العدد 2688 - الخميس 14 يناير 2010م الموافق 28 محرم 1431هـ

رحلة الانتقال من الأندلس إلى مصر

مسيرة ابن عربي وأعماله (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ولد ابن عربي (محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الحاتمي) من أسرة عربية تنتمي في أصولها إلى حاتم طي في بلدة مرسية (جنوب الأندلس) في سنة 560هـ (1165م). والده علي بن محمد العربي كان، كما قال عنه، من أئمة الفقه والحديث ومن أعلام الزهد والتقوى.

انتقل به والده، وهو في السابعة، ويقال في الثامنة من عمره، إلى اشبيلية في زمن حاكمها السلطان محمد بن سعد. فقرأ ودرس الحديث والفقه وأخذ علومه عن الشيخ عبدالحق عبدالرحمن بن عبدالله الأشبيلي، وابن زرقون، وأبي الوليد الحضرمي.

مال إلى التصوف وهو في الـ 15 من عمره بتأثير من أسرته وأهله (والده، عمه وخاله)، وأنهى تحصيله العلمي قبل بلوغه سن العشرين، وبدأ يتنقل في حواضر الأندلس متعرفا على شيوخ الصوفية. فتتلمذ على يوسف بن يخلف القمي، واصطحب بعضهم كأبي العباس العريني (التقاه في اشبيلية سنة 580هـ)، وصالح العدوي (صحبه 13 سنة)، ويوسف الشهربولي (صحبه عشر سنوات)، والتقى عبدالله القطان في غرناطة فاستفاد من علمه وتقواه، واصطحب محمد بن أشرف الروندي وغيره من أعلام الصوفية.

حسم ابن عربي موقفه من التصوف ومال إليه قبل أن يستمع إلى ابن بشكوال، إلا أن دراسته القصيرة معه أفادته في تلوين تصوفه بنزعة عقلية فلسفية واجتماعية ونظرة تاريخية للحياة والتقدم.

عاش ابن عربي في قرطبة في فترة إمامة قاضيها ابن رشد وتنقل بين مدن الأندلس من اشبيلية إلى غرناطة في عصر الأمير المنصور نحو عشر سنوات. وحين بلغ الثلاثين من عمره دعاه أمير الموحدين (المنصور) إلى المغرب طالبا تربية ولده (الناصر) وتوقيع المراسيم وإنشاء الرسائل.

لبّى ابن عربي دعوة الأمير في سنة 590هـ (1194م)، واختلفت الروايات عن أعماله وسياساته. هناك رواية خصومه تقول إنه وافق على عرض الأمير المنصور وتوظف في البلاط للقيام بالمهمة المكلف بها وسرعان ما وقعت جفوة مع بطانة السلطان فاضطر إلى مغادرة المغرب إلى تونس ومنها عاد إلى الأندلس. وهناك رواية ابن عربي التي تؤكد حصول العرض من الأمير وذهابه إلى المغرب لكنه ينفي قبول الوظيفة.

استفاد ابن عربي من فرصة وجوده في المغرب فاتصل بشيوخ الصوفية ومعظمهم كانوا من مريدي الشيخ ابومدين (الأندلسي الأصل). ومن هناك توجه إلى تونس وتردد على شيخ الصوفية عبدالعزيز المهدوي وتلقى منه تعاليمه الروحية.

بين الروايتين لابد من تصديق رواية ابن عربي عن نفسه مع التحفظ عليها لأنه كتبها لاحقا بعد اشتهاره كشيخ العارفين في عصره ووسط أهل التصوف. فالمتصوفة عموما لا يقبلون الوظائف الرسمية ولابد أن يكون أخفى هذه النقطة عن مريديه حين أصبح شيخهم الأكبر ومثالهم الأعلى.

أحدثت زيارة ابن عربي لبلاد المغرب انقلابا في سيرته وشكلت منعطفا نفسيا في تطوره الذهني وستكون فاتحة رحلات وتنقلات لن تتوقف سوى في فترات التدريس أو التأليف. فمن مراكش ذهب إلى تونس ثم عاد إلى فاس سنة 591هـ (1195م) لمواصلة دراسة فكر الحركات الصوفية. وخلال وجوده في فاس جاءت أنباء انتصار الأمير المنصور على الفرنجة في معركة الارك في سنة 591هـ وهي آخر انتصارات المسلمين الكبرى في تلك الديار.

شجع الانتصار ابن عربي على العودة إلى اشبيلية، ثم رجع إلى فاس العام 593هـ (1197م) ثم عاد إلى اشبيلية العام 595هـ (1199م). وفي تلك السنة توفي ابن رشد وبعده الأمير المنصور وتولى مكانه ابنه الناصر الذي نجح في مطلع عهده في ضبط الأمن وتسجيل غزوات محدودة ضد الفرنجة.

استقر ابن عربي في اشبيلية إلى سنة 597هـ (1201م)، ثم رحل إلى مراكش ومنها إلى تونس مع رفيقه محمد الهزاز، والتقى هناك بأحمد بن قسي وأخذ منه كتاب والد أحمد “خلع النعلين” وهو كتاب انتقده ابن عربي لاحقا واتهم صاحبه بالدجل والنفاق وادّعاء العلم.

في هذه الفترة قرر ابن عربي فجأة مغادرة الأندلس والذهاب إلى مكة للحج. وبمغادرته انقطعت صلته ببلاد المغرب والأندلس مكتفيا بمتابعة أخبارها. فهو لن يعود إليها وسيمكث ما تبقى من حياته متنقلا بين مصر والحجاز والعراق والأناضول والشام.

لماذا قرر ابن عربي مغادرة الأندلس وعدم العودة إليها؟

هناك أجوبة كثيرة وكلها غير شافية. فالأجوبة مفتوحة وتخضع لاحتمالات مختلفة. الخوف الداخلي إلى جانب القلق على مصير المسلمين ومستقبل وجودهم في الأندلس من الاحتمالات المرجحة.

واحتمال تحريض رجال السلطان الجديد (الأمير الناصر) ضده من الأمور الواردة خصوصا بعد أن أثارت جولاته وتنقلاته بين حواضر الأندلس والمغرب شبهات كثيرة بين خصومه. وغضب الأمير الناصر منه من الاحتمالات المرجحة أما بسبب رفضه وظيفة تربية (كما يقول ابن عربي) وأما بسبب خلافه مع رجال والده المنصور بسبب قبوله الوظيفة (كما يقول خصومه). ويرجح أن يكون العامل السياسي هو الدافع الرئيسي نظرا إلى مخاوف السلطة من تحركاته واتصالاته بالمدارس الصوفية ومحاولة توحيدها في تيار واحد ومنظم في أجواء مشحونة بالانقسامات الأهلية والخلافات على السلطة، مضافا إليها ضغوط الفرنجة على الجبهة العسكرية. وهناك أخيرا تفسير ابن عربي وهو البحث عن الحقيقة من المكان الذي نزلت فيه: مكة.


فترة مصر

وصل ابن عربي مصر في طريقه إلى مكة في العام 598هـ (1202م). آنذاك بلغ سنوات النضج (38 سنة) وهي أخصب فترات حياته. فالأفكار تخمرت في ذهنه وبات في موقع الانتقال من المطَّلع على مختلف تيارات عصره في الأندلس إلى صاحب رأي وموقف في بلاد المشرق. فابن عربي كان متأثرا بتعاليم متصوفة المغرب والأندلس أكثر من متصوفة المشرق. وهو منحاز في نظرته وتأملاته إلى مدارس طفولته وشبابه. كتاباته تشير إلى تأثره بأفكار ابن مسرة الذي أحرقت كتبه الثلاثة (التبصر، الحروف، توحيد الموقنين) في سنة 350هـ (961م)،عادت وانتشرت على يد ابن الفرضي، ثم ضاع تأثيرها لتظهر مجددا في مدرسة المرية برئاسة ثلاث شخصيات صوفية مهمة (ابن العريف توفي 536هـ، وابن برجان توفي 536هـ، وأبي بكر الميورقي توفي 537هـ) اتهمت بالمروق وتمت محاكمتها في مراكش. أثارت المحاكمة انتفاضة فاشلة قادها ابن قسي (تلميذ ابن العريف) في سنة 537هـ (1142م) بعد سنة من وفاة أستاذه. وتقارب وفاة قادة الصوفية الثلاثة يشير إلى تعرضهم لحالات تعذيب أدت إلى رحيلهم في فترة واحدة.

الثابت عن ابن عربي أنه نهل من ذاك الموروث الصوفي، فهو يذكر ابن مسرة خمس مرات في كتبه ولا يخفي إعجابه به، ويرجع إلى كتاب ابن برجان “إيضاح الحكمة” في مناسبتين ويذكره بكثير من الاحترام والتقدير، إلا أنه يفضل صاحب كتاب “محاسن المجالس” ابن العريف عليه، ويهاجم بعنف ابن قسي صاحب كتاب “خلع النعلين” وقائد انتفاضة المريدين الفاشلة.

يبقى ابن مسرة أكثر من أثر على ابن عربي. بل إن الأخير قام بتطوير بعض أفكاره عن معرفة “أسرار السالكين” ومفهوم الاعتبار الذي يتمثل بنظره في استعمال العقل (التبصر) لكشف إشاراته والتسامي بها درجة درجة حتى إدراك التوحيد. إلى ابن مسرة تأثر ابن عربي بأفكار الإمام الغزالي التي بدأت تنتشر في النصف الأول من القرن السادس الهجري وزاد تأثيرها في نهاية عهد المرابطين ومطلع عهد دعوة الموحدين. وتمثلت تأثيرات الغزالي على مستويين فقهي - كلامي وصوفي - شعبي. وأعجب ابن عربي بالمستوى الثاني وقام بتقليده حين بدأ بتدريس تلامذته كتاب الغزالي “إحياء علوم الدين”.

وصل ابن عربي القاهرة في فترة بلوغه الفكري، وهناك وجد ضالته المفقودة في الأندلس: الأمن. فالشيخ الباحث عن الحقيقة كان يعيش في دياره لحظات قلق دائم من مخاطر الفرنجة وتوتر مستمر من تربص السلطة. فهو غادر بحثا عن توازنه النفسي الداخلي هربا من الفرنجة وخوفا من السلطان في آن. السببان البعيد والقريب فتحا له باب الخروج بذريعة البحث عن الحقيقة.

آنذاك كان المشرق يعيش في فضاء الانتصارات التي حققها صلاح الدين الأيوبي ضد الفرنجة وتحريره القدس في سنة 583هـ (1187م) وهو أمر، كما يشير ابن عربي، توقعه ابن برجان في كتابه “إيضاح الحكمة” قبل حصوله بنحو 50 سنة.

شكل المشرق لابن عربي ما يشبه الملجأ الذي زرع في قلبه الاطمئنان ونزع منه الخوف على مصير المسلمين. آنذاك كانت دولة الأيوبيين في مصر والشام تعيش في ظل معاهدة الصلح التي وقعها صلاح الدين مع ريكاردوس قلب الأسد في الرملة سنة 588هـ (1192م). وهي معاهدة عززت سلطة المسلمين في فلسطين وساهمت في إحباط حملة الفرنجة الرابعة في عهد خليفته وشقيقه العادل الأيوبي في سنة 598هـ (1202م). وهي السنة التي دخل فيها أبي عربي أرض الكنانة.

واجهت الشيخ الشاب صدمة ثقافية بعد وصوله حين اكتشف اختلاف التصوف في مصر عن ذاك الذي عاشه في الأندلس وتعرف إليه في المغرب. فالأول وجداني أشبه بحركة دراويش ويميل إلى الزهد والتقشف والانكفاء على الذات، والثاني فكري أقرب إلى الحركات الفلسفية التي تطل على السياسة والاجتماع من جهات مختلفة ويتعاطى مع مشكلات العصر في جوانب معينة.

آنذاك شهدت القاهرة ظاهرة الزهد والانزواء في ظل سلطة جديدة نقلت مصر من الفترة الفاطمية إلى فترة مغايرة سياسيا ومذهبيا. فالنجاح الذي حققه السلطان صلاح الدين في تسريع إعادة الاعتبار للدور العباسي على مستوى الدولة تأخر زمنيا في تحقيق التحول السريع على مستوى المجتمع. وأدى التفاوت الزمني بين سرعة التحول في دائرة السياسة وضعف الاستجابة في دائرة الاجتماع المصري، إلى نمو ظواهر ثقافية عبرت عن نفسها في حالات اجتماعية تعكس عدم التجانس بين التوجهين. إلا أن تلك الظواهر لم تدم طويلا بعد أن نجحت السلطة في قيادة الدولة إلى موقع مختلف عن الفترة الفاطمية وأخذت بعزل تلك الحركات ومحاصرتها في زوايا صغيرة من المجتمع.

عند وصول أبي عربي كانت ظاهرة الشاعر الصوفي ابن الفارض في بدايتها. فالشاعر الشاب (576 - 636هـ) كان في الـ 22 من عمره وبدأ يتلمس طريقه الخاص في الزهد والتصوف، وأخذ يعتزل الناس ويأوي إلى المساجد المهجورة محاولا تأسيس حلقة مستقلة عن دائرة الأزهر. فابن الفارض (الذي عرف بشرف الدين وسلطان العارفين) ينتمي إلى أسرة من حماة (الشام) نزحت إلى القاهرة في زمن صلاح الدين، فأخذ الحديث عن ابن عساكر واشتغل بفقه الشافعية لكنه قرر مغادرة العلوم والانفراد بنفسه وتأمل الوجود والحياة.

يتعارض هذا النمط من الزهد الصوفي مع طبيعة ابن عربي ومشروعه الفلسفي ونظرته المختلفة إلى دور “العارف” في إصلاح المجتمع وتغيير سلوكياته. وبسبب نزعته الصوفية المختلفة ارتابت السلطة من تصرفاته فغضب السلطان منه وسجنه، وتوسط له الشيخ القاضي علي أبي الحسن البجائي فأفرج عنه وتوجه فورا إلى مراده: الحجاز.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2688 - الخميس 14 يناير 2010م الموافق 28 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:36 ص

      عبد علي عباس البصري

      اخونا العزيز وليد انه الصوفيه عليه كلام كثير من الكثير من من جوانب حياته . والسلام عليكم .

اقرأ ايضاً