العدد 2633 - الجمعة 20 نوفمبر 2009م الموافق 03 ذي الحجة 1430هـ

سقوط حائط برلين ومرحلة جديدة في العلاقات الدولية

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني احتفل الألمان بحضور ممثلين عن القوى الأربع (بريطانيا - فرنسا - روسيا - والولايات المتحدة) التي احتلت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وبمشاركة آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، والزعيم النقابي البولندي ليخ فاليسيا رئيس نقابة التضامن ورئيس بولندا بعد سقوط الشيوعية - نقول احتفل العالم بمرور عشرين عاما على سقوط سور برلين في 9 نوفمبر 1989.

والتساؤل الذي نطرحه هنا، ما هي دلالة هذا السقوط بالنسبة لألمانيا وأوروبا والعلاقات الدولية؟ وما هي دلالة ذلك لنا في منطقة الشرق الأوسط؟ وما هي دلالة ذلك للقضية الفلسطينية؟

لقد تم إنشاء سور برلين العام 1961 فيما عرف آنذاك بأزمة برلين واستهدف تأكيد استمرارية انفصال ألمانيا الشرقية عن ألمانيا الغربية، وبرلين الشرقية عن برلين الغربية، ومنعت ألمانيا الشرقية بإيعاز من الاتحاد السوفيتي آنذاك وصول المواد الغذائية أو الأفراد إلى برلين الغربية إلا بالطائرات، وهو ما اضطر الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي للذهاب إلى برلين الغربية المحاصرة بالطائرة، وأيضا منع الألمان الشرقيين من السفر أو الهروب إلى ألمانيا الغربية، وهو الهروب الذي بدأ العام 1945 ووصل حجمه إلى عشرة ملايين ألماني.

لقد كان إقامة سور برلين العام 1961 إيذانا بتوتر العلاقات بين الشرق والغرب، وتأكيدا على استمرارية انقسام العالم في ظل الحرب الباردة وعلى انقسام ألمانيا إلى دولتين، ومن ثم فإن سقوط سور برلين العام 1989 كان إيذانا بنهاية الحرب الباردة، وبتوحيد الألمانيتين، وبتوحيد مدينة برلين، وبدء مرحلة جديدة من العلاقات الدولية عامة والعلاقات الأوروبية بوجه خاص، ومن ثم فقد تلا سقوط سور برلين سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك امبراطوريته، وكذلك سقوط حلف وارسو. ومن ثم فإن الانقسام الذي ظهر في أوروبا، بين أوروبا الشرقية بنظامها الاشتراكي وأوروبا الغربية بنظامها الرأسمالي الديمقراطي، انهار واتجهت أوروبا نحو مزيد من التوحد.

ولعلنا نشير في عجالة إلى دلالات المرحلة الجديدة على النحو التالي:

الدلالة الأولى: إن إرادة الشعوب هي التي تسير التاريخ، فإرادة الشعب الألماني هي التي أقامت الوحدة الألمانية في عهد بسمارك العام 1870 وهي التي أعادت الوحدة الألمانية مجددا العام 1989 بسقوط سور برلين تحت وطأة اندفاع الشعب الألماني من جانبي السور وإعلان سقوطه، ثم توحيد ألمانيا، وتوحيد مدينة برلين وإعادتها عاصمة لألمانيا الموحدة.

الدلالة الثانية: إن إرادة الشعوب لابد لها من قوة دافعة أو قائدة، كما أنه لابد من ملابسات تاريخية تعبر عن مرحلة من نضج الحركة. وهذا ما حدث في ألمانيا عندما سقط سور برلين بعد مرحلة البروسترويكا التي أطلقها ميخائيل جورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفيتي الذي تولى السلطة العام 1985، ووجد بلاده تواجه العديد من المشاكل، فاتجه بشجاعة للإصلاح العام 1986 ولكنه حسب خطواته خطأ، فقد كان هدفه إنقاذ الاتحاد السوفيتي، ولكنه أدى إلى انهياره. بالطبع هذا الخطأ غير المقصود أدى إلى تغيرات في أوروبا وفي العالم بأسره.

الدلالة الثالثة: إن الوحدة الألمانية المستعادة لم تكن بلا ثمن، فقد كانت ألمانيا الشرقية أكثر فقرا، وأكثر تخلفا، مقارنة بألمانيا الغربية، ولقد ساهم الشعب الألماني بأكثر من 1200 مليار يورو من أجل إعادة بناء ألمانيا الشرقية وإعادة بناء برلين لكي يتم تقريب مستوى المعيشة بين المنطقتين، ورغم كل ذلك فإن مستوى رواتب أهالي ألمانيا الشرقية سابقا أقل من نظيره في المناطق الغربية بـ 30 في المئة، ونسبة البطالة ترتفع في مدن المناطق الشرقية بـ 25 في المئة عن نظيراتها في مدن المناطق الغربية بألمانيا. ولهذا فلا عجب أن تعلن المستشارة الألمانية أنجيلا مريكل في مناسبة الذكرى العشرين لسقوط سور برلين أن الوحدة الألمانية لم تكتمل بعد نظرا لاستمرار الفوارق في الأوضاع الاقتصادية بين شرق ألمانيا وغربها.

الدلالة الرابعة: إن تأثير القوى الكبرى على مسيرة العلاقات الدولية لا يمكن انكاره. فقد انقسمت ألمانيا العام 1945 نتيجة حركة القوات من دول الحلفاء لاحتلال ألمانيا بما في ذلك عاصمتها برلين وأعيد توحيدها نتيجة قرار روسي بعدم التدخل عسكريا ضد إرادة الشعوب والسماح لشعوب الاتحاد السوفيتي السابق بالاستقلال، سواء في اوروبا الشرقية أو في آسيا الوسطى، وتغير وضع الاتحاد السوفيتي الذي قام العام 1917 نتيجة الثورة الاشتراكية فيه آنذاك إلى دولة جديدة العام 1990 بعد انهياره، وحدث العكس بالنسبة لألمانيا التي تم توحيدها العام 1870 ثم تجزئتها العام 1945، ثم إعادة توحيدها العام 1989 بعد سقوط سور برلين. السياسة السوفيتية في عهد جورباتشوف كان أكثر واقعيا وبرامجاتية وأكثر إدراكا لمسيرة التاريخ وإرادة الشعوب.

الدلالة الخامسة: إن العديد من الكتاب والباحثين والأكاديميين آنذاك أعلنوا بتسرع عن مفاهيم مثل نهاية التاريخ، وانتصار الرأسمالية والديمقراطية مثل فوكوياما، وبعضهم أعلن حربا باردة جديدة بإطلاق مفهوم صراع الحضارات مثل صامويل هاننجتون، ولكن بعد مرور أقل من عشر سنوات من إطلاق تلك المفاهيم عادت للظهور نتيجة حركة التاريخ، عملية مراجعة شاملة، فلم ينته التاريخ ولم يتوقف، كما أن الأزمة المالية العالمية في العام 1997 في آسيا، ثم في العالم العام 2008، أكدت أن العالم الذي أصبح خاليا من الشيوعية تقريبا لا يستطيع أن يتجاهل بعض مفاهيم التضامن الاجتماعي، والعمل الدولي المشترك، وأهمية الإطار متعددة الأطراف في العلاقات الدولية، وإن مفاهيم مثل صراع الحضارات، والحرب على الإرهاب والهيمنة، مفاهيم خاطئة وقد تؤدي إلى انهيار الولايات المتحدة، كما أدت إلى انهيار قوى عالمية كبرى عبر مسيرة التاريخ البشري، وآخرها انهيار الاتحاد السوفيتي. ولعل إدراك الولايات المتحدة نسبيا بأن بعض تلك المفاهيم خاطئة، هو الذي أدى إلى انتخابها باراك أوباما، بفكرة التحرري ونزعته المستقبلية، إلى سدة الرئاسة. ولكن من الصعب استباق الأحداث، فما زال أمام أوباما والفكر الجديد في الولايات المتحدة مرحلة لإثبات مدى قدرتهم على تحقيق هذا التغير، ومدى استمراريته، فالتحديات كبيرة أمام القوى العالمية الأولى، والقرارات المهمة ماتزال تنتظر القيادة الأميركية سواء بالنسبة لمسألة التغير المناخي، أو بالنسبة للعمل الجاد في إطار التنظيم الدولي المتعدد الأطراف، ولهذا دعت أنجيلا ميركل الولايات المتحدة لإدراك ذلك التطور في العلاقات الدولية ومستلزماته.

في حين دعت هيلاري كانتون، وزيرة الخارجية الأميركية وممثلة بلادها في الاحتفال بالذكرى العشرين لسقوط سور برلين، إلى بناء شراكه أقوى بين الولايات المتحدة وأوربا من أجل إسقاط جدران القرن الحادي والعشرين، ومكافحة القمع الديني الذي تمارسه حركة طالبان خصوصا.

الدلالة السادسة: بالنسبة للعالم العربي، هو أن الوحدة العربية ضرورية أكثر من أي وقت مضى في عالم تتوحد فيه أوروبا وتدعو لشراكة جديدة مع الولايات المتحدة، ويتجمع فيه قادة ايبك (آسيا الباسفيك) ويتجمع فيه أميركا الشمالية مع دول أميركا الجنوبية في منطقة تجارة حرة، وتتجه فيه أوروبا بالمزيد من الوحدة في ظل معاهدة لشبونة التي تم إقرارها العام 2009م.

العالم العربي، للأسف، لم يدرك قادته، ولا النخب السياسية والفكرية مفاهيم التغير في العالم، من حيث أولوية وضرورة قضايا الوحدة العربية، وقضايا الديمقراطية والحريات، ومخاطر الانقسام الطائفي في كل دولة، وقضايا التجزئة بين أقاليم الدولة الواحدة، والانقسام الحاد في مستوى الدخول بين الشعوب العربية، لقد ضحت ألمانيا الغربية بأكثر من 1200 مليار يورو لتقريب مستوى المعيشة، وإعادة بناء القطاع الشرقي من ألمانيا، أما في العالم العربي فالأغنياء من الدول والأفراد يزدادون غنى، والفقراء من الدول والأفراد يزدادون فقرا، والنخب الحاكمة تحتكر السلطة، وترفض مفاهيم المشاركة الشعبية بخلاف ما حدث في ألمانيا التي أصبحت فيها انجيلا ميركل من ألمانيا الشرقية، هي مستشارة ألمانيا الموحدة نتيجة كفاءتها وقدراتها في ظل انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، العالم العربي ما يزال لم ينضج سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا، بل يعيش في القرن الثامن عشر بمظاهرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو في حاجة لنخب فكرية وسياسية جديدة تدرك مستلزمات وضرورات الحياة في القرن الحادي والعشرين.

الدلالة السابعة: تتعلق بالقضية الفلسطينية التي يتراجع العمل الجاد من أجلها بانقسام الفلسطينيين ما بين فتح وحماس، فضلا عن المنظمات الأخرى الصغيرة وفقدان الرؤية الموحدة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى. الأخطر من ذلك أن دعاة الابتهاج بسقوط برلين مازالوا أعجز عن الحديث ولو بالإشارة للسور الإسرئيلي العازل، ودعاة مكافحة القمع الديني - على حد تغيير هيلاري كلنتون - ليس في مقدورهم الحديث عن القمع الديني والقومي في فلسطين المحتلة، بل يطالبون الفلسطينيين بقبول وجهة نظر المتطرفين الإسرائيليين بالاعتراف بإسرائيل دول يهودية أي دولة أساسها الدين، في حين إن مثل هذه المفاهيم سقطت في أوربا بعد حرب الثلاثين عاما بين الروتستانت والكاثوليك وذلك باتفاقية وستفاليا العام 1648م أي منذ أكثر من ثلاثة قرون ونصف. فالسياسة الإسرائيلية ومؤيدوها ينظرون للماضي، في حين ينبغي أن ينظروا للمستقبل، إنهم يعيشون في القرن العاشر قبل الميلاد في مملكة داود وسليمان وعصر الهيكل بدلا من أن يعيشوا في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد في عصر الانفتاح والتكامل بين الشعوب وتداخل المصالح الاقتصادية، وللأسف فإن القوى العالمية المؤثرة في العالم اليوم لا تستطيع أن تواجه قادة إسرائيل بحقيقة التطور الموضوعي، كما أن شعب إسرائيل مازال عاجزا عن حسن خياره بين السلام والاستقرار والعيش المشترك، وبين استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والذي لا يمكن أن ينتهي إلا بتحقيق مصلحة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي للعيش معا.

الدلالة الثامنة: هي ضرورة إدراك الشعوب العربية والنخب العربية بما في ذلك الفلسطينية أن عصر ملوك الطوائف سوف يزول، وأن عليهم مسئولية إدراك حقائق التغير في القرن الحادي والعشرين، وأن زوال هذا العصر القائم على الضعف والتشرذم وأنانية ملوك الطوائف ودويلاتهم إما أن يزول بإدراك مقتضيات العصر وضروراته، والعمل وفقا لقواعده وقوانينه، التبعة بصورة متجددة. إن إدراك مصالح الشعوب والأوطان من النخب السياسية يعني الإيمان بالحق في الاختلاف ورفض مفاهيم الانفرادية في القرار بدعوى سياسدة هذه الدولة أو تلك، ولعله مما يلفت النظر أن من يتمسكون بسيادة دولهم أو دويلاتهم هم أكثر تبعية للأجنبي ا لقريب أو البعيد، وأكثر خوفا منه وخضوعا لإرادته، في حين يتمسكون بشدة بتلك المفاهيم الخاصة بالسيادة في مواجهة الأقربين لهم.

وأخيرا ينبغي أن نهنئ الشعب الألماني العظم على روح التفاني لديه من أجل المصلحة المشتركة للشعب الألماني في توحيده، وبناء قوته الموحدة الجديدة، وفي نفس الوقت في حكمته بإدراك اتجاه المستقبل، والسعي بقوة لبناء وحدة أوروبية على أسس راسخة، بل والدعوة للدول الكبرى صاحبة حق الفيتو للتنازل عن بعض امتيازاتها لصالح المنظمة الدولية. فهل يدرك العالم بأسره، وهل يدرك العرب خاصة والفلسطينيون على وجه الخصوص، مغزى ومدلول الدعوة الألمانية الجديدة التي أعلنتها أنجيلا ميركل بمناسبة ذكرى مرور 20 عاما على سقوط حائط برلين؟

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2633 - الجمعة 20 نوفمبر 2009م الموافق 03 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً