العدد 2737 - الخميس 04 مارس 2010م الموافق 18 ربيع الاول 1431هـ

السادس عشر... قرن حركة الإصلاح والحروب الدينية

نشوء النخبة الأوروبية (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بدأ القرن السادس عشر في ظل متغيرات أخذت تعيد هيكلة العلاقات التقليدية ما أدى إلى زعزعة استقرار القارة وإثارة الاضطرابات الاجتماعية وتحطيم هيبة الكنيسة وتقديس الفرد. لم تظهر تأثيرات الاكتشافات الجغرافية فجأة فهي كانت تحتاج إلى وقت حتى تأخذ ثمارها السياسية والاقتصادية والثقافية بالنمو في هوامش مجتمعات تعاني من الركود. وتطلبت العملية التاريخية نحو قرن من الاكتشافات حتى بدأت تظهر علامات الترف في شريحة اجتماعية جديدة استفادت من عالم البحار والسوق الدولية لتراكم ثروة تتكفل بتعديل الرؤى التي حددت الكنيسة آفاقها.

العالم الجديد الذي بدأ يتشكل في النصف الأول من القرن السادس عشر كان يحتاج إلى كنيسة جديدة ورجل دين حديث وقراءة جديدة للكتاب المقدس (الأناجيل) ومنظومة علاقات معاصرة تتسم بالمرونة والانفتاح والقدرة على استيعاب حاجات ما وراء الأطلسي.

آنذاك التقط دافنتشي طبيعة اللحظة التاريخية ومتطلباتها. فاللحظة لا تحتاج إلى موعظة بل إلى آلة تلبي حاجات التطور. وجاءت أعمال دافنتشي لتساهم في تطوير علم الآلة انطلاقا من رؤية تجريبية أدركت بسرعة أن العالم مقبل على عصر الميكانيك. والأمر نفسه توصل إليه كوبرنيكس حين وضع قواعد علمية لحركة الأجرام وأدت نظرياته إلى توليد قناعات ساهمت لاحقا في تشجيع النخبة الأوروبية البحث عن معادلات عقلانية مخالفة. والمخالفة لا يمكن أن تنهض من دون تشكيل تيار من داخل الكنيسة نفسها يعطي شرعية تقليدية ويؤمن الحماية للأفكار الجديدة.

آنذاك عاصر دافنتشي بدايات الانشقاق الكنسي الذي قاده مارتن لوثر في العام 1516 ومطالبته المبكرة بالعودة إلى الإنجيل (الأصول الأولى للمسيحية). إلا أن كوبرنيكس (رجل الدين) عايش جزءا من التحولات التي أخذت تشهدها الكنيسة بعد نمو قوة حركة الإصلاح الديني وظهور هيئة بروتستانتية أخذت تنافس الكاثوليكية على زعامة المسيحية الأوروبية.

استمرت الكنيسة الكاثوليكية توحد أوروبا حتى نهاية القرن الخامس عشر إلى أن جاءت الحركة البروتستانتية لتحدث ثورة إيديولوجية تخالف تلك القناعات المقدسة التي ارتسمت في ذهن العامة عن رجل الدين ونزاهته. وبدأت حركة لوثر في إطار ظهور مقاومة مدنية ضد رجال الدين ومحاولات الكنيسة جمع المال لبناء كتدرائية روما (كنيسة القديس بطرس). فالحركة جاءت في سياق الرد على بذخ الكنيسة أموال الرعايا على أعمال فنية ومشروعات عمرانية لا مردود لها للفقراء ولكنها فعلا كانت استجابة تاريخية لتحولات بنيوية أخذت تخترق علاقات المؤسسة التقليدية. ولوثر (أستاذ في الجامعة) بدأ خطوته الأولى في مقاطعة ساكسون بإصدار بيان تألف من 95 نقطة. والبيان الذي ترجم إلى الألمانية وانتشر بسرعة ليحدث ثورة دينية اكتسحت غرب القارة وشمالها لم يكن بإمكانه أن يلقى الاستقبال نفسه في ظروف مختلفة. فالحركة الدينية الإصلاحية جاءت في وقتها وهي بمثابة جواب عن تشكل تحولات أخذت تشهدها القارة منذ القرن الخامس عشر.

اكتساح حركة الإصلاح الكنيسة جاء يلبي رغبات وحاجات ومتطلبات نخبة دينية بدأت تنتبه لوجود متغيرات أخذت تمس هيبة رجل الدين (الاكليروس) وموقعه القيادي. وحركة لوثر الاحتجاجية بدأت بسيطة وعفوية ولكنها استمدت الزخم من القوى الاجتماعية التي أيدتها ودعمتها بصفتها تشكل الملاذ الآمن لأصحاب الرؤى الجديدة.

لم تتقبل الكنيسة الكاثوليكية التحدي بداية ورأت في الحركة «مؤامرة» الأمر الذي فتح الباب لاحقا لبدء الحروب الدينية. حتى العام 1529 لم تكن كلمة بروتستانتية استخدمت بعد وهي استحدثت لاحقا للإشارة إلى نمو حركة الانشقاق في داخل الكنيسة أبرزها تلك التي قادها لاحقا جون كالفن في العام 1530.


حروب دينية

نمو حركة كالفن (فرنسي سويسري) وانتشار الكالفينية بسرعة إلى جانب اللوثرية أطلق موجة إصلاح ثانية لم يكن أيضا بإمكان الكنيسة الكاثوليكية تحمل عواقبها وتحدياتها. حاولت الكنيسة بداية الرد على الأسلوب المضاد بالأسلوب المضاد نفسه فدعمت ظهور حركة يسوعية متسامحة وشجعت على تأسيس مواقع في العام 1545 قادرة على تشكيل مقاومة مضادة من البابوبية ضد البروتستانتية إلا أن المحاولة فشلت. فلجأت الكنيسة إلى نهج المصالحة (مجمع ترانت 1545) وطالبت حركة المنشقين في العام 1550 توقيع معاهدة بين المذهبين تحدد نقاط الاتفاق والاختلاف وتمنع الانزلاق نحو هاوية المواجهة إلا أن الدعوة جاءت متأخرة وأصبحت من مخلفات الماضي.

اندلعت الحروب الدينية وامتدت زمنيا وأدت إلى دمار وحرق ونزوح عائلات واختفاء قرى وفرز مجتمعات وتقسيمها مترافقة مع إبادات جماعية. فالحرب كانت شاملة ولكنها جغرافيا تركزت في موضعين، فرنسا وألمانيا، وانتهت إلى تصفية البروتستانت في جنوب القارة مقابل تصفية الكاثوليك نسبيا في غرب القارة وشمالها.

بين 1550 و1648 (الحروب الدينية) ستشهد أوروبا تلك التحولات الأهم على صعيد ثورة الميكانيك ما أعطى فرصة للنخبة الأوروبية بتقديم قراءة عقلانية تتجاوز رؤية الكنيسة. فالانقسام الديني شجع على تشكيل هوامش نقدية تلبي رغبة شريحة من المتعلمين أخذت تقرأ العالم من منظار مخالف لموقع الاكليروس. والمخالفة لا تعني بالضرورة أن دور الكنيسة في تلك الفترة انتهى أو أن نفوذ رجال الدين انكسر ولم تعد له قدرة على التأثير وإثارة العامة وجرجرة «النخبة» إلى محاكم التفتيش بتهمة الإلحاد.

استمر الاكليروس يلعب دوره القوي في التأثير على العامة إلى القرن السابع عشر. فهذا القرن الذي تأسست «فلسفته» على تحولات القرن السادس عشر يشكل بداية اختراق لمنظومات كانت تهيمن على ذهنية الناس منذ مئات السنين. التحول لم يظهر فجأة وإنما تأسس على تلك المتغيرات التي شهدها القرن السابق وساهم في وضع قواعدها التاريخية لنمو القارة الجديدة.

كان هناك ما يشبه علاقات تناسب ومصاهرة بين نمو فلسفة عقلانية وتطور العلوم واختراع الآلة والاكتشافات الجغرافية. فالاكتشافات في القرن الخامس عشر أحدثت ثورة في علم الفلك (النجوم وحركة الأرض ومركزية الشمس والدوران وخطوط الملاحة والخرائط). واختراع آلة الطباعة أعطى المطبعة قيمة علمية في التأثير على وعي النخبة (ترجمة وتأليف). والحركة الإصلاحية الدينية وحروب الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر كسرت احتكار الكنيسة للمعرفة وفتحت الباب لتقدم العلوم. فالمطبعة أخذت تتطور بسرعة مستفيدة من نمو علم الميكانيك في جانب وحاجة السوق في جانب آخر. وعلوم الفلك اكتشفت وظيفتها في عالم البحار وأخذت تتطور لتلبي حاجات سفينة أخذت تخترق المجهولات.

هذه الأنساق المعرفية المتوازية (جغرافيا، فلك، ميكانيك، مطبعة، فيزياء) دمجت بين الاكتشافات والاختراعات حين أخذت الآلة تلبي حاجات الأسواق التي شهدت طفرة في التجارة وتحولات في الاستهلاك والحياة اليومية. وكوبرنيكس الذي أوضح نظريته (دوران الأفلاك) في كتاب صدر العام 1543 كان البداية. وبعده سيبدأ العالم يشهد ولادات عقول ستلعب دورها الخاص أو الجزئي في تقديم إضافات أو إدخال تعديلات على صورة مجتمع جديد بدأ يتأسس من رحم القديم.

السادس عشر قرن الحروب الدينية (الأهلية) كان أيضا قرن الآلة ونمو التجارة واقتصاد السوق وتدفق السلع وتحسن المواصلات وتقدم في نمط المعاش وبدء انكسار هيبة الاكليروس ونفوذهم القهري على عقول النخبة الأوروبية. إنه قرن تأسس على السابق ولكنه سيشهد في نهايته (العام 1596) بدء استخدام الأجهزة التقنية (اختراع المقراب) وهي آلة «التثبيت التجريبي» التي سمحت للعلماء لاحقا بإنجاز بحوث فيزيائية وميكانيكية. واستخدام الآلة في تصحيح العلوم وتصويب المعرفة وتدقيق الحسابات والاستنتاجات والتقديرات سيكون له دوره في تطور أوروبا وانتقالها من طور السفينة إلى حقبة الماينغاكتورة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2737 - الخميس 04 مارس 2010م الموافق 18 ربيع الاول 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً