العدد 2776 - الإثنين 12 أبريل 2010م الموافق 27 ربيع الثاني 1431هـ

هل هناك كراهية كاذبة؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

عندما يصارحك أحدٌ بأنه يحبك أو يكرهك فإنه إما أن يكون صادقا وإما أن يكون كاذبا، ولكن بأي معنى يكون صادقا أو كاذبا؟ فمن حيث المبدأ فإن المشاعر بحد ذاتها لا توصف بالصدق أو الكذب، الأمر الذي يعني أننا حين نصدر أحكامنا بالصدق أو الكذب على هذه المشاعر فإن قصدنا ليس المشاعر بحد ذاتها، بل تجلياتها وتعبيراتها الظاهرية. فإذا كان التعبير متطابقا مع مشاعر حقيقية تسكن القلب فإنه، عندئذ، يكون صادقا، والعكس بالعكس؛ والسبب في ذلك هو أن الصدق والكذب حكمان يشترطان انفصالا وفجوة بين الشعور بحد ذاته وبين تجلياته وتعبيراته، وهذا انفصال يحصل بمجرد أن يتم التعبير عن هذه المشاعر بالقول أو بالفعل أو بالإشارة. وعلى هذا، يتصف التعبير بالصدق متى تطابق مع حقيقة هذه المشاعر في القلب، أو يتصف، في المقابل، بالكذب متى ما انعدم هذا التطابق. ولكن من ذا الذي تمكّن (أو حتى احتمل) فتح قلب الآخر واطلع عيانا على حقيقة هذه المشاعر أو زيفها؟ بالتأكيد لا أحد، ليس لأن الله وحده «عليم بذات الصدور»، وهو وحده «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» (غافر/19) فحسب، بل لأن أحدا من البشر لا يحتمل (وربما لم يكن ذلك لمصلحته أصلا) أن يطلع على حقيقة ما تخفي الصدور حتى صدور أقرب المقربين إليه. ويروى، في هذا الشأن، أن التقية (وهي أساسا قائمة على الكتمان) ذُكِرت عند الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) فقال: «والله لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول الله (ص) بينهما، فما ظنّكم بسائر الخلق» (الكافي، ج:1، ص401).

ثم إن الاطلاع على حقيقة ما تخفيه الصدور أمر مستحيل وهو خارج طاقة البشر. ويترتب على هذه الاستحالة أن يكون وصف مشاعر الآخرين بالصدق أو الكذب مجرد وصف عبثي أو هو زعم لا أكثر؛ لأن الشخص وحده هو أدرى بحقيقة مشاعره من زيفها. ومع هذا، فنحن لا نكفّ عن الحكم اليومي على مشاعر الآخرين ووصفها بالصدق أو الكذب. ربما كان هذا ضربا من التجوّز، إلا أنه تجوّز شائع ولا يخلو من وجاهة من جهة ما؛ لأننا حين نصف مشاعر الآخرين تجاهنا بالصدق أو الكذب فإن مقصودنا، عندئذٍ، لا ينصرف إلى الحكم على تطابق هذه الأوصاف مع حقيقة المشاعر في الصدور أو عدم تطابقها، بل إنه ينصرف إلى الحكم على توافق هذه الأوصاف أو عدم توافقها مع الأفعال والتصرفات في الخارج وعلى أرض الواقع. وعلى هذا، فعندما تصارح أحدا بأنك تحبه، فيردّ عليك بأن حبك كاذب، فهو لا يقصد أن يقول بأنه فتح صدرك واطلع على حقيقة ما يكنّه قلبك تجاهه، بل إنه يقصد أن يقول بأنه لا يرى ثمة أفعالا تشهد على حقيقة هذا الحب المدعى أو تدلّ عليه وتؤكده.

يتم كل ذلك بضرب من التجوّز الشائع والمقبول. وبناء على هذا التجوّز يمكننا القول، إجمالا، بأن معظم الكراهيات التقليدية في التاريخ كانت كراهيات حقيقية وصادقة، بمعنى أنها كانت تعبيرا صادقا عن كراهيات كانت قائمة وصادرة عن قناعات؛ لأن أحدا لم يكن مضطرا للتظاهر بالكراهية أو للتعبير عن كراهية كاذبة ومزيفة أو من باب الدعاية. فالكراهية شعور يختلج في النفس، والمرء إما أن يكتمه في نفسه فيبقى حبيس صدره، وإما أن يضيق به ذرعا فيجري على لسانه متى كان قادرا على هذا النوع من التعبير، ومتى كان مستعدا لتحمّل تبعاته وانعكاساته.

كما يمكننا القول، وإجمالا كذلك، بأن معظم الكراهيات التقليدية في التاريخ إنما كانت تنشأ بصورة طبيعية ولمسببات ودواعٍ جدية حقيقية أو متخيّلة. وفي حال تراجعت (وهذا أمر نادر الحدوث في التاريخ) فإنها تتراجع تدريجيا وبصورة طبيعية كذلك، بمعنى أنك لن تجد في التاريخ كراهيات تنفجر فجأة ودون مقدمات، أو تختفي فجأة وبصورة غير متوقعة وكأن شيئا لم يكن؛ والسبب أن الكراهيات الحقيقية كانت تتغذى بمشاعر حقد وتحامل عنيدة، مشاعر كانت تسكن النفوس وتتملك أصحابها ولا تفارقهم بسهولة. ثم إن أصحاب هذه الكراهيات لم يكونوا ليجاهروا بكراهيتهم اليوم ليتنكروا لها في اليوم التالي، كما أنهم لم يكونوا في وارد نسيان هذه الكراهية أو تناسيها أو تجاهلها، لأنها بالنسبة إليهم كالهمّ المقيم المقعد، الساكن في صدورهم ومخيلاتهم ليل نهار. وهذا الحضور العنيد هو طبع المشاعر الحقيقية والعميقة، ولهذا تجده في الكراهيات الحقيقية والعميقة تماما كما تجده في الحب الحقيقي والعميق.

ومع هذا، فإن المجاهرة بكراهية كاذبة ومزيفة لم تكن مسألة مستحيلة؛ لأن المجاهرة بهذه الكراهية قد تكون عملا دنيئا، والأعمال الدنيئة ليست مستحيلة، وإن كان لا يقترفها، كما يقول أرسطو، إلا الإنسان الحقير (علم الأخلاق، ج:1، ص267). أما غير الحقير من الناس فإنه لا يقترف هذا النوع من الأعمال إلا إذا أكره عليها أو وجد فيها «غرضا شريفا» أو فائدة ومنفعة. وعلى هذا، لم يكن من المستحيل أن يجاهر أحد ما بكراهية كاذبة وغير حقيقية، فالحقيرون من الناس لا يكفّون عن اقتراف هذا النوع من الأعمال الدنيئة، فهم مجبولون على ذلك، كما أن عموم الناس قد يقترفون هذا النوع من الأعمال إذا كانوا مكرهين بالقوة، أو إذا وجدوا فيها «غرضا شريفا» أو فائدة ومنفعة. إلا أن هذا كلام يحتاج إلى تمحيص هذه المسببات والدوافع. ولابد، في المرحلة الأولى، من استبعاد الغرض الشريف لأنه ليس ثمة غرض شريف من وراء المجاهرة بكراهية كاذبة. ولابد، في المرحلة الثانية، من إقصاء دافع الفائدة والمنفعة؛ لأن من يجد فائدة ومنفعة في كراهية كاذبة يشهرها يكون أنسب وصف له أنه إنسان حقير. نعم، ربما يجد كثير من الناس منفعة في كتمان كراهيتهم أو في التظاهر بدلها بحب كاذب، إلا أن هذه منفعة إنما تُحسب للكتمان والحب الكاذب. وهنا يفترق الحب عن الكراهية، فكثيرا ما وجد عموم الناس، لا الحقيرون وحدهم، منفعة وفائدة في التعبير عن حب كاذب وغير حقيقي. وعلى الشاكلة ذاتها، فقد يجد المرء مصلحة في إنكار كراهيته الحقيقية علنا متى ما ترتب على الاعتراف بها أو المجاهرة بها انعكاسات مُكلفة بإمكانه تجنّبها. نستنتج من كل هذا أن أحدا من عموم الناس لن يجاهر بكراهية كاذبة إلا في حال كان مكرها فقط. وفي غير حالة الإكراه فإن كل الكراهيات الكاذبة إنما يقف وراءها أناس حقيرون مستعدون بطبعهم - ودونما إكراه يُسلّط عليهم - لاقتراف أبشع الأعمال الدنيئة إذا ما وجدوا في ذلك منفعة مهما صغرت.

والمنافع، عموما، مطروحة في الطريق، غير أن الحقيرين من البشر مجبولون على تمييزها واقتناصها على نحو غريزي. وأكثر من هذا، فإن هؤلاء قادرون حتى على اختلاق هذه المنافع، وتصوير ما ليس بمنفعة على أنه منفعة وإيهام الآخرين بأنها كذلك. وبهذه الطريقة يتمكن هؤلاء من إنتاج كراهياتهم المغرضة وتصديرها والمتاجرة بها. والكراهيات المغرضة هي كراهيات يجري تصنيعها فجأة ولأغراض ومآرب معينة، ثم سرعان ما تختفي حين تحقق غرضها، وأحيانا تختفي حتى حين تخفق في تحقيق هذا الغرض، وهي تختفي، كما بدأت، فجأة وكأن شيئا لم يكن. وهذا واحد من المؤشرات على كونها كراهيات مصطنعة. وإلا كيف نفسّر حالات كراهية كثيرة انبثقت فجأة ودون مقدمات، ثم سرعان ما اختفت أو اختفى أصحابها وكأن الأرض ابتلعتهم ولم يكونوا شيئا مذكورا.

الانفعالات، إجمالا، أفعال لاإرادية، فلا أحد يحب أو يكره بإرادته، كما أن أحدا لا يقرر أنه، الآن، سيحب أو سيكره، ولا أحد، كذلك، يقرر أنه الآن سيكفّ عن الحب أو الكره، والسبب أن هذه انفعالات لا إرادية، ومن ثم فهي عصية على التحكم ولا تخضع لإرادة المرء وقراراته. إلا أن هذا ليس شأن التعبير عن هذه الانفعالات؛ لأن التعبير فعل إرادي خاضع لقصدية المرء وإرادته وقراره، وهو، في الغالب، فعل يقع تحت تصرف المرء وتحكمه. فنحن من يقرّر، وبإرادتنا في غالب الأحيان، أن نبوح بحبنا أو نجاهر بكراهيتنا أو نمتنع عن هذا البوح وهذه المجاهرة. وعلى خلاف الانفعالات اللاإرادية، فإن الأفعال الإرادية قابلة للتحكم والتصرف فيها وفقا لقصدية المرء وإرادته، كما أنها قابلة للكذب والتزييف والفبركة والتلفيق والتصنّع والتكلّف. فكم من امرئ وجد نفسه مضطرا للتعبير عن حب كاذب، وفي المقابل، لم يكن من المستحيل، كما قلنا، أن يجاهر أحد، بضغط من ظروفه القاهرة، بكراهية مزيّفة لم يكن يستشعرها في قلبه. إلا أن انتفاء المصالح الخيرة والأغراض الشريفة في هذه الحالة الأخيرة جعل منها حالة استثنائية ومحدودة في التاريخ ولا يقترفها إلا الحقيرون من البشر. وهؤلاء الأخيرون لا يتورعون، اليوم، عن إثارة الكراهيات المصطنعة كنوع من التكتيك في لعبة الصراع السياسي على السلطة بهدف إشغال الخصوم أو إحراجهم أو بهدف التشويش على الرأي العام والتغطية على حدث سياسي هنا أو فضيحة أخلاقية هناك. وهو ما سيكون محور مقالتنا في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2776 - الإثنين 12 أبريل 2010م الموافق 27 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:13 م

      تاسيس

      الله يساعدك كل اللي قلته من الكراهية

    • زائر 2 | 5:03 ص

      مشاعر وبطيخ

      ساعدك الله يا كاتبنا العزيز الناس في مشاكل اسكانية وفقر وعواز وبنية تحتيه وحضرتك مشاعر وبطيخ واحلام وردية !!

    • زائر 1 | 1:32 ص

      كره كاذب

      يعني صار الكره زي الحب ومثل ما فيه حب كاذب فيه كره كاذب غريب.

اقرأ ايضاً