العدد 2461 - الثلثاء 02 يونيو 2009م الموافق 08 جمادى الآخرة 1430هـ

العيش مع المثيل بأي ثمن!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

سأكون مبالغا منذ البداية وأقول إن اختزال الناس في هوية وحيدة متفردة هو الذي يطلق شهية «الهويات القاتلة»، وهو الذي يفتتح، بذلك، تاريخ المعاناة الجماعية في العالم من إبادات ومجازر وتهجير وتطهير وتعذيب. ولولا هذا النوع من الاختزال لما وقعت هذه المآسي الجماعية؛ ولكان بإمكان الضحية والجلاد معا أن يكتشفا أن اختلافاتهما نسبية، وأن بينهما الكثير من القواسم المشتركة. إلا أن مهمة الاختزال تنهض على حجب هذه القواسم المشتركة، وتقليصها في انتماء مفرد يجري تضخيمه بصورة توحي بأن الاختلاف القائم بين الطرفين إنما هو اختلاف مطلق وحاسم ولا يقبل التقريب.

ففي تاريخ العبودية ما كان الإفريقي الأسود لينجح في إقناع القنّاصين والنخاسين والأسياد بالاعتراف بإنسانيته ومعاملته كإنسان مكتمل الإنسانية. ولم يكن المسلم، إذا ما وقع في الأسر إبان الحروب الصليبية، لينتفع شيئا من وراء تذكيره الصليبيين بأنه بشر وينتمي لدين توحيدي إبراهيمي مثلهم. وما كان إصرار المسلمين أو اليهود على أن يعاملوا كبشر وكأندلسيين لينفع في تجنيبهم مأساة الطرد من الأندلس حين احتُلت غرناطة في العام 1492 وظهر ذلك المرسوم الذي يخيّر اليهود والمسلمين بين اعتناق المسيحية أو الطرد. كما لم تكن محاولات أبناء الحضارات الهندية قبل كولومبس لتنفع في إقناع كولومبس وأفراد حملاته المتلاحقة - فاتحي أميركا الأوائل - بأنهم بشر مثلهم ويستحقون العيش والمعاملة كبشر. وإبان الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبا في القرن السادس عشر، لم يكن البروتستاني لينتفع من تذكير الكاثوليكي بأنه بشر ومسيحي وأوروبي. وفي العصر الحديث، ما كان لدى الهندي المسلم أو الهندوسي، إبان اضطرابات التقسيم في الأربعينيات، قابلية لتذكّر إنسانيتهما أو هنديتهما المشتركة، وبدا فجأة أن هويات الناس الجامعة، «هوياتهم كهنود، أو كأبناء لشبه القارة، أو كآسيويين، أو كأبناء للجنس البشري»، تتنحّى، وذلك «لتأخذ مكانها هوية متعصبة لإحدى الطوائف: الهندوس أو المسلمين أو السيخ». وبالمثل كذلك، فقد تنحّت هويات الناس الجامعة في راوندا لتأخذ مكانها هويات قتالية أو قاتلة فعلت فعلها بين الهوتو والتوتسي، وصار من الصعب تذكير هؤلاء بإنسانيتهم المشتركة، وأنهم أفارقة وراونديون وكيغاليون، وربما كانوا يشتركون في الدين واللغة. كما كان من الصعب تذكير الصرب والكراوت والبوسنيين بأنهم يوغسلافيون جمعتهم، في يوم من الأيام، الدولة وعلاقات الجيرة والمصاهرة.

يعبّر اختزال البشر في انتماءات مفردة عن نفسه في صورة نزوع متجذر باتجاه التجانس والتماثل والنقاء والصفاء والعيش مع المثيل، وهذا النزوع هو الذي يخترع الأمة بما هي جماعة متخيلة متجانسة كما تحدث عنها بندكت أندرسون. إلا أن الخطورة في هذا النزوع أنه يبحث عن التماثل والنقاء بأي ثمن، وعادة ما يكون الثمن هو الإبادة والتطهير والتهجير رغبة في تحقيق النقاء، ولتخلو الأرض للمتماثلين فقط. سبق لبندكت أندرسون أن ربط بين نشوء الأمة وحادثة «قتل الأخ» ومعارك الأشقاء، وهو ما يعبّر عنه إدغار موران بطريقته الخاصة حين يتحدث عن «اختراع الأمة» وما تولّد عن هذا الاختراع من هوس «بالتطهير وبالنقاء والصفاء الديني ثم الإثني»، كما لو كان «اختراع الأمة» لا يتحقق إلا بهذا النوع من هوس التطهير و»قتل الأخ»!

ترتكز الحروب الأهلية على هذا النوع من الرغبات الشريرة في التماثل والنقاء، كما تعبّر المجازر والمذابح والإبادات والتهجير والمحارق الجماعية التي تنتجها ماكينة القتل الأهلي المتبادل أو مكنة الأنظمة القمعية عديمة الرحمة، عن تلك الاندفاعة البربرية في اتجاه النقاء والعيش مع المثيل بأي ثمن. كان هذا الهوس مخيّما على أذهان المنخرطين في اضطرابات تقسيم الهند وانفصال باكستان. وقد عرفت راوندا ويوغسلافيا السابقة تجليات صادمة من رغبات التطهير الشريرة التي كانت تستهدف خلق الأمة المتجانسة ثقافيا أو عرقيا. وقبل ذلك انتهت الحرب اليونانية التركية في العام 1921 إلى تطهير متبادل، «فالأتراك طردوا الساكنة اليونانية المهمة في آسيا الصغرى والذين كانوا هناك منذ القدم، وتمّ ترحيلهم إلى مقدونيا، أما السكان الأتراك المقيمون في مقدونيا فتم ترحيلهم إلى تركيا»؛ ليتحقق النقاء على الأرض، ولتخلو كل منطقة للمتماثلين فقط. أما النازية فقد كانت أكثر بشاعة لأنها لم تكن مدفوعة بنوازع انفصالية بحيث تستهدف عزل كل عرق في منطقة خاصة به، بل كانت تستهدف تطهير أوروبا كلها من جميع اليهود بحجة أنهم «عرق فاسد غير جدير بالحياة»؛ ولتخلو ألمانيا للجرمانيين من أبناء العرق الآري «الجدير وحده بالحياة»! أليست هذه مهزلة كتلك التي تحدث عنها باسكال حيث تقود الرغبة في العيش مع المثيل إلى انحرافات بربرية بشعة؟! بلى، لكنّ المهزلة الكبرى في تاريخ البشرية أن هذا النوع من المهازل الكبرى هو الذي يتسبب في تلك «الانحرافات القاتلة» ومآسي البشرية الكبرى!

كان بندكت أندرسون قد عرّف القومية بأنها «جماعة متخيّلة»، إلا أن ما أثار عجبه أن الناس عادة ما يكونون على استعداد للموت من أجل هذه «التخيلات المحدودة والضئيلة». وإذا كان لدى البشر كل هذا الاستعداد لتقديم «التضحيات الكبيرة» من أجل هذه التخيلات التي ربما اخترعوها بأنفسهم، إذا كان ذلك كذلك فإن هؤلاء البشر، بالضرورة، لن يتوانوا في التضحية بحياة الآخرين والأعداء من أبناء «الجماعات المتخيلة» الأخرى، وخصوصا إذا ترسخت لديهم القناعة بأن موت الآخرين والأعداء إنما هو حياة لهم، وقربان يقدّم من أجل قوميتهم وجماعتهم و«تخيلاتهم المحدودة».

قد تستفيد الجماعة من المنافع المادية المتوافرة في إقليم ما إذا هي نجحت في تطهير الآخرين المختلفين أو تهجيرهم، إلا أن هوس التطهير لا يقف عند هذا الحدّ؛ لا لأن الدوائر قد تدور على هذه الجماعة لتصبح هي مستهدفة بالتطهير والتهجير في يوم من الأيام، بل لأن التطهير آلية تعيد إنتاج نفسها باستمرار. يتوهم زعماء الهويات القتالية أن التطهير وسيلة فعالة لإنهاء الصراع القومي أو الديني، إلا أن الصراع لا ينتهي بإبادة الجماعة القومية أو الدينية المنافسة، لأن إخراج هذه الجماعة من المعادلة سوف يفسح المجال لظهور معادلة جديدة، وآخر جديد، وقد تنقسم الجماعة ذاتها وتخترع آخرها الذي كان جزءا منها في يوم من الأيام. والسبب في ذلك أن وجود الهوية، أية هوية، مرهون بوجود «آخرها» الذي يقف في قبالها مباشرة. وهذا يعني أن الهوية حين لا تجد عدوها وآخرها أمامها فإنها لا تسترخي، وأن صراعاتها لا تنتهي، بل إنها تعمد إلى اختراع آخرها الجديد في الداخل أو في الخارج. وعلى هذا، فقد تنجح جماعة ما في إشباع رغباتها الشريرة في تطهير آخريها وتهجيرهم، إلا أن هذا النجاح ليس هو نهاية المطاف، فعلى الجماعة أن تمرّ بعملية شاقّة من إعادة التنظيم وإعادة التنضيد والفرز الجديد لمكوناتها، وللداخل والخارج فيها، ولما ينتمي إليها وما لا ينتمي. هذا يعني أن الجماعة لا تضمن وجودها إلا من خلال اختراع الآخر المباشر الواقعي أو المتخيل، الخارجي أو الداخلي. وما دام الحال كذلك، فإن هوس التطهير مرشّح للاستمرار، كما أن رغبات الانفصال من أجل العيش مع المثيل بأي ثمن لن تهدأ.

في يوم من الأيام، تحرّكت في نفوس المسلمين الهنود الرغبة في العيش مع المثيل الديني، فسعوا من أجل انفصالهم عن الهند بما هي بلاد الهندوس. وبعد سنوات من العنف والتطهير المتبادل، أعلنوا في 14 أغسطس/ آب 1947 استقلال دولتهم الخاصة في باكستان. لقد قامت الدولة الجديدة على أساس ديني، إلا أن الرغبة في العيش مع المثيل الثقافي والسياسي تحرّكت، من جديد، في نفوس البنغاليين الذين تصاعد داخلهم «شعور طاغٍ بالوطنية البنغالية». وكانت المحصلة دورة جديدة من العنف الدموي الذي عجّل بانفصال بنغلادش (باكستان الشرقية) عن باكستان في العام 1971. وأطلت هذه الرغبة برأسها مرة ثالثة مع البلوش، فانخرطوا في مطالبة متجددة من أجل انفصال إقليم بلوشستان عن باكستان وإيران. ويمكن أن تتحرك هذه الرغبة، في أية لحظة، في الأقاليم المنضوية داخل باكستان، أو داخل بنغلادش ذاتها على أساس سياسي حزبي أو ديني (بين غالبية المسلمين وأقليات الهندوس والبوذيين والمسيحيين)، كما يمكن أن تتحرك بين البلوش أنفسهم في حال نالوا استقلالهم، وهذا هو الحال في كل مكان تتحرك فيه رغبة العيش مع المثيل، إلا أن علينا أن نحذر من خطورة هذا النوع من الرغبات حين تنزع إلى تحقيق وجودها بأي ثمن، فالرغبة في العيش مع المثيل بأي ثمن تعني أن تصفية المختلفين ومحو وجودهم خيار مرغوب إذا كان ينظر إلى هؤلاء المختلفين على أنهم عقبة في وجه إشباع رغبتنا في العيش مع المثيل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2461 - الثلثاء 02 يونيو 2009م الموافق 08 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً