العدد 2610 - الأربعاء 28 أكتوبر 2009م الموافق 10 ذي القعدة 1430هـ

فلسفة الفراغ

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

كقطرات ماء بدأت الأفكار تتجمع وتتبلور حتى أصبح لها كيان متماسك، لتدور حول محور واضح هو مفهوم: الفراغ.

عندي ولع بفلسفة المكان في تقاطعها مع فلسفة الزمن. بدأ هذا الاهتمام بملاحظات متناثرة لم يكن بينها رابط، وطفقت أبحث عن خيط ناظم فرزقني الله بكتاب «الوجود والزمن» لهايديجر الذي طوّر أفكاري، ثم كتاب ديفيد هارفي «مساحات الرأسمالية» لأفهم أمكنة الحداثة أكثر.

جاء هايديجر من خلفية ألمانية مهتمة بالمتجاوز والكلي، ورث تراث كانط وهيجل وماركس وغيرهم، وأضاف بعد الوجود والمكان في تضافرهما مع الزمن فجاءت فلسفته عميقة وقادرة على التفسير. أما ديفيد هارفي فأستاذ جغرافيا أفلح في تحويل دراسة خرائط المكان لمنطلق لدراسة خرائط المعنى وطغيان الرأسمالية على السوق وعلى الثقافة والقيم... وتطلع من على أرضية ماركسية لإحياء اليوتوبيا في ظل احتفال الوضعيين والبراجماتيين بما أسموه سقوط الأيديولوجيا... وانتصار الليبرالية... ونهاية التاريخ، التي هي في جوهرها أطروحة في نهاية الحلم ونهاية الأمل في واقع بديل ومختلف... وأكثر عدلا. تعلمت منهما أن النظام الفلسفي ينبع من مساحة الأمكنة التي نسكنها ويعيد تشكيلها، فالمعاني والمباني متضافرة، والإنسان يتحرك بوجوده فيها... ويتأثر وعيه بها.

بعيدا عن الفلاسفة... في رؤية المعماريين المكان فراغ، خيال المعماري يملأ الفراغ بتصور يرسمه على الورق ثم يحوله إلى بنيان يشغل المكان، ويتم فيه التعامل مع الفراغ بفلسفة السكنى أو الاستخدام مما تتيح حركة الإنسان في المكان وتواصله معه، وانفراده بمساحات أو تقاسمها مع آخرين، ويعكس المعماري والفنان في تفاصيل الأمكنة وتقسيمات المساحة وتوزيعها فلسفة للوجود والقيم... ورمزية لمعاني الجمال في ثقافة ما.

لكن الفراغ لا يكون فقط في المكان: فراغ بين كتل صماء، بل يكون في المجتمع، فراغ أو تكتل بين أحياء، إذ تتنوع المجتمعات بين مجتمعات عضوية تقوم على لُحمة القرابة والعصب وتعاضد الجماعة، أو مجتمعات تعاقدية تتأسس على الفردية. ولكل من هذه المجتمعات فلسفته في الكتلة الاجتماعية ومساحات الفراغ (من الجماعة) وهو ما يسمى بالخصوصية. فالخصوصية مساحات معنوية وتقسيمات مكانية، والهندسة الاجتماعية للإسلام تقسم الفراغ والكتلة تقسيما فلسفيا ومعماريا فذا يحقق فطرة الإنسان ويحمي الجماعة الإنسانية في توازن فريد يحقق الاستخلاف... بإحسان. ومنظومة الأدب الإسلامي وأخلاق حماية الخصوصية وآداب الحدود بين الخاص والعام والفردي والجماعي تتناغم في إيقاع فريد في التشريع الإسلامي.

والسياسة فيها بعد مكاني غالب، تحرك بعض الأنظمة الجموع في مساحات المدن لكن يظل «المجال العام» بالمعنى المدني فارغا، والعصيان المدني هو ملء فراغات الفعل وفراغات المكان بنزول للشارع وتكتل في فراغ واسع لإرسال رسالة احتجاج تملأ العين والبصر.

للفراغ أيضا أبعاد في الزمن، فالوقت مجال الفعل، والفعل يعني حركة تملأ مساحة الزمن، والله يدعو العبد أن يمشي في مناكبها، ثم بعد أن يفرغ... يتفرغ، ينتقل من شغل الوقت بالإنتاج المادي إلى ملء الوقت بالمعنى: الترقي المعنوي والفعل العبادي، «فإذا فرغت فانصب. وإلى ربك فارغب» (سورة الشرح: 7 و8). فالعبادات فراغ من هَمِّ الدنيا وانشغال بهمّ النفس... صفائها وجلائها، وشغل للوقت بما يفرغ الزمن من أسر المكان ليثريه بأفق الغيب وطاقة العرفان.

لكن العصر الحديث خلق لنا مفهوما للفراغ الزمني يختلف بل ويتناقض مع تلك الأزمنة المتكاملة والمتراكبة في أثرها، فهو يملأ الوقت بالعمل في دولاب الاقتصاد من أجل تراكم المال... ثم تفرغك الرأسمالية لسويعات أو أيام عطلة، لا لكي تعيد شحن نفسك وروحك بالمعاني، بل تدفعك أن تدور في فلك آلة الجسد وتحقيق مطالبه المادية التي ينفق عليها المرء فائض هذا المال، ليضخ ذلك في دورة مال وأعمال أخرى، من هنا صناعات السياحة والترفيه ومساحات التسوق وأمكنته التي يتم فيها إهدار الزمن بامتياز... وإهدار المال، وكلها تدور حول استثمار وقت فراغك لإنتاج مزيد من الثروة... لآخرين، وللاستهلاك. لا يضحي الفراغ آنذاك فرصة للاستجابة لأشواق الروح وتنمية النفس بل دوران في تحقيق متعة ما في الغالب متوهمة تزينها آلة الإعلان... وتوهم الناس بسعادة تدور في الغالب حول إشباع الغرائز أو الإفراط الترفي في استهلاك اللذائذ.

الفراغ الوجداني أيضا موضوع واسع ينبني على ذلك، فالقلب أيضا قد يمتلئ، وقد يغدو فارغا، ولطالما هزتني آية «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين» (القصص: 10). ويقول المفسّرون إن فارغا هنا تعني ثلاثة أمور، فارغا إلا من ذكر موسى، منشغلا به بالكلية، أو فارغا بمعنى خاليا من الوحي الذي أوحى الله به لها كي تلقي به في اليم، لذا كان ختام الآية «لولا أن ربطنا على قلبها»، أو فارغا بمعنى فارغا من العقل، فالقرآن يصف الكافرين بأن لهم قلوبا لا يعقلون بها، ففي حالتهم القلب منشغل بالهوى فارغ من العقل، وفي حالة أم موسى ممتلئ بالولع والعاطفة ففرغ من التعقل، فثبتها الله بالصبر. وهو ما يعني ببساطة في قراءة المتصوفة أن الفراغ المعنوي والوجداني والإيماني ليس فراغ عدم، بل امتلاء بما سوى الله، وكل امتلاء بما سوى الله والإسلام له وتوحيده هو... هواء. لذا ليس غريبا أن يصف الله الذين ضلوا عن سبيله بأن «أفئدتهم هواء» (إبراهيم: 43). ولذا كان في القرآن دعاء: «ربنا أفرغ علينا صبرا» (البقرة: 250، الأعراف: 126)، كي تمتلئ القلوب باليقين، ينزله الله من خزائن فضله التي لا تنفد... فيثبت الفؤاد.

والفراغ لا يدرك إلا بنقيضه، أنت لا تحيط بالفراغ إلا من خلال الوعي بالكتلة، ولو كان فراغا في فراغ فلن ترى شيئا، ولا تعرف أن قلبك كان فارغا إلا لو ملأه شاغل، فتفهم ما كان ناقصا فيك، لذا قالوا لا يعرف الشوق إلا من يكابده، فراغ القلب من الحب لم يكن محسوسا إلا عندما امتلأ... بالوجد.

هناك إذا تداخل في المعاني المحسوسة والمعاني المجردة في فهم الفراغ، وتقاطع مع فراغ الزمن من شجون وشغله واحتلاله بشئون أخرى. والقضية هي كما يقول أهل التزكية قضية تخلية، وتحلية. تخلية القلب عن معاني تملأ فراغه، وفراغ الساعات، واستحضار معاني أخرى يتحلى بها القلب. ولك أن تختار فراغاتك... وشواغلك، وحال قلبك وروحك.

فيما نشاهد قد يتجاور امتلاء المساحة مع فراغ المعنى، قد يكنز الناس ذهبا وفضة ومتاعا، تملأ المكان وتملأ السمع والبصر، والعقل والتدبير، لكن يظل الإنسان خاويا في جوهره... فارغا.

وأخيرا وليس آخرا نجد في مساحات اللغة أيضا كلاما في هذا المقام يفيد في فهم الفراغ، يقولون: هذا كلام فارغ. أي رغم لغطه خالٍ من المضمون، أو مِعْوَجّ منحرف عن المعنى القويم، وقد يكون لغوا لا فائدة منه، وهذا كثير في السياسة والإعلام، كلام فارغ يردده رجال يملأهم... الفراغ... يحتلون مساحات السلطة لتكون مهمتهم تفريغ الأمة من طاقاتها وتفريغ الزمن من حضورنا... وحضارتنا.

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2610 - الأربعاء 28 أكتوبر 2009م الموافق 10 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً