العدد 2499 - الخميس 09 يوليو 2009م الموافق 16 رجب 1430هـ

مفهوم التحيّز والتمركز المعرفي في التفكير الديني الإيراني المعاصر (2)

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

استكمالا للشخصية التي يتسم بها آل أحمد فقد شعر بعمق تلك التحولات، ورصد آثارها في الحاضر، وحاول أنْ يستشرف مآلها ونتائجها؛ ليدرك أنّ مجتمعه يجتاحه إعصار، إذا لم تسخر كل الطاقات لمقاومته، فإنه سيعصف بمرتكزات هذا المجتمع، ويطيح بمقومات وجوده، ويمسخه، فيحيله إلى كائن مشوّه.

وأطلق جلال على عملية الاجتياح هذه «غرب زدگي»، وهو مصطلح مشبع بدلالات سلبية، بل دلالات هجائية لكل ما هو غربي، ويوازيه بالعربية «وباء الغرب»، أو»الإصابة بالغرب»، أو»التسمم بالغرب»، أو»نزعة التغريب»، وغير ذلك.

ويبدو أنّ أحمد فرديد هو أوّل من نحت مصطلح»غرب زدگي» بالفارسية. وقد استعار جلال آل أحمد هذا المفهوم الفلسفي من فرديد، لكنه صاغه صياغة أيديولوجية، وعبأه بأفكاره، التي استقى شيئا منها في المرحلة الماركسية من حياته، وهي أفكار تمنح آلات الإنتاج والماكنة دورا مركزيا في حركة التاريخ، وبناء المجتمعات وفقا لمعاييرها الخاصة.

يعرّف آل أحمد «وباء الغربط بأنه «مجموعة الأعراض التي تطرأ على حياتنا، في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، ومن دون أن يكون دخولها تدريجيا، يسمح بالاستعداد لها، وإنما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا:أنا هدية الآلة إليكم، أو قل أنها الممهد للآلة».

ويعرف آل أحمد بتوجسه الشديد من كل شيء يرمز للغرب وثقافته، وخصوصا معطيات التكنولوجيا الغربية، فهو يرى أن كل شيء في عالمنا تدنسه الماكنة، و»يتمكنن»، وعندما يتمكنن يجري تهشيمه ونسفه.

ولعلّ مصدر هذا الفزع هو خيبة الأمل المزدوجة، من الغرب بقناعه الأميركي، الذي اسقط حكومة مصدق، وأطاح بإصلاحاته، التي جسّدت بعض أحلام جلال آل أحمد والنخبة الإيرانية، وخيبة الأمل من الاتحاد السوفياتي، الذي يرمز للماكنة والسلع الغربية أيضا، وما يُلاحظه آل أحمد من قيم وثقافة وافدة، يفرضها نمط الماكنة والسلعة الآتية من الغرب، وما تمثله الماكنة من مركزية محورية في خلق إشكالية التغريب الحضاري.

كما أنّ حظر الشاه رضا خان للحجاب، وإكراه رجال الدين على خلع العمامة، واختصار مكاسب الغرب في أزياء النساء، أو قبعة الرجال، اختزن في وجدان آل أحمد وغيره من مواطنيه، عداء كامنا للغرب، ما لبث أنْ انفجر في نزعات نفي وإقصاء شمولية، تلفظ كل ما هو غربي.

وعرض آل أحمد آراءه هذه في دراسة كتبها كتقرير إلى مجلس أهداف الثقافة الإيرانية في وزارة التربية والتعليم، العام 1962، تحت عنوان «غرب زدگي» أو «نزعة التغريب».

وكان المجلس الذي يضم في عضويته عشرة أشخاص، بضمنهم أحمد فرديد، قد تداول إمكان نشر دراسة آل أحمد، غير انه خلص إلى تعذر النشر، بسبب نقده الصريح للنظام، وفضح دوره في تلويث الفضاء الثقافي للمجتمع بوباء الغرب.

من هنا أثار كتاب «وباء الغرب»عند صدوره ضجة واسعة بين النخبة في إيران، وما لبث هذا الكتاب أنْ أضحى بعد سنوات من أخطر النصوص لتعبئة الجماهير، وتجييش المجتمع ضد سياسات الشاه المتحالفة مع الغرب.

يكتب الناقد رضا براهني في بيان أثر هذا الكتاب: «وباء الغرب» لآل أحمد كان له من ناحية تحديد واجبات البلدان المستعمرة حيال الاستعمار، الدور والأهمية نفسيهما التي كانت للبيان الشيوعي لماركس وانجلز، في تحديد مهمّة البرولتاريا إزاء الرأس مالية والبرجوازية، وكتاب «معذبو الأرض» لفرانتز فانون، في تعيين ما يجب على الشعوب الإفريقية فعله قبال الاستعمار الأجنبي، إنّ «وباء الغرب» أول رسالة شرقية ترسم موقف ووضع الشرق مقابل الغرب المستعمر، وربما كانت الرسالة الإيرانية الأولى التي اكتسبت قيمة اجتماعية على مستوى عالمي.

لعلّ هذا التقييم ينطوي على مبالغة في بيان أهمية كتاب آل أحمد، لكن وبغض النظر عن القيمة العلمية للكتاب، فإنه عمل سجالي، مشبوب بالإثارة، والنقد الإيديولوجي للغرب، إنه خطاب تعبوي، وهو أقرب إلى الشعر المنثور، منه إلى الدراسة الموضوعية. وفي ذلك تكمن أهميته في تحريض الجماهير، وترسيخ عدائها، لكلّ ما هو غربي. وهو عداء عمل على تثوير الشعب الإيراني، إلا أنه بدأ يضمحل في السنوات الأخيرة عند النخبة الإيرانية، التي راحت تنشد صورة بديلة للغرب، صورة تستبعد الرؤية الخطأ التي تحسب تمام مكاسب الحضارة الغربية ومعارفها، ليست سوى ماكنة، ثم تهاجم بعنف تلك الماكنة، وتكيل لها ألوان التهم، من دون أنْ تميز بين الأبعاد المتنوعة للغرب الحديث، وكأن الغرب هو ماكنة وحسب، بينما تتجاهل ما أنجزه الغرب، من علوم طبيعية، وعلوم بحتة، وعلوم إنسانية، وآداب، وفنون… وغير ذلك.

ولا يصح اختزال أية حضارة في بعد واحد. أما الخلط العشوائي بين العلم، والتكنولوجيا الغربية، من جهة، والوجه الاستعماري للغرب، فهو بحاجة إلى مراجعة، وتحليل نقدي، يحررنا من الرؤيا الإطلاقية الشمولية غير الموضوعية.

إنّ خطاب آل أحمد حيال «المكننة»، وأثرها التغريبي في الشرق، ودورها في استئصال صورة الحياة التقليدية، وتدنيسها طهرانية عالمنا، ظل هذا الخطاب محكوما بعقدة «المكننة» في غير واحد من كتاباته الأخرى، وخصوصا كتابه الأثير، الذي نقد فيه النخبة، ووسم مواقفهم بالخيانة، حسبما يشي عنوانه «المستنيرون: خدمات وخيانات».

بل تغلغلت هذه العقدة حتى في كتابه «قشة في الميقات» أيضا.ذلك أن كل شيء يشير إلى الغرب، وسلعه، وعوالمه، صار يستفزه، بحيث تبدو المصابيح، وأضواؤها الساطعة في المشاهد والمناسك المشرفة، شيئا مثيرا لمشاعره، لأن تلك المصابيح، المصنوعة والمصممة على طراز غربي، تدنس الفضاء النقي الطاهر، بحسب رأيه.

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 2499 - الخميس 09 يوليو 2009م الموافق 16 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً