذه الانتماءات والتشديد على الخصوصيات وإشهارها داخل الجماعة لتأكيد الانتماء إليها، وخارجها لتأكيد التمايز عن الآخرين. وبهذا يتحوّل الانتماء إلى مكوّن أساسي من مكوّنات هوية الفرد، بحيث لم تعد مكونات هذه الهوية ذاتية خالصة بالضرورة، كما لم تعد «أناي الأشد أصالة» ترتكز على فكرة الذاتية الكلاسيكية، وأن أكون ذاتي من خلال التحرر من انتماءاتي، بل صارت ترتكز على «الأنا» الجديدة التي أشعر بها بصفتي من المنطقة الفلانية، أو بصفتي مسلما أو مسيحيا، أو بصفتي عاملا، أو امرأة، أو مثلياَ أو غيرها من الانتماءات الخارجية التي أتملّكها ذاتيا، وتتملكني هي خارجيا.

لهذا التحول تأثير مباشر فيما يتعلق بعلاقة المرء بذاته، وكذلك فيما يتعلق بعلاقته بالآخرين، وقد صار على المرء أن يشهر انتماءه وخصوصياته أمام الآخرين من أجل «الدخول في علاقة معهم». وبعد أن كان المرء مطالبا أن يترك هذه الخصوصيات جانبا عند الدخول في علاقة مع الآخرين، صار إثبات هذه الخصوصيات هو القاعدة التي يقوم عليها التبادل بين الناس، وهي التي «تسمح لك بالدخول في المجال العام وأن تتبوّأ مكانك فيه. فالواقع أنه لم يعد على المجال العام أن يفرض حقيقته المجردة باسم المقاصد العامة التي من المفروض أن يعتبر حصنها الحصين. وهو لم يعد من الممكن أن يتكوّن، قانونا، إلا عن طريق إشهار التمايزات الخاصة. ولكي نُعدّ فيها، يجب أن يكون لدينا خاصية نستطيع إبرازها فيها». وهنا يتجلّى التغيّر المدني الذي يمثّل البعد الثالث في التحوّل الذي يتحدّث عنه غوشيه. فإذا كان عصرنا هو «عصر الهويات»، فإن نوع الديمقراطية التي تتناسب معه هي «ديمقراطية الهويات» التي تقوم على سياسات الاعتراف حيث تطالب كل طائفة دينية أو جماعة عرقية أو ثقافية بالاعتراف بها بصفتها «مكوّنا لا جدال فيه من مكونات المجتمع» والدولة. وهذا يعني السماح لهذه الجماعة بأن تتحدث، بحرية وفي العلن، عن خصوصيتها وتمايزها، وأن ترى نفسها مقبولة داخل الدولة والمجتمع العام.

يسمح هذا النوع من الديمقراطية بالتعددية الثقافية، إلا أنه يستعيد مرة أخرى عيوب «الاعتراف الرسمي» بالجماعات والانتماءات، لأن هذا النوع من الاعتراف قد يحلّ أزمة الاعتراف بالجماعات، إلا أنه قد يتسبب في إنتاج جماعات متعصبة ومفرطة في التزاماتها الخصوصية، الأمر الذي يعني مزيدا من التنافر بين الجماعات، ومزيدا من الضغوط التي ستُمارس على الأفراد بقصد إجبارهم على التنازل عن جزء بسيط أو كبير من حريتهم في الاختيار لصالح تأكيد انتماءاتهم الجماعية.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2419 - الإثنين 20 أبريل 2009م الموافق 24 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً