العدد 2447 - الإثنين 18 مايو 2009م الموافق 23 جمادى الأولى 1430هـ

مَنْ مِنّا اختار جماعته؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

ينتمي كل واحد منا إلى جماعات متنوعة في الوقت ذاته، وهذه واحدة من بدهيات حياتنا اليومية، إلا أن هذه البدهية اليومية يمكن أن تتعرّض للإنكار من قبل كثير من الجماعات التي تتعامل مع أفرادها كما لو كانوا ممتلكات خاصة بالجماعة، وأنهم ينتمون إليها انتماء مطلقا لا شريك لها فيهم. فإذا كان من الصحيح أننا نرى أنفسنا أعضاء لجماعات متنوعة على أساس الموطن، والعرق، والدين (أو المذهب)، والمهنة، والطبقة، والجنس، والهوايات، والموقع الجغرافي...إلخ، فإن الصحيح كذلك أن معظمنا يتعامل - أو يُفرض عليه التعامل - مع هذه العضويات من خلال نظام تراتبيات صارم بحيث تهيمن عضوية معينة على بقية العضويات الأخرى، فقد تتصدر عضويتنا إلى العرق أو الدين أو الجنس أو الموطن على بقية العضويات الأخرى، وتهيمن عليها، وتصبح هي الحاكمة عليها، وبهذا نتعامل مع هذه العضوية على أنها هويتنا المطلقة والحتمية التي تطمس هوياتنا المتنوعة.

يحدث هذا حين نشعر أن هذه العضوية المفردة من هوياتنا المتنوعة هي التي تتعرض للتمييز والتهديد والاستهداف. فحين يشعر الناس أنهم يتعرضون إلى التمييز من قبل الدولة بسبب دينهم أو مذهبهم أو عرقهم فإن الانتهازيين والجبناء من هؤلاء يعمدون إلى ستر هذا الانتماء والتبرؤ منه علانية تلافيا للمشكلات وتقليلا للخسائر التي ستطالهم، إلا أن معظم الناس تدفعهم رغبة التحدي إلى الإصرار على هذا الانتماء، بل المجاهرة به وإشهاره في كل مكان، بمناسبة ومن دون مناسبة، كما لو كان هو عنوان هويتهم الوحيدة والمطلقة، وعندئذٍ تتساوى لدى هؤلاء الهوية والوجود، وتصبح هويتهم هي قرينة وجودهم، وكأنه لا معنى لوجودهم بلا هذه الهوية. وحين يشعر الناس أن دينهم هو المهدد، فمن المتوقع أن يختصر الانتماء الديني هويتهم بكاملها، و»أما إذا كان الخطر يُحدق بلغتهم الأم، أو مجموعتهم الإثنية، فهم يقاتلون بضراوة إخوانهم في الدين. إن الأتراك والأكراد مسلمون على حد سواء ولكنهم لا يتكلمون اللغة نفسها، فهل يكون نزاعهم أقل دموية؟ والهوتو والتوتسي كاثوليكيون ويتحدثون اللغة نفسها، ولكن هل شكّل ذلك رادعا لهم لعدم التناحر والاقتتال؟ والتشيكيون والسلوفاكيون كاثوليكيون بدورهم، فهل أسهم ذلك في تعزيز عيشهم المشترك؟»

هذه حالات جلية للكيفية التي يختزل بها التنوع في الهويات في سياق النزاعات الجماعية، إلا أن اختزال التنوع لا ينحصر في سياق النزاعات؛ لأننا قد نضطر - وقد نعمد إلى ذلك بملء إرادتنا - إلى اختزال تنوعنا في السياقات العادية. ويمكن، على سبيل المثال، أن توجد امرأة سوداء، وتكون، في الوقت ذاته، عربية ومسلمة وبحرينية وتنتمي إلى الطبقة الوسطى، فكل هذا يمنحها تنوعا في هويتها، إلا أن هذا التنوع معرّض للاختزال، وذلك حين ترى هذه المرأة نفسها على أنها سوداء قبل كل شيء، أو امرأة قبل كل شيء، أو حين تجد في قرارة نفسها أن انتماءها إلى الإسلام أو العروبة أو البحرين هو الانتماء الأساسي والمطلق في هويتها. وبهذه الطريقة يتلاشى ذلك التنوع الثري في حياة هذه المرأة، ويصبح عديم الأهمية بالنسبة لقراراتها ووعيها بذاتها.

ولكن، هل المشكلة هنا تكمن في كون هذه المرأة تنظر إلى نفسها على أنها سوداء فقط، ومن ثَمّ قريبة من السود رجالا ونساء، عربا ومن قوميات شتى، مسلمين وغير مسلمين، بحرينيين وغير بحرينيين؟ ماذا لو أن هذه المرأة السوداء نظرت إلى نفسها على أنها امرأة قبل كل شيء وانخرطت في حركات نسوية تدافع عن حقوق المرأة، وتطالب بتمكينها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إلا أنها فوجئت بأن أسرتها وجماعتها القريبة تفرض عليها أن ترى نفسها كمسلمة قبل كل شيء، كما تفرض عليها أن تقتنع بأن توزيع الأدوار بين الرجال والنساء مسألة تقررها العادات والتقاليد المرعية داخل الجماعة فقط؟ وماذا لو كانت هذه المرأة تنظر إلى نفسها على أنها بحرينية قبل كل شيء، واصطدمت بتلك الحقيقة المُرّة وهي أن معظم البحرينيين من غير السود يتعاملون معها، في الحياة اليومية، على أنها سوداء قبل كل شيء، ويصنّفونها دونيا على هذا الأساس؟ وماذا لو أنها تعاملت مع نفسها على أنها مسلمة قبل كل شيء، واصطدمت بحقيقة أن الدولة تتعامل معها على أنها بحرينية قبل كل شيء؟

تضعنا هذه الأسئلة في صلب معضلة الهوية ومحدداتها، ودور الفرد وجماعته والجماعات الأخرى والدولة في تحديد الهوية وتراتبية الانتماءات المتنوعة داخلها. وسبق أن استعرضنا، وفي مقالات عديدة، رأي هوراس كولين وأشعيا برلين وجون جراي وأمارتيا صن وآخرين فيما يتعلق بتنوع الانتماءات وتعدد الارتباطات، كما سبق أن تعرّضنا لتشديد هؤلاء على حرية الفرد في الاختيار بين هذه الانتماءات. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الفرد حرّ في أن يختار الجماعة التي يريد الانتماء إليها؟ وهل الواحد منا يختار هويته الثقافية بحرية تعادل حريتنا في اختيار ملابسنا أو في الاشتراك في نادٍ رياضي أو اجتماعي؟ أمارتيا صن - الاقتصادي الهندي الحاصل على نوبل في الاقتصاد - كان أبعد أولئك المفكرين عن عالم الثقافة والفكر بحكم تخصصه في علوم الاقتصاد، إلا أنه كان أكثرهم وضوحا في مناقشة هذه القضية. فهو منذ البداية يجادل بأن الهوية مسألة اختيار وليست ظاهرة فطرية أو طبيعية، ويرى أن «من ضروريات خوض الحياة الإنسانية، أن نتحمل مسئوليات الاختيار والتفكير»، وأن حرية الاختيار بين الانتماءات المتعددة هي «حرية مهمة بشكل خاص، وهي حرية نملك من العقل والقدرة على التفكير والمنطق ما يجعلنا نعترف بها ونقدّرها وندافع عنها». إلا أن الاعتراف بحرية الاختيار لا يعني عدم وجود ضغوط تقيّد هذه الحرية، بل ليس ثمة اختيارات من دون وجود ضغوط، فكلنا نُقدِم على اختيارات عديدة ضمن حدود معينة تفرضها علينا اعتبارات مختلفة. إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن اختياراتنا هي، في معظم الأحوال، اختيارات قابلة للتنفيذ في نهاية المطاف. ويدلل أمارتيا صن على ذلك بما يسميه الاقتصاديون بـ «قيد الميزانية»، فنحن «عندما نقرر ماذا نشتري من السوق، لا يمكننا أن نتجاهل حقيقة أن ثمة حدودا تقيّد المبلغ الذي يمكن إنفاقه. إن «قيد الميزانية»، كما يسميه الاقتصاديون، موجود دائما وفي كل الأحوال. وحقيقة أن على كل مشترٍ أن يحدد اختياراته لا تدل على عدم وجود قيد الميزانية، لكنها تعني فقط أن الاختيارات يجب أن تتم في حدود قيد الميزانية الذي يواجهه». وما هو صحيح في عالم الاقتصاد صحيح في عالم الهويات والجماعات. فالفرد حر في أن يختار الجماعة التي يريد الانتماء إليها، إلا أن هذه حرية تتم ضمن قيود وحدود وضغوط تمارس عليه من جهات كثيرة. ومع هذا فإن هذه الضغوط والقيود لا تعني، في المقابل، أن حريتنا في الاختيار معدومة ولا قيمة لها.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2447 - الإثنين 18 مايو 2009م الموافق 23 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً