العدد 280 - الخميس 12 يونيو 2003م الموافق 11 ربيع الثاني 1424هـ

كي نكون حقا مـن دعـاة الوحـدة... لا من أدعيـائـها!

محمود حسن جناحي comments [at] alwasatnews.com

-

لن نجد قضية أكثر أهمية من موضوع الوحدة الوطنية، فهي قضية مصيرية ومحورية تتبعها وتتعلق بها الكثير من القضايا الرئيسة الأخرى. أصبحت هذه القضية هي الشغل الشاغل للكثير من الفعاليات والتجمعات والشخصيات المحلية، فالكل يتكلم عن هذه القضية، والكل يكتب فيها، والكل يحاضر عن ضرورتها وأهميتها.

هل يعني هذا أننا أمام ظاهرة إيجابية تدل على إدراك الكل لمدى مصيرية هذه القضية؟ ربما، ولكن هناك ملاحظات مهمة تتعلق بهذا الشأن لابد وأن تقال، وإن أدى ذلك إلى (زعل) البعض، ولكن أرجو ألا يحدث ذلك، فالمسألة جد خطيرة، وما أريد إلا الإصلاح، ومصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار.

الملاحظة الأولى: خصائص لازمة

الإخلاص للقضية، والجدية في العمل، والرغبة الصادقة المنبعثة من قلب صادق يستشعر المسئولية، وموافقة القول العمل، والنفسية السوية هي أهم الخصائص التي يجب أن يتميز بها من ينادي بالوحدة الوطنية والإسلامية. فمن يحشر نفسه ضمن هذه (التظاهرة الوحدوية) لمصالح شخصية، أو لمكاسب سياسية، أو طلبا لتكريس الزعامة في الطائفة! أقول: كل هذه الجهود لن تكون لها نتائج حقيقية ملموسة على المدى البعيد، بل ستذهب هباء منثورا، تذروها الرياح! إن مثل هذه القضية الخطيرة يجب أن يتصدى لها من يخلص في سبيلها حقا، ومن يقدم مصلحة الإسلام والوطن على كل ما عداهما. قولوا لي بالله عليكم: ما الأثر الذي يمكن أن يتركه كلام أحدهم عن الوحدة في مجلس يحضره الكل، فإذا اختلى بطائفته في مجلس آخر تغير الخطاب إلى طائفي بحت؟ ما الأثر الذي يمكن أن تتركه كتابات أحدهم وهو يصم الآذان عن ضرورة التصدي للكتابات الطائفية، فإذا ما قرأنا كلاما مثيلا لشخص من أبناء طائفته صمت كالأموات؟

أذكر أنه قبل حوالي سنتين، بادرت إحدى التجمعات السنية الحريصة على الوحدة الوطنية إلى عقد لقاء مع تجمع آخر شيعي في تظاهرة وحدوية نادرة، فتعرض هذا التجمع السني لانتقادات حادة من فعاليات سنية أخرى، ثم لما آن وقت الانتخابات، فإذا بتلك الفعاليات الساخطة تقدم على كل ما كانت ساخطة بشأنه!

وإليكم مثالا آخر: أي أثر نفسي سيئ، وشحنة من الكراهية وعدم الصدق لا حدود لها يمكن أن تتولد لدى طالب العلم تجاه الآخر، وهو يتعلم في دراسته الدينية أن الإمام (من مذهبه) كان يقول في المسألة الفلانية كذا وكذا، فلما دخل عليه الإمام (من المذهب الآخر) غيّر كلامه إلى كذا وكذا، فلما غادر الإمام (من المذهب الآخر) رجع إلى كلامه الأول!! فلما سأله مريدوه عن ذلك أجابهم بصحة أو ضرورة مثل التصرف!! أقول: أية نفسية يمكن أن تحكم تصرفات هذا الشاب الذي يتلقى مثل هذا الكلام في تعامله اليومي مع أبناء المذهب الآخر؟

إني أدعو كل من لا يتصف بمثل هذه الصفات التي ذكرتها في بداية هذه الملاحظة إلى أن ينسحب بهدوء من هذه الساحة، فهذه الصفات هي أدوات الحرث الضرورية التي لا ثمار ترجى من دونها، فمهمة التصدي للوحدة الوطنية مهمة مقدسة، لا يصلح لها إلا من عمّر الله قلوبهم بالحب والإخلاص. صحيح أن الأصوات ستقل من حيث العدد، ولكن الله سيبارك في هذا القليل، لينتج عنه الكثير.

الملاحظة الثانية: إلمام بطبيعة الخلاف

لن نخدم القضية أبدا إذا ساهمنا في إخفاء الحقائق، أو التظاهر بعدم وجود سلبيات، بل الشفافية والعلمية مطلوبتان لخدمة هذه القضية المهمة. إن نوعية الناس عموما من حيث موقفهم من الطرف الآخر لا يتعدى أحد المواقف الثلاثة الآتية :

الموقف الأول : وهو موقف من يرى عدم وجود مشكلة مذهبية بين الشيعة والسنة على الإطلاق، وأن كل ما هنالك هو بعض الاختلافات الفرعية التي لا تمنع وحدة المذهبين. إن أصحاب هذا الموقف غير مؤهلين للمساهمة في تضييق الفجوة وتحقيق التقارب لأنهم يعيشون مثالية بعيدة عن الواقع. وهل يستطيع علاج المرض من لا يرى أي أثر لهذا المرض!

الموقف الثاني : وهو موقف من هو على العكس تماما، أي من يرى تكفير أبناء المذهب الآخر، ويعتقد بوجود انحرافات خطيرة تمنع أي لقاء، أو حتى مجرد تنسيق وقتي لمسألة وطنية أو إسلامية ضرورية. إن أصحاب هذا الموقف هم من يعمل (للتمزق الوطني!!)، لا الوحدة الوطنية.

الموقف الثالث : وهو موقف من يرى بعين الواقع، وينظر بمنظار الحقيقة، فيدرك أن هناك اختلافات موجودة بين المذهبين، بعضها في الأصول، وكثير منها في الفروع، وأن هذه الاختلافات لو كانت من السهولة واليسر لتم حلها من قديم. ينادي أصحاب هذا الموقف بضرورة الاهتمام بهذه الاختلافات، ودراستها على مستوى أهل العلم والإخلاص. وفي الوقت نفسه، الاهتمام بالأرضية المشتركة، وبنقاط الاتفاق، وهل هناك نقطة اتفاق أهم من مصلحة الدين والوطن!

خلاصة هذه الملاحظة : أن المؤهل للتصدي لهذه القضية، هو من يعيش على أرض الواقع، متعرفا على أسباب المرض ومدى انتشاره، فيعمل بناء على ذلك على التصدي لهذا المرض، أو محاصرته في أضيق نطاق ممكن.

ولعله من المفيد هنا أن نضرب مثالا سلبيا، وآخر إيجابيا على طبيعة العلاقة بين الجانبين من مناطق أخرى من العالم الإسلامي. ما تقولون في طبيعة العلاقة بين بعض التنظيمات المتشددة من سنية وشيعية في باكستان، إذ تجري الدماء أنهارا بين الجانبين، وحيث أعمال الثأر والانتقام لا تتوقف! وفي المقابل، ما رأيكم بالتنسيق والتعاون الذي نجده بين الجماعة الإسلامية وحزب الله في لبنان، إذ المردود الإيجابي الذي بلاحدود على الوطن والمواطن هناك. يا ترى، هل كان بإمكان حزب الله أن يجبر الصهاينة على الانسحاب من جنوب وطنه لو كان قد انشغل بمثل ما انشغلت به تلك التنظيمات في باكستان؟

الملاحظة الثالثة : فقه استخدام التاريخ

للتاريخ تأثير خطير على الشعوب، وهو مجال لا ينضب لاستخلاص الدروس والعبر. فما بال أقوام لا يستخدمون هذا العلم الجليل إلا لزرع البغضاء والكراهية، وتفتيت الصف الإسلامي الذي أوجب الله تعالى علينا أن نحافظ عليه. ما بال أقوام لا يفقهون إلا استخدام التاريخ المفرّق، ويجتنبون التزود من التاريخ الموحّد!

سأحاول في السطور الآتية أن أضرب مثالا على كيفية تناول التاريخ كمادة تحبب إلينا العمل على رص الصفوف، وخصوصا في هذا الزمن الذي تكالبت فيه علينا الأمم، وأصبحنا أشبه بالأيتام على مائدة اللئام، وما من مصيبة تبتلى بها أمة من الأمم، أشد وأنكى من الفتنة الطائفية والتمزق المذهبي.

في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، كان المشرق العربي يعيش حالا من الضعف والفوضى، نتيجة للصراع المدمر ذي الشقين السياسي والمذهبي بين الدولة الفاطمية ذات النهج الشيعي الإسماعيلي والدولة السلجوقية السنّية. وكان الفاطميون يحكمون مصر ومعظم فلسطين، بما في ذلك القدس، وكانت مناطق الشام والأناضول وشمال العراق تحت حكم الإمارات السلجوقية. في هذه الفترة بدأت الحملات الصليبية، وبدأت معها سلسلة من أشد الحروب بربرية والتي تشنها أوروبا في تاريخها على العالم الإسلامي. لم يتمكن السلاجقة «لوحدهم» من التصدي لجيوش القارة الأوروبية، التي أقامت لنفسها قواعد قوية في جنوبي الأناضول، انطلقت منها نحو الشام، وتحديدا نحو الهدف المنشود: بيت المقدس. فلما وصل الصليبيون إلى مشارف المدينة في شعبان سنة 492 هـ (يوليو/ تموز 1099م)، كان الفاطميون «لوحدهم» أضعف من أن يحافظوا عليها، فسقطت المدينة... وسقط من المسلمين سبعون ألف شهيد.

من المسئول عن هذه المصيبة؟ الجواب : كل من لعب دورا في تمزيق الصف الإسلامي، وكل من قصّر في تحقيق الوحدة الإسلامية في تلك الفترة الحرجة. فهل وعى المسلمون الدرس... ليس بعد!

ننتقل إلى بدايات القرن 16 الميلادي، إذ الحرب سجال بين أكبر قوتين في العالم الإسلامي: الدولة العثمانية السنّية والدولة الصفوية الشيعية، وكانت أرض الأناضول والعراق والقوقاز وفارس ميدانا لهذا الصراع الرهيب، وكانت معركة تشالديران الكبرى بين الطرفين العام 920 هـ (1514 م).

المشكلة أن هذه الفترة الزمنية هي ذاتها التي شهدت انطلاقة الاستعمار الغربي المشبع بالروح الصليبية، والذي سلك طريق البحر في توسعه، وهي الفترة إياها التي بدأت الدولة الروسية الأرثوذكسية في التوسع سالكة طريق البر، ليس باتجاه الغرب، إذ الأشقاء النصارى، ولكن شرقا وجنوبا، حيث ديار المسلمين! ولم نتعظ!

استمر الصراع بين الطرفين (العثماني والصفوي) حتى القرن 19 الميلادي، وكان هذا الصراع سببا رئيسا في ضعف الطرفين، حتى عجزا عن التصدي للدب الروسي الزاحف نحو القوقاز، فكانت مأساة أخرى: تعرض الصفويون للهزيمة المنكرة وتخلوا للروس عن أرض إسلامية عزيزة كأذربيجان وداغستان، وهُزم العثمانيون كذلك وقدّموا أرمينيا وجورجيا وبلاد الأبخاز وغيرها لقمة سائغة للروس.

خلاصة الملاحظة الثالثة: ألا تكفي هذه الحقائق التاريخية لأن نعتبر، وألم يحن الوقت لدعاة الفتن الطائفية، وطلاب الثارات المذهبية في عالمنا الإسلامي لأن يعوا قول الشاعر:

«اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر

ضلّ قوم ليس يدرون الخبر»

يا رب: إنما الخير أردتُ، وأستغفرك عن كل تقصير

العدد 280 - الخميس 12 يونيو 2003م الموافق 11 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً