العدد 25 - الإثنين 30 سبتمبر 2002م الموافق 23 رجب 1423هـ

هل الولايات المتحدة بحاجة إلى العدو الشبح؟

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

في العام 1984 قبل الميلاد، وبعد ان أكمل الرومان غزوهم للعالم؛ طرح المؤرخ سولا السؤال الآتي: «لم يعد في العالم اعداء لنا، ماذا سيكون مصير الجمهورية؟». وكان الجواب انهيار الامبراطورية الرومانية بعد سنوات قليلة.

ليس متوقعا ان يكون المصير ذاته هو الذي سيلحق بأميركا. إلا انه إلى أي مدى ستحافظ على حيويتها وعلى صدارتها؟

صومائيل هنتغتون في مطلع تسعينات القرن الماضي، وردا على فوكوياما، قال: «إن نهاية التاريخ، أي الانتصار الشامل للديمقراطية، إذا ما تحقق قد يكون أكثر الأحداث المؤدية لصدمة أميركا وعدم استقرارها». ويشرح هنتغتون ذلك بقوله: «عززت الحرب الباردة الشعور بالهوية المشتركة بين الشعب الأميركي، وإن نهاية هذه الحرب قد تؤدي على الأرجح إلى إضعاف هذه الهوية أو تغييرها على الأقل، وان إحدى النتائج المحتملة هي تزايد المعارضة ضد الحكومة الفيدرالية التي هي في الحقيقة التجسيد الرئيس للهوية القومية الأميركية، ووحدتها».

وكان جورج سيميل ولويس كوزر ومفكرون آخرون أظهروا انه في بعض الظروف يكون لوجود عدو نتائج إيجابية على ترابط المجموعة ومعنوياتها وقدرتها على الإنجاز؛ وإن الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة تسببتا في الكثير من التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي الذي حققته أميركا.

وعندما وضعت أميركا «الأصولية الإسلامية» العدو البديل للشيوعية بعد انتهاء «الحرب الباردة» وانهيار الاتحاد السوفياتي، بدا الأمر وكأنه محاولة لإيجاد ايديولوجية مناقضة. وبدلا من ان يساعد ذلك على تعزيز الهوية المشتركة للأميركيين فإن مفارقة جديدة ظهرت ساطعة؛ فقد أضحى الكثير من المهاجرين الجدد يأتون لأميركا لأنهم يريدون ان يحافظوا على هويتهم، بينما كان المهاجرون في السابق يشعرون بالتفرقة العنصرية لعدم السماح لهم بالاندماج في المجتمع الأميركي وكان من الطبيعي مع بروز هذه المفارقة التي عززها «الزمن العولمي» ان تتقلص مشاعر الانتماء للهوية المشتركة التي تكرست مع غياب العدو.

ويبدو ان اختراع ايديولوجية مناقضة تحت مسمى «الإسلاموية» لم يكن حلا سحريا لمأزق تداعي الهوية الأميركية المشتركة. وكانت هناك حاجة لوجود عدو يشعر معه الأميركيون بخطر يداهمهم ويتهددهم، وجاء «الحدث السبتمبري/ الأيلولي» ليوفر هذه الحاجة. فهل الهجمات على مانهاتن بهذا المعنى هي من صنع أميركي؟

القناعة السائدة على مستوى كبير في العالم بما في ذلك في أوروبا ان السياسات الأميركية التي تميزت بالانفراد والمعايير المزدوجة في قضايا دولية عديدة وفي المقدمة منها الصراع العربي/ الإسرائيلي والحرب على العراق كانت البيئة التي أدت إلى افراز تلك الهجمات؛ من دون ان يعني ذلك القبول ببساطة بالمنطق القائل بأن جهات أميركية نفذت تلك الهجمات. ولكن في الأحوال كلها فإن تلك الهجمات منحت أميركا وحكومتها الفيدرالية هبة إيجاد عدو هي بأشد الحاجة إليه. فإن أوساط اليمين الأميركي الجديد اعتبرت ان الرئيس بوش (الابن) أخطأ عندما ألقى في بادئ الأمر مسئولية تلك الهجمات على عاتق أسامة بن لادن وتنظيمه، اعتمادا على ان حصر العدو بشخص محدد أو بتنظيم معين مهما اتسعت شبكته ومهما كانت قدراته سيجعل أميركا أسيرة له، بينما الهدف أضخم والعدو أكثر اتساعا. لذلك فإن هذه الأوساط سارعت في توفير غطاء فكري وسياسي لتضخيم العدو.

وانطلاقا من ذلك اتجهت التعبئة الإعلامية والثقافية والنفسية في أميركا صوب خلق مدركات أساسها ان مفجري مانهاتن يمثلون الفاشية في وجهها الإسلامي، وان حكما صدر بالاجماع وهو ان الولايات المتحدة لا يمكن ان تكون مذنبة، وليست مسئولة عن أي شيء، وأي تصريح معاكس يعني الانحياز إلى جانب الأعداء. وهكذا صار الارهاب الذي أصيبت به أميركا في 11 سبتمبر/ أيلول هو نتاج حصري من الشرق الأوسط، يترتب على الغرب ان يقضي عليه بواسطة الضغوط الاقتصادية كما السياسية كما الحرب الطويلة والمستمرة. ولذلك أخطر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأن الحرب على الارهاب قد تمتد إلى زمن طويل بقدر ما امتدت الحرب الباردة. ووفق هذا المنظور تم نقل الحرب (التي ستتواصل في مناطق ودول أخرى من العالم الإسلامي بعد أفغانستان) من أرضية المصالح المرتبطة بالهيمنة والسيطرة على مناطق الثروة والنفوذ والسيادة العالمية إلى أرضية الأطر الثقافية والنفسية والحضارية وإضفائها على تلك الحرب، وذلك بتحميل العنف الإسلامي مسئولية تفجيرها، وذلك بهدف توفير دعم دولي عام وغربي لحربها.

الوعي المضاد

غير انه بمرور الوقت وبعد ان استفاق العالم من التأثيرات العاطفية لمشهد «الحدث السبتمبري»، وبعد ان بدت الممارسات الأميركية على حقيقتها في قضايا عديدة من معسكر الأسرى في غوانتنامو مالا إلى رفض الخضوع إلى محكمة الجزاء الدولية إلى الإعلان عن إزاحة رئيس السلطة الفلسطينية والحديث عما وصف بدول «محور الشر» والدول الأخرى التي يمكن ان تلحق بها إلى الاصرار على تغيير النظام في العراق على رغم المعارضة الدولية الواسعة، وانتهاء بالتصريحات والكتابات والتحليلات التي تحف بها الصحافة والدوريات المتخصصة ومراكز الأبحاث الأميركية، باتت الصورة أكثر اتضاحا أمام العالم. فالحرب على الارهاب هي المدخل لوجود عسكري غير مسبوق ومباشر قادر على تأدية المهمات تبعا لكل الأهداف والرؤى المستجدة. وزير الدفاع دونالد رامسفيلد يشرح طبيعة هذا التحول (الحرب الوقائية) بتأكيده على ضرورة توفير الجاهزية العسكرية التي تعبر عن الاستعداد لخوض أربع حروب متفرقة ذات طبيعة غير تقليدية. بالإضافة إلى الاستعداد الدائم لخوض الحرب في أي بقعة من العالم والانتصار فيها مع تغيير نظم الحكم فيها.

وبغض النظر عما يشي به هذا التحول من استهانة بالمعايير الأخلاقية والقانونية بالشرعية الدولية، فإنه يكشف ان التوجه الأميركي يسير إلى محاربة عدو غير مرئي وغير محدد المعالم وأينما يكون في هذا العالم. والغرض من ذلك هو اخضاع العالم للسطوة العسكرية الأميركية. فالمسألة الجوهرية في هذا التحول ليس جاهزية القدرة في خوض عدد متزامن أو متوالٍ من الحروب، وانما القواعد التي تنطلق منها الأسلحة والقوات الأميركية فضلا عن تأمين السيولة الاتصالية وطرق المواصلات الآمنة. وهذا بالطبع لا يمكن ان يتحقق إلا إذا اضحى العالم تحت إمرة الامبراطورية الأميركية.

ويستتر خلف الطموح الامبراطوري الساعي لإعادة هيكلة العالم الأحادي القطب تحالف مجمع الصناعات العسكرية وشركات الاستثمارات النفطية، هذا التحالف الذي يقف وراء اليمين الأميركي الجديد الذي يحكم أميركا والذي أوصل الرئيس بوش وفريقه إلى البيت الأبيض. ولذلك فإن حروب أميركا ستتواصل بداية للاستيلاء على منابع النفط ومواقع انتاجه سواء في آسيا الوسطى أو في الشرق الأوسط ليتحول بعد ذلك إلى مناطق أخرى. ونتيجة التوجه الحربي فقد قفزت الموازنات الأميركية المخصصة لشراء السلاح والبحث والتطوير في العام 2002 إلى 109 مليارات دولار، أي بزيادة 54 في المئة عن العام السابق، الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة تقويم بورصة «وول ستريت» لأسعار أسهم الشركات العسكرية وإلى رفع رأس المال السوقي لها إلى مستويات عالية.

ولذلك أصبحت الولايات المتحدة تستحوذ حاليا على حوالي 40 في المئة من النفقات العسكرية العالمية. ومن المتوقع وفق خطط زيادة الانفاق العسكري للسنوات المقبلة ان ترتفع هذه النسبة إلى 60 في المئة. طبعا هذا الجنوح الحربي بات مصدر قلق للغالبية الدولية بما في ذلك الدول الحليفة لأميركا نفسها، وأحد أسباب الاحتجاجات الشديدة والواسعة على التهديدات ضد العراق تنبع من هذا القلق، الذي لابد ان يفرز مشاعر العداء لأميركا ويخلق مزيدا من الاعداء لها، وبمرور الوقت سيؤدي ذلك إلى استنزاف الامبراطورية الأميركية وانهيارها.

وبهذا المعنى، فإن الاجتهاد في إيجاد الأعداء سيؤدي بالضرورة إلى ان تجد أميركا مصيرا مشابها للامبراطورية الرومانية

العدد 25 - الإثنين 30 سبتمبر 2002م الموافق 23 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً