العدد 2536 - السبت 15 أغسطس 2009م الموافق 23 شعبان 1430هـ

لبنان وهاجس انتظار الحرب الموقوفة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

منذ صدور القرار الدولي 1701 في صيف 2006 الذي أنهى «العمليات الحربية» في لبنان ولم ينص على وقف إطلاق النار يعيش الناس في البلد الصغير هاجس «ضربة انتقامية» تقوض ما تبقى من بنى تحتية في بلاد الأرز.

ثلاث سنوات مضت والشعب اللبناني ينتظر تلك «الضربة» العسكرية وهي حتى الآن لم تحصل ولا يعرف متى ستقع. هاجس الخوف يقض المضاجع وفي الآن يعطي فرصة للناس بأن تعيش على هامش الاحتمال على أمل ألا يتكرر السيناريو، في وقت لا يزال البلد يمر في طور إعادة ما دمره العدوان. عشرات القرى التي أحرقت في الجنوب اللبناني لم تستعد عافيتها وتعود لها تلك الحيوية السابقة. قرى أعيد بناء أجزاء مما تهدم والأجزاء الباقية لاتزال تنتظر. بلدات نجحت في ترميم أبنيتها العامة والمؤسسات الرسمية والمدارس والمستشفيات ولكنها لاتزال تتأمل الحصول على مساعدات مناسبة لتعويض عائلات خسرت منازلها. فالتعويضات والمساعدات كانت مجزية ولكنها لم تكن كافية لتغطية الخسائر وإعادة الحال كما كان عليه قبل ثلاث سنوات.

حتى اللحظة لم يغلق ملف الحرب. والهاجس لايزال ينمو ويتصاعد. فالكل متوافق على أن الضربة الانتقامية ستحصل ولكن الخلاف بين اللبنانيين يدور على نوعيتها وحجمها وذريعتها وتوقيتها. هل تكون الضربة من العيار الثقيل؟ هل ستشمل كل الأراضي اللبنانية أو نصفها أو ربعها أو ستقتصر على شريط الحدود في الجنوب؟ هل التوقيت في الصيف أو نهاية موسم الاصطياف أو في الخريف أو مطلع الشتاء أو الربيع المقبل أو ما بعد الربيع؟

حديث الحرب لا يتوقف. والسيناريوهات التي تسردها الصحف والمحطات نقلا عن وعن تفيض عن الحاجة. فالكل خبراء في الاستراتيجيات العسكرية والتوقعات والاحتمالات. البعض يستبعد الحرب اليوم ولكنه لا يستبعد وقوعها غدا. البعض يؤجل توقيت الحرب لأن «إسرائيل» لم تستكمل جاهزيتها وهي تخاف من التورط بها حتى لا تتكرر خيبتها وتخفق فيها كما حصل في 2006. البعض يؤخر الضربة إلى أجل غير مسمى لأن الظروف الدولية والإقليمية غير مؤاتية. والبعض يؤخرها إلى أمد قصير لأن عقلية الكيان الصهيوني لا تستطيع السكوت عن الإهانة والبهدلة، وهي مضطرة للرد حتى لا تفقد هيبتها أمام المستوطنين.

الكل خبراء في التحليل والتفكيك والتركيب والتوقعات. البعض يرى أن «إسرائيل» تلقت هزيمة كبرى وهي غير قادرة لا اليوم ولا بعد مئة سنة على تكرار تجربتها الفاشلة. البعض يرى أن الكيان الصهيوني تلقى نكسة صغيرة أحبطت جبروته إلى حين ولكن هذا الأمر لا يمنع تل أبيب من اختيار الفرصة المناسبة للرد بقوة غير منتظرة. البعض يرى أن العدوان فشل في تحقيق أهدافه المعلنة ولكنه دمر البلد وأضعف الدولة ودفع الناس إلى الاقتتال الداخلي. البعض يرى أن «إسرائيل» استفادت من التجربة ونجحت في التكيف معها واستأنفت استعداداتها لمواجهة كبرى تنتظر «خطأ ما» تستغله ذريعة للعدوان الشامل.

سيناريوهات الضربة من عدمها تدل على حالات التشويش السياسي الناجم عن هاجس احتمال حصول الحرب الموقوفة في لحظة معينة ولكنها غير مؤقتة. حتى الآن مضت ثلاث سنوات على «تجميد العمليات الحربية» ولم يصدر ذاك القرار الدولي بإعلان وقف إطلاق النار. والنقاش بشأن المسألة لم يتوقف. هل خسر لبنان الحرب؟ هل ربح حقا؟ هل كسر شوكة العدو؟ هل هذا البلد الصغير سجل فعلا الانتصار العسكري الوحيد ضد «إسرائيل» منذ تأسيسها في العام 1948؟ هل ستقوم تل أبيب بالرد أم أنها حققت مرادها ولم تعد بحاجة إلى مزيد؟

بين القبيلة والدولة

أسئلة كثيرة يمكن إدراجها تحت عنوان «ماذا تعني الهزيمة؟ وماذا يعني الانتصار؟». فالعنوان عريض ويحتمل النقاش الخلافي وهو يتكيف تحت يافطات طائفية ومذهبية ومناطقية. والعنوان أيضا وبسبب اتساع مساحته الجغرافية عرضة للتأويل والاجتهاد والتفسير والتشريح. فهناك من يرى الكأس من الأعلى (جانبها الفارغ) وهناك من ينظر إلى الكأس من تحت ولا يرى سوى الإيجابيات. وبين السلبيات والإيجابيات يتعطل الحوار العاقل وتندفع الهواجس نحو نقاشات حامية لا تتقبل النقد ولا تتحمل المراجعة. بعض اللبنانيين (نصفهم تقريبا) غير مقتنع بأن لبنان انتصر حتى بعد صدور تقرير لجنة «فينوغراد الإسرائيلية» الذي تحدث عن إخفاقات في العدوان. بعض اللبنانيين (نصفهم الآخر تقريبا) مقتنع بأن لبنان انتصر بعد لحظات من صدور القرار 1701 باعتبار أن «إسرائيل» فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة (الإفراج عن الأسيرين مثلا). وبين هذا «البعض» وذاك «البعض» تحرص شرائح قليلة على تأسيس قراءة موضوعية لا تبالغ بالهزيمة ولا تبالغ بالانتصار. فالهزيمة تعني أن العدو انكسر نهائيا ولم يعد بإمكانه العودة إلى القتال. والانتصار يعني أن لبنان حقق واجباته وما هو مطلوب ولم يعد في موقع يسمح لغيره بمحاسبته على إنجاز تاريخي هو الأول والأخير في المنطقة العربية.

قراءات كثيرة صدرت خلال السنوات الثلاث وهي في مجموعها لم تنجح في الإجابة عن السؤال: هل توجه «إسرائيل» ضربة انتقامية؟ والسؤال المذكور موصول بأسئلة لا تنتهي من نوع متى (التوقيت) وكيف (الحجم) ولماذا (الذريعة). وفي الخلاصة العامة هناك ما يشبه التوافق اللبناني على تغليب احتمال الحرب ولكن الاختلاف لايزال يتركز على توقيت الضربة. البعض توقع أن تحصل الضربة قبل مغادرة جورج بوش البيت الأبيض. البعض توقع أن حكومة ايهود اولمرت لن تترك مواقعها قبل أن تكون قد سددت تلك الضربة. وفعلا تحقق التوقع حين توافقت تل أبيب مع واشنطن على توجيه ضربة عسكرية قبل أسابيع من مغادرة بوش البيت الأبيض واولمرت تل أبيب... ولكن جاءت ضد قطاع غزة. التوقيت حصل في لحظته المقررة سلفا ولكن المكان اختلف إذ اختار التحالف الأميركي - الإسرائيلي أن توجه الضربة ضد غزة لا لبنان.

القطاع الآن يعيش الهاجس نفسه (الانتقام والتوقيت). والنقاش يدور بشأن «معنى الانتصار» و»معنى الهزيمة». وكيف يمكن تعريف الهزيمة؟ وكيف يمكن قياس الانتصار؟ ويرجح أن يستمر الحوار الساخن في غزة إلى فترة طويلة قبل أن يحسم الجواب الأمر بهذا الاتجاه أو ذاك؟

ما يحصل الآن في غزة (حروب فصائل وأمراء مناطق) وما حصل في لبنان على امتداد ثلاث سنوات يكشفان عن وجود خلل في التقييم والتصويب والتصحيح والمراجعة. وهذا هو الفارق بين «ثقافة القبيلة» و»ثقافة الدولة». فالأولى عضوية (عضلية) لا تحتمل النقاش العاقل الذي يقرأ الوقائع ويستخلص الدروس منها استعدادا للأسوأ. والثانية قانونية (عمرانية) تستفيد من التجارب والأخطاء وتعمل على تداركها في حال تعرضت للامتحان في لحظة لا يعرف توقيتها ومكانها. وبسبب هذا التعارض بين المنهجين يجد «المنافقون» فرصتهم للكذب والاحتيال والمناورة والتهريج ما يرفع من نسبة التشويش ويعطل إمكانات الاستفادة من الحقائق الميدانية ويفوت على الناس الاستماع إلى قراءة هادئة تحاول أن تستوعب حتى تتجاوز الثغرات.

ثلاث سنوات مضت على صدور القرار 1701 بتجميد العمليات ولبنان لايزال يعيش هاجس «إطلاق النار». الهاجس مشروع لأنه يؤرق الملايين من الناس ويعطل عليهم إمكانات التفكير بالمستقبل. ومستقبل بلاد الأرز موقوف حتى الآن لأن قواعد اللعبة اختلفت وهي معطوفة على احتمالات حرب متعادلة ونتائجها غير محسومة بين الهزيمة والانتصار. وهنا بالضبط يكمن الخلل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2536 - السبت 15 أغسطس 2009م الموافق 23 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً