العدد 2562 - الخميس 10 سبتمبر 2009م الموافق 20 رمضان 1430هـ

جدليات التفكير الديني في إيران

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

السياقات التاريخية والمرجعيات ليس بوسعنا تقديم قراءة أقل تحيزا للتفكير الديني في إيران من دون الإشارة بإيجاز إلى السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للاجتماع الإيراني، فالإنسان ابن بيئته والمحيط الخاص الذي ينشأ ويتموضع فيه، والفكر حصيلة تفاعل الذهن والوجدان والخيال مع الواقع وملابساته، وما يحفل به من اختلالات وتحولات متعاقبة. وميزة التفكير الديني في إيران أنه ذو جذور راسخة في التاريخ، وينهل من منابع لا تنضب، وتغذيه روافد غزيرة، وتتنوع مرجعياته التي يستقي منها ويصدر عنها. ونلمح فيما يلي إلى شيء من تلك المرجعيات والمنابع والجذور والخصوصيات:

1 - ظهرت عدة حضارات في عصور سحيقة في العالم، غير أن معظم هذه الحضارات اندثرت وانطفأت ثقافاتها، وماتت لغاتها. أما الإشارات والحروف المستخدمة لديها في التدوين، فخرج أغلبها من التداول إلى الأبد. ولم تعد للناس في البلاد المتوطنة فيها تلك الحضارات أية وشيجة تربطهم بها، لانتمائهم لثقافة بديلة هاجرت فيما بعد إلى هذه الديار، ولم تكن قادرة على وراثة الثقافات والحضارات السابقة عليها، إثر انقطاع أية وسيلة للتواصل معها، من لغة، أو خط، أو دين، أو آداب... وافتقرت الكثير من الحضارات إلى التواصل مع ما تلاها في الرقعة الجغرافية ذاتها، فلم يكن تاريخها تراكميا، بل تجلت فيه القطيعة التاريخية والانفصال التام عن الماضي البعيد.

لكن شيئا من التواصل الحضاري، واستيعاب الثقافة اللاحقة لبعض عناصر ومكونات الثقافة السابقة، وتمثلها، وإعادة إنتاجها، كان علامة فارقة للحضارات الإيرانية المتعاقبة، فالساسانيون ورثوا الاخمينيين، وهكذا حال الأقوام الذين خلفوهم في العصور الإسلامية، فقد ورثوا خلاصة ما أنجزوه من أنماط تمدن، وفنون، وآداب، وفلكلور، وثقافة، ولغة... فأضحى تاريخ هذه البلاد تراكميا، تتداخل وتتفاعل إيجابيا في أنساقه الثقافات، ويتصالح فيه الحاضر مع الماضي، ولا يطمسه، أو يجتثه، أو ينفيه. أي أن التاريخ هنا لا يبدأ من الصفر دائما مثلما تفعل بعض المجتمعات غير القادرة على مراكمة خبراتها وتطويرها. كما ظل الدين أحد مكونات الهوية القومية، وتم دمجه بسواه من العناصر الأخرى المحلية.

2 - انفتح الإيرانيون على الثقافات الشرقية والغربية في وقت مبكر من تاريخهم، ففي مدرسة جندي شابور تمازجت مجموعة مكونات ثقافية وافدة من اثينا ومدرسة الاسكندرية والهند وغيرها، وتلقت الثقافة الإسلامية بعض النصوص الشرقية عبر مرورها بالفارسية، وأمست إيران قنطرة لعبور آداب وفنون ومعارف المجتمعات الأخرى، من الشرق إلى الغرب، ومن مشرق البلاد الإسلامية ومغربها إلى آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية. ونشاهد في عدة آثار ما يشي بالدور الذي اضطلعت به المراكز والحواضر العلمية في هذه البلاد، كما في «تحقيق ما للهند من مقولة...» للبيروني.

3 - عمق التجربة الروحية وغناها وتنوعها، فالشخصية الإيرانية مسكونة بالأسرار، تدمن الارتياض، والممارسات الطقوسية، المتمثلة بالأدعية، والمآتم الحسينية، ومجالس الذكر، والزيارات... وكل ما من شأنه تكريس نزعة الاستشراف والحوار الجواني، والتأني والصبر والجلد، والتخلص من النزق والطيش، والتسرع في اتخاذ المواقف والقرارات.

4 - الفسيفساء الاثنية والفضاء الاجتماعي في إيران مشبع برموز وشفرات وإشارات تهب الإنسان إمكانات واسعة للتأمل والتدبر وإمعان النظر حين يتعامل مع الغير، وتمنحه عملانية وواقعية، وقدرة على التكيف والانسجام مع الآخر والإصغاء له. وكان من نتائج ذلك أن اصطبغ الإنتاج الفكري بمواءمة وتوليف مجموعة عناصر ودمجها وسبكها في مركب تستقي مادته من منابع مختلفة وتغذيه مناهل متعددة.

5 - يمكننا ملاحظة الأبعاد الجمالية بوضوح في الآداب والمواجيد والشعر الصوفي في إيران، مثلما يتجلى الذوق الفني في الرسم والفنون التشكيلية والموسيقى والسينما والمسرح، وتدبير المنزل والعمارة والبناء. وتفيض اللغة الفارسية بالرقة، وترفد المشاعر والأحاسيس بالدفء، بما تشتمل عليه من إيقاع صوتي وسلم موسيقي متناغم.

وهكذا تحاكي الطبيعة الأبعاد الجمالية في التمدن الإيراني، بتضاريسها الخلابة، واختلاف مناخاتها وتنوع طقسها، بنحو تتجاور فيه أربعة فصول في وقت واحد.

6 - امتداد الميراث العقلاني في المنطق والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه، وما يصنف على المعارف العقلية في التراث، والاهتمام بدراسته وتدريسه على الدوام، واستدعاء تقاليد المناظرة والمدارسة والمباحثة والجدل بأسلوب (إن قُلتَ قُلتُ) في التعليم الديني في الحوزات العلمية.

وقد كان للحضور الأبدي للمعارف العقلية في الحوزات العلمية بالغ الأثر في إطلاق عملية التفكير وتنميتها، وان كانت تلك المعارف ما انفكت تتحرك في قوالب المنطق وأشكال القياس الأرسطي التي ظلت تعمل على كبح العقل، وعدم تجاوز الترسيمات المعروفة في تشكيل وصياغة المفاهيم، وفي المحاججة والاستدلال.

بيد أن آفاق التفكير العقلي لم تنغلق تماما، ذلك أن المنهجية التشكيكية، ونمط الأدوات والمفاهيم المتداولة في المعارف العقلية الموروثة أسهمت في إيقاد جذوة التفكير وتأجيجها باستمرار.

7 - عراقة المنحى التأويلي في الموروث الشيعي، ونموه وتكامله عبر الزمن، باقتناص واستلحاق رؤى وأدوات منهاجية مختلفة. وشيوع دراسة العرفان النظري، وخاصة نصوص وتراث المتصوف المعروف محيي الدين بن عربي، وهي نصوص تفيض بنزعة إنسانية، ومواقف تصالحية مع الأديان والثقافات، وتعمل على اكتشاف المشتركات، حين تتوغل في جوهر الأديان، وتغوص في عمق التجارب الدينية لاتباع الملل والنحل المختلفة، لترصد تجلياتها وآثارها العامة.

وهذا ما دعا لاهوتيين كبارا مثل العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي أن يتعامل برفق ورقة واحترام مع نصوص ديانات آسيوية، يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان: «العرفان أول ما يسترعي اهتمامي. أجد انشدادا قويا إلى العرفان، أنا من عشاق المذهب الطاوي، وأهوى (جوانغ تزو) للغاية. قضينا دورة بأستاذية العلامة الطباطبائي، وكان يبدي رغبة أكيدة في الاطلاع على كتاباتهم، ولأنها لم تكن مترجمة، عكفت أنا والدكتور سيد حسين نصر على ترجمتها. كان يفسر شانكارا كأنه أستاذ بالضبط، ويتركنا في حيرة من الأمر، فمثلا في أحد الاوبانشادات عبارة تنطوي على مفارقة (الذي يفهم لا يفهم، والذي لا يفهم يفهم) وقد فسّر الطباطبائي هذه العبارة، وأجلى غشاوتها، وحلل مضمونها، بنحو أدهشني. بعد ذلك ترجمت أنا والدكتور نصر كتيبا صغيرا من تأليف لاوتسه، اسمه (داو جينغ) كله مفارقات. نقلناه من النص الانجليزي إلى الفارسية. وحينما قرأه العلامة الطباطبائي قال: (هذه أهم رسالة قرأتها في عمري) وصار من عشاق (داو جينغ)».

كما أن نصوص العرفاء والمتصوفة تعمل على خلق مناخات رحبة للتأويل وتعدد القراءات وتنوع الفهم، وبالتالي تجاوز ظواهر الألفاظ، ومحاولة اقتناص مداليل لا تحكيها الكلمات بصراحة.

8 - في نصف القرن الأخير حدث انزياح واسع للغة العربية في الحوزة العلمية في قم، فأصبحت بالتدريج لغة ثانية، بعد أن عبرت اللغة الفارسية إلى الحلقات الدراسية والنقاشية، وأصبحت تحتل مواقع العربية في المقررات الدراسية والتعليم والتأليف.

وتغير لغة التعليم الديني يعني تغيرا في الرموز الدلالية، وأسلوب بيان المفاهيم، والتعبير عن الرؤى والأفكار. ولا ريب في أن صياغة المفاهيم والرؤى والآراء والمعارف الدينية بشفرة لغوية أخرى، سيفضي إلى تشكيل حقل دلالي بديل، وانبثاق فضاء ثقافي، يستمد مكوناته وعناصره من ميراث هذه اللغة وآدابها، وأساليبها البيانية والتعبيرية، ذلك أن لكل لغة معجمها الخاص، وتراكيبها، وبنيتها، ومواضعاتها، وملابسات نشأتها وتحولاتها.

ومن المعلوم أن نصوص كل دين عندما تنقل من لغة إلى أخرى، تعاد صياغتها في آفاق اللغة الجديدة، وطبيعة ثقافة الشعب الذي يتحدث بها. مما يمنح النص فاعليات وإمكانات مختلفة، لم يمتلك شيئا منها في عوالم اللغة السابقة.

وبوسعنا ملاحظة تحولات الفكر الديني المسيحي عندما عبرت نصوص هذه الديانة من الآرامية إلى اليونانية، فاللاتينية، وأخيرا اللغات الأوروبية بعد حركة الإصلاح الديني ودعوة مارتن لوثر لترجمة الكتاب المقدس للألمانية والانجليزية والفرنسية.

9- في معظم البلاد العربية والإسلامية تتخصص بالدراسات الدينية الحواضر العلمية التقليدية ومدارس وكليات الدراسات الشرعية، ولا يهتم الأكاديميون وعموم المثقفين من غير الدارسين في تلك الحواضر والمدارس والكليات بهذا النوع من الدراسات، وربما يحسب الكثير منهم أن مهمة التفكير في الدين وما يرتبط به من إشكاليات أمر لا يعنيهم، باعتباره من مهام تلك المؤسسات، ولذلك لا نجد تيارا في وسط النخبة يصنف على المثقف الديني، الذي يتعاطى مع الموروث والتمثلات الاجتماعية للدين بوعي نقدي، وباستطاعته توظيف المفاهيم والأدوات المنهاجية في العلوم الإنسانية الحديثة، حين يتعامل مع تعبيرات وتمثلات الدين في الواقع.

بينما تنخرط معظم النخبة في إيران في التفكير الديني، ويتعذر على الحواضر العلمية الدينية المعروفة بالحوزات العلمية احتكار التفكير والدراسة والبحث في قضايا الدين وظواهر التدين، ذلك أن الدارسين والباحثين في الجامعات والمنتديات الفكرية والجمعيات الثقافية يتناولون الشأن الديني وأنماط التدين في حلقاتهم النقاشية ودراساتهم ومحاضراتهم، وتحضر بكثافة مقولات ومناهج المفكرين الغربيين وآراء رواد تحديث اللاهوت الكنسي في مقارباتهم للشأن الديني.

10- شمولية التفكير الديني وشيوعه لدى معظم الناس، فكثير منهم ينخرطون في جداليات وسجالات دينية، والكل يتداولون الأفكار والمعتقدات الدينية، حتى أن المفكرين والكتاب المعروفين في إيران يتوارثون تقليدا في التواصل مع المجتمع من خلال ندوات ومحاضرات جماهيرية، يحضرها مئات الأشخاص في المساجد والحسينيات والجامعات، وتسجل في أشرطة ضبط الصوت وتطبع في كتب لتوزع بشكل واسع.

وهذا التقليد الثقافي في التواصل مع الجمهور يدعو المفكر الديني لبناء خطابه وتنظيم افكاره بنحو ينسجم مع المشاغل الذهنية للناس، وما يملأ مخيالهم من فلكلور وأمثال وحكايات ورموز وشفرات ومثولوجيا... وغير ذلك.

إن جدلية المتحدث والمتلقي تثري الخطاب، وتحرره من تهويماته التجريدية، وتقحمه في مطامح الناس وأحلامهم، وتوجه مساره نحو الهموم العاجلة، وتدعوه للاستجابة للمتطلبات الراهنة للاجتماع البشري.

التتمة في العدد المقبل

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 2562 - الخميس 10 سبتمبر 2009م الموافق 20 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً