العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ

الطوائف اللبنانية والارتحال من القومية إلى الكيان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شُيِّعَ أمس الأول رئيس مجلس النواب اللبناني السابق كامل أحمد الأسعد إلى مثواه الأخير في مقام السيدة زينب في دمشق. وبهذا تنتهي رحلة حقبة سياسية من تاريخ لبنان الحديث تمثلت في صعود وهبوط عائلات ارستقراطية الطوائف في بلاد الأرز.

بين بلدة الطيبة (مسقط رأس الأسعد) في الجنوب ومقام السيدة زينب في دمشق مسافة جغرافية قصيرة تفصل بين بلدين. والمسافة على صغر حجمها الجغرافي تختصر مجموعة تحولات تاريخية طرأت على مسرح المشرق العربي أدت إلى إعادة تشكيله السياسي خلال محطات زمنية تميزت بالتوتر وعدم الاستقرار بسبب تقسيم المنطقة إلى دويلات وما أعقبها من نكبات (فلسطين) وانقلابات عسكرية في سورية.

المساحة الجغرافية صغيرة ولكن تفاعلاتها الزمنية كانت عنيفة بسبب ما ترتبت عنه التقسيمات والنكبات والانقلابات من تداعيات ارتدت على الداخل اللبناني وأدت إلى بعثرة أوراقه الأهلية وخلطها في تحالفات طائفية ومذهبية ساهمت في تكوين هوية قلقة تتجاذبها تيارات سياسية (ايديولوجية) غير متوافقة على تعريف الصفة القومية للكيان.

آنذاك كانت الاستقطابات مختلطة بين قومية عربية بوصفها البديل التاريخي عن غياب السلطنة العثمانية (الهوية أو الجامعة الإسلامية) وبين قومية سورية (وحدة بلاد الشام) أو وحدة الهلال الخصيب الذي يجمع سورية والعراق (سوراقيا) وبين قومية لبنانية (الفينيقية) الناشئة من تحت أنقاض الانهيار الذي عصف بطوائف المشرق العربي.

الانقسامات السياسية على تعريف هوية لبنان القومية في أربعينات القرن العشرين لم تقتصر على الايديولوجيا الحزبية وإنما انجرفت ميدانياً لتأخذ طابعها الطائفي. السنّة بقيادة حزب النجادة أكدت عروبة لبنان بوصفه جزءاً من الوحدة القومية الكبرى من المحيط إلى الخليج. الأرثوذكس والأقليات المسيحية والمسلمة بقيادة الحزب السوري القومي أكدت الهوية السورية (الهلال الخصيب) ورفضت العروبة الانفلاشية والانعزالية اللبنانية. الموارنة ومعها الأطياف المسيحية اعتبرت ان لبنان يعرف بذاته فهو لبناني وليس سورياً أو عربياً لأنه جغرافياً وتاريخياً يتميز بخصوصية يجب المحافظة عليها في إطار المشرق العربي.

الاختلاف على تعريف هوية لبنان أدى إلى تشكيل تحالفات تأسست على انقسامات طائفية لعبت دورها لاحقاً في التوافق على اعتماد نظام محاصصة يضمن حقوق الأطياف الأهلية من دون تفرقة أو تمييز. ولكن النظام حتى يستقر استخرج مجموعة مصطلحات توفيقية تلبي تطلعات الطوائف ولا تستفزها فظهرت في الميثاق الوطني مفردات تعكس المخاوف مثل «لبنان ذو وجه عربي» أو «لبنان ليس مستقراً أو معبراً للاستعمار».

النصوص الوطنية كانت توفيقية في مضمونها الطائفي لكونها شكلت ذلك الجامع الذي يربط لبنان بالعروبة ويطمئن سورية أن بلاد الأرز لن تشكل المعبر أو الموطن للاستعمار وما يمكن أن يشكله من مخاطر على أمنها القومي أو الحدودي.

التوافق على النصوص في مطلع الاستقلال ساهم في تدوير الخلافات ولكنه لم ينجح في احتواء الأزمة وما تنتجه من تجاذبات سياسية تحيط به من فلسطين إلى سورية. وبسبب الجغرافيا تعرض لبنان منذ أربعينات القرن الماضي إلى عواصف إقليمية ساخنة وباردة أدت مراراً إلى دفعه إلى معارك داخلية اتسمت أحياناً بالحدة والعنف.

بدأت الرياح في طورها الأول من فلسطين وقيام دولة «إسرائيل». فهذا الأمر أدى إلى نزوح ربع مليون وتشريدهم في مخيمات توزعت على المدن والمناطق اللبنانية ما ساهم لاحقاً في توتير التجاذبات الأهلية بين مخاوف التوطين وحق العودة.

بعد النكبة أخذت عواصف الانقلابات العسكرية في سورية تؤثر على الاستقرار اللبناني وتعرضه إلى تدخلات إقليمية بسبب هروب ضباط ورساميل خوفاً من المصادرة السياسية في دمشق.

المتغيرات السياسية في جغرافيا لبنان ومحيطه ساهمت في توليد وقائع ميدانية على الأرض منها أعطت نتائج اقتصادية إيجابية بسبب هروب الرساميل ومقاطعة مرفأ حيفا وتحول التجارة العربية (الترانزيت) إلى بيروت التي ازدهرت مالياً بوصفها البديل الجغرافي لفلسطين. إلى الإيجابيات برزت سلبيات أبرزها انهيار الصناعات الحرفية والمهنية والتقليدية في الجنوب بسبب اعتماد أهالي قرى الحدود على السوق الفلسطينية. وتضخمت السلبيات حين أخذت الخلافات اللبنانية - السورية تتطور سياسياً لتنعكس على معابر الحدود بعد أن أخذت الحواجز الجمركية تؤثر على الحركة التجارية وحرية المرور.

المصادفة الجغرافية لعبت دورها أيضاً في تأزيم الوضع الأهلي الداخلي في لبنان. فالمناطق الحدودية في الجنوب (فلسطين) أو البقاع (سورية) تتركز فيها غالبية شيعية ما انعكس تدهوراً على المستوى المعيشي للعائلات ودفعها إلى البحث عن موارد رزق تعوض تلك الخسائر اليومية الناتجة عن إقفال السوق الفلسطينية وتهديدات «إسرائيل» الأمنية لسكان القرى الأمامية أو بسبب التوتر السياسي الذي كان يعصف بالعلاقات التجارية - الجمركية بين دمشق وبيروت بعد كل انقلاب عسكري تشهده سورية.

آنذاك كانت العائلات الشيعية مستقرة وآمنة على أطراف الجمهورية اللبنانية الناشئة حديثاً، ولكن التطورات العاصفة التي أدت إلى إعادة تشكيل خريطة المشرق العربي دفعت أهالي القرى للنزوح إلى المركز بحثاً عن عمل أو السفر إلى الخارج لتأمين الرزق.


فترة صعود

في المرحلة الأولى من تكوين سلطة الدولة اللبنانية لم تظهر المشكلة على حقيقتها. بلاد الأرز في تلك الفترة كانت تمر في حال من الانتعاش والنمو والازدهار ما ساهم في خمسينات القرن الماضي في استيعاب العائلات الوافدة من الأطراف (الجنوب والبقاع) إلى المركز (بيروت) وتشغيلها في قطاعات متواضعة وبأجور بسيطة. وهكذا أخذت تتشكل في ضواحي بيروت أحزمة بؤس وفقر تركزت بالقرب من المرفأ التجاري والمعامل الصغيرة (التحويلية) في شرق العاصمة (النبعة) وجنوبها (الضاحية) ما أدى لاحقاً إلى نهوض أحياء استقطبت الكثير من الأحزاب اليسارية التي أخذت تنشط وسطها من خلال الاتحادات المهنية والنقابات الحرفية.

في الجنوب والبقاع (بعلبك والهرمل) استمرت العائلات السياسية (الارستقراطية الشيعية) تلعب دورها في المعادلة الأهلية وتشاطر ارستقراطيات الطوائف الأخرى في التقاسم النسبي للسلطة مع تمييز واضح للشيعة. وأدى سلوك التفرقة بين المناطق إلى توسيع الهوة بين المركز (بيروت وجبل لبنان) والأطراف بسبب تهاون العائلات السياسية وعدم استعدادها للمغامرة بمواقعها مقابل تحسين فرص التنمية ورفع موازنات الأقضية لتغطية نفقات التعليم والصحة وتأمين حاجات المعاش للحد من النزوح إلى العاصمة أو الهجرة إلى إفريقيا.

ساهم التفاوت بين المركز والأطراف وصمت العائلات السياسية وعدم اعتراضها على التمييز في نشوء قوى اعتراضية من أهالي القرى تمثلت في انتشار الأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية في الجنوب إلى جانب نمو دور العائلات الصغيرة المهمشة والمغبونة في داخل الطائفة نفسها. وخلال فترة الخمسينات ومطلع الستينات استمر الوضع على حاله على رغم التحسن الطفيف الذي أدخله الرئيس فؤاد شهاب (1958 - 1964) إلى المناطق الطرفية (مد خطوط الكهرباء، بناء مدارس ومستوصفات).

المرحلة الشهابية الإصلاحية كانت قصيرة وغير كافية لاحتواء المتغيرات بسبب عدم قدرة النمو الاقتصادي على تلبية الحاجات الاجتماعية للعائلات التي أخذت تتكاثر ديموغرافياً. زراعة التبغ مثلاً التي استوعبت آلاف الأيادي العاملة أخذت تتعرض لأزمة اقتصادية بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج واستقرار الأسعار ما ساهم في ارتدادات اجتماعية تمثلت في اعتصامات دورية وحركات احتجاج دائمة عرفت في أدبيات السياسة بانتفاضة التبغ.

آنذاك كانت أسرة الأسعد (أحمد ووريثه كامل) مسيطرة بالتحالف مع عائلات سياسية أخرى على الوضع في الجنوب لكونها كانت تحتكر التمثيل النيابي عن المحافظة والأقضية. إلى جوار تلك الارستقراطية الشيعية كانت العائلات الأخرى تنتج شريحة من المتعلمين والمثقفين إلى جانب عائلات أخرى عرفت تقليدياً بعلومها الدينية التي كانت تأخذها بعثات التعليم إلى النجف وتعود بها إلى جبل عامل.

في فترة الستينات تعانقت مجموعة متغيرات ساهمت في توليد أزمات دائمة. عربياً وقعت حرب يونيو/ حزيران 1967 وأدت إلى احتلال القدس وكل فلسطين والجولان وسيناء. إقليمياً نجح حزب البعث في الإمساك بالسلطة في سورية ووضع حدٍّ للانقلابات العسكرية التي لم تتوقف بين نهاية الأربعينات ومطلع السبعينات. وفلسطينياً ظهرت منظمة التحرير وفصائل المقاومة (الفدائيون) وأخذت تمتد إلى الجنوب من المخيمات ودول الجوار ونجحت في تأمين موقع لها في منطقة العرقوب التي أطلقت عليها وسائل الإعلام الدولية اسم أرض فتح (فتح لاند). ومحلياً أخذ لبنان يعاني من الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب بذريعة أن الدولة ضعيفة وغير قادرة على ضبط الفصائل الفلسطينية من إطلاق الصواريخ واختراق الحدود (عمليات القشرة) وضرب المستوطنات الإسرائيلية في الشمال (منطقة الجليل).

كل هذه المتغيرات تعانقت في فترة متزامنة ما أدى إلى مضاعفة مشكلات أهالي القرى الأمامية وانكشاف ضعف الدولة اللبنانية وعدم قدرتها على الدفاع والحماية واضطرار آلاف الأسر الشيعية والمسيحية والسنية مغادرة الجنوب والتوجه إلى العاصمة وضواحيها. وأدى هذا التطور الموضعي إلى توليد حركات سياسية احتجاجية قادها الإمام موسى الصدر في الجنوب امتداداً إلى البقاع وضواحي بيروت. ولعبت حركة الصدر في بداياتها سياسة تحريك الجمهور وتوحيده باتجاه رفض الإهمال والتمييز ومطالبة الدولة بتوسيع رقعتها الاجتماعية حتى تكون مستعدة لاستقبال النمو المتصاعد لحركة المحرومين (أمل).

إلى جوار حركة الصدر وتشكيله «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» بوصفه مؤسسة موازية للهيئات المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية والارمنية والدرزية والسنية الأخرى، تبلورت الحركة الفلسطينية المسلحة في تنظيمات لبنانية مناصرة للقضية في بعض قرى الجنوب وأحزمة البؤس في الضاحية والنبعة. النبعة آنذاك تحولت إلى بؤرة سياسية أخذت تستقطب النازحين خوفاً من الاعتداءات الإسرائيلية أو بحثاً عن مجال للعمل في العاصمة.

بسبب وضع النبعة البائس أخذت تنشأ مؤسسات تقليدية للعناية بالفقراء والمحتاجين تابعة لهيئات ومراجع لبنانية بدأت بالانتقال من النجف أو الجنوب لتقوم بالخدمة والرعاية. وكان السيد محمد حسين فضل الله في طليعة القوى الشابة آنذاك التي أخذت المبادرة باستقلال ذاتي عن الدولة أو المجلس الإسلامي الذي أسسه الإمام الصدر.

كل هذه التفاعلات الإقليمية والعربية والجوارية والفلسطينية تداخلت مع قنوات الانقسامات الطائفية والمذهبية والمناطقية في مطلع السبعينات إذ شهدت بلاد الأرز مجموعة من تطورات محلية أخذت تتجمع روافدها لتصب في إطار الانفجار الأهلي الكبير.

آنذاك كانت العائلات السياسية (ارستقراطية الطوائف) بدأت تشهد تشققات أضعفت دورها العام في التأثير على دوائرها الانتخابية بسبب نمو بدائل أخذت تتقدم بتواضع إلى أن أزاحتها عن المشهد في مطلع الثمانينات. حتى الأحزاب السنية التقليدية وعائلاتها المحلية لم تعد قادرة على تلبية نمو التيار القومي العربي (الناصري) في أحياء مدن صيدا وبيروت وطرابلس. حزب النجادة مثلاً بدأ يتلاشى منذ فترة بعد أن فشل في التحول إلى إطار مرجعي للسنة وانكفأ نشاطه إلى حدود ضيقة لم تتجاوز بعض الشوارع والدوائر الانتخابية في العاصمة. حزب الكتائب فشل في اختراق المناطق المسلمة واقتصر تأثيره على المحافظات المسيحية. الحزب السوري القومي تراجعت شعبيته بعد إعدام زعيمه انطون سعادة ومطاردة فرعه في دمشق وانعزاله في دوائر ضيقة في المناطق الأرثوذكسية في شمال لبنان وشرق بيروت. وتلقى السنة ضربة موجعة باغتيال زعيم الاستقلال ورئيس الوزراء رياض الصلح إبان زيارته للأردن.

مقابل تراجع الهيئات التقليدية للأحزاب القومية (العربية والسورية واللبنانية) وعدم قدرتها على توحيد الطوائف تحت مظلة واحدة وهوية جامعة ومشتركة بدأت تنمو قوى سياسية بديلة رفعت برامج اجتماعية تطالب بتحسين الأوضاع الاقتصادية (منظمات يسارية) إلى جانب ظهور فصائل مسلحة تطالب بالتحرير (فلسطين) والدفاع (تحصين قرى الجنوب) وحماية المقاومة من الاعتداءات الإسرائيلية التي تضاعفت على الحدود وداخل العاصمة (الهجوم على مطار بيروت واغتيال ثلاثة من قادة المقاومة في فردان).

النمو المتوازي للقوى السياسية لم ينجح بدوره في توحيد الساحة الإسلامية تحت مظلة واحدة. حركة أمل قادت الحركة المطلبية الشيعية بعد غياب الإمام الصدر ما أدى أحياناً إلى حصول توترات مع الفصائل الفلسطينية في الجنوب والبقاع. حزب الكتائب قاد المواجهة العسكرية في الجانب الشرقي من العاصمة بعد اندلاع الحرب ا لأهلية فشن هجماته المتكررة على الأحياء المسلمة والمخيمات الفلسطينية الواقعة في الجزء الذي يسيطر عليه وأدى الأمر إلى إسقاط النبعة وتشريد عشرات الآلاف ونزوحها إلى الضاحية الجنوبية كذلك إسقاط مخيم تل الزعتر وطرد الفلسطينيين إلى صبرا وشاتيلا في بيروت الغربية.


الحروب وانشطار الهوية

أدى النزوح المضاف من النبعة وتل الزعتر إلى تكثيف الأزمات في أحياء العاصمة وضواحيها وارتفاع الضغوط البشرية في مناطق السنة. آنذاك لم تكن الطائفة السنية قد توصلت إلى اكتشاف خصائصها الذاتية بسبب تكوينها المديني وعدم ظهور قوة سياسية محلية تعيد توحيدها تحت مظلة لبنانية. فالسنة عموماً عروبيون ومتعاطفون مع الحركة القومية التي تمثلت آنذاك بالبعث وحركة القوميين العرب والمنظمات الاشتراكية الناصرية (المعجبة بالتجربة المصرية) الأمر الذي أضعف احتمال نمو قوة إسلامية (حركة الإخوان أو حزب التحرير مثلاً) في أحياء طرابلس وبيروت وصيدا. هذه المدن الثلاث كانت مشطورة إلى مراكز قوى تتمثل إما في عائلات سياسية نافذة أو في تنظيمات محلية تفتقد القدرة على تجاوز الأحياء. وهذا الوضع ساهم في تأخر ظهور تيار لبناني (سني) يأخذ المبادرة السياسية ويبدأ بتجميع الأطراف وتوحيدها في حركة واحدة كما هو أمر الكتائب (القوات اللبنانية) عند الموارنة، والحزب الاشتراكي عند الدروز، وحركة أمل عند الشيعة.

انقسام الطائفة السنية على العائلات السياسية في المدن الثلاث منع من نمو قوة تنظيمية حديثة تستقطب الطبقة الوسطى والقوى المتضررة من «الارستقراطية» السنية (العائلات البيروتية والطرابلسية والصيداوية) ما أعطى فرصة لنمو تنظيمات محلية مسلحة في الأحياء خلال فترة الحروب الأهلية - الإقليمية التي انعطف مسارها بدخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1976 وصولاً إلى اجتياح «إسرائيل» لبنان واحتلاله في العام 1982.

شكل الغزو الإسرائيلي لبلاد الأرز نقطة فاصلة في تاريخ الكيان الصغير وأدى إلى توليد طاقات مضادة ساهمت لاحقاً في وضع قواعد مختلفة لوظائف الطوائف اللبنانية. هذا الأمر لم يتبلور في العام 1982 وإنما احتاج إلى أكثر من عشر سنوات حتى يرسم معالمه الميدانية على أرض الواقع المنقسم أهلياً. في الجانب الماروني - المسيحي قاد حزب الكتائب (القوات اللبنانية) حملة الصعود إلى المركز الأول في السلطة (انتخاب بشير ثم أمين الجميل رئيساً للجمهورية). في الجانب الشيعي نجح رئيس حركة أمل آنذاك حسين الحسيني في انتزاع رئاسة مجلس النواب من كامل الأسعد بعد إسقاط اتفاق 17 أيار (اللبناني - الإسرائيلي) في البرلمان في العام 1984. في الجانب السني بدأت تظهر أنشطة رجل الأعمال العائد من السعودية رفيق الحريري في مضمار الإعمار والتعليم ورعاية الأسر المحتاجة.

الاحتلال الإسرائيلي كان علامة مفارقة في ترسيم حدود التحول الحاصل في داخل كل طائفة وخطوة قسرية أوضحت أن عهد العائلات السياسية قد تراجع نهائياً ولم يعد بإمكان الارستقراطيات أن تلعب دورها السابق. كامل الأسعد مثلاً غادر لبنان إلى فرنسا في العام 1984 ملتحقاً بعميد الكتلة الوطنية ريمون اده الذي سبق الجميع إلى السكن في باريس. الزعيم البيروتي صائب سلام ترك العاصمة متوجهاً إلى جنيف. الزعيم الطرابلسي رشيد كرامي اغتيل في انفجار خلال رحلة جوية بطوافة كانت تقله إلى بيروت.

كل هذه الإشارات المضافة إلى اغتيال معروف سعد في صيدا وبعده جنبلاط واختفاء الإمام الصدر واغتيال الجميل ورحيل قادة «الجبهة اللبنانية» الكبار، رسمت خريطة طريق أخذت تنمو لتدل على وجود حركة داخلية في الطوائف ستترك تأثيرها في إعادة تشكيل وظائف كل طائفة بعد أن توصلت الأطراف إلى التوقيع على «اتفاق الطائف» والتوافق على إعادة صوغ الدستور اللبناني وتحقيق المساواة بين المسيحيين والمسلمين في توزيع المقاعد النيابية وترتيب المناصب الرئيسية الأولى الثلاثة في هرم السلطة.

بعد الطائف ستدخل الطوائف اللبنانية في انتفاضة داخلية ستلعب دورها في توليد وظائف للقوى الجديدة النامية في إطارات حزبية حديثة ومؤطرة في المناطق الصافية مذهبياً. في تلك المرحلة سيصعد رئيس حركة أمل نبيه بري إلى موقع الرئاسة الثانية (البرلمان) وسيتولى رفيق الحريري رئاسة الحكومة تحت عنوان إعادة إعمار لبنان، وستدخل المليشيات (أمراء الحرب) قوة ضاربة لتأخذ أهم الحقائب الوزارية.

خارج هذه التوليفة الوظائفية الجديدة للطوائف سيلعب حزب الله دور رافعة المقاومة ضد الاحتلال لمجموعة أسباب منها خروج منظمة التحرير من المعادلة اللبنانية ونمو دور إيران الإقليمي في إطار التفاهم مع دمشق. وأدى التوزيع الجديد لوظائف الطوائف إلى نمو قوى متوازية على الساحة اللبنانية. فالحريري نجح في مشروع إعادة الإعمار على رغم العقبات وتراكم الديون. وحزب الله نجح في طرد الاحتلال من الجنوب في العام 2000. وموقع الرئاسة الأول استطاع المحافظة على التوازن بين الإعمار والمقاومة إلى أن عصفت بالمنطقة حروب جورج بوش رداً على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

العواصف الإقليمية ارتدت على لبنان بعد احتلال العراق في العام 2003 وأدت إلى تجاذبات أهلية وتدخلات دولية بدأت بصدور القرار 1559 وتتوجت باغتيال الحريري وخروج الجيش السوري مطلع العام 2005. اغتيال الحريري أطلق حركة سياسية كان لها وقعها الخاص في تجميع الطائفة السنية في إطار تنظيمي عام على غرار الموارنة والدروز والشيعة. والمفارقة في هذا المنعطف التاريخي أن أهل السنة فشلوا وتأخروا في تشكيل القوة الذاتية حين كانت تيارات القومية والعروبة منتشرة في المدن الثلاث، والآن كما يبدو من ظاهر الصورة أن الطائفة دخلت في طور جديد يتمثل في إعادة المأسسة على قاعدة اللبننة وما تعنيه بداية خروج من زعامات العائلات والأحياء الضيقة إلى حزب الطائفة على مستوى الكيان. غياب العائلات السياسية (الارستقراطية) عن الساحة اللبنانية التي تمظهرت في مشهد دفن الأسعد (العاملي) في مقام السيدة زينب في دمشق لم يبدأ أمس الأول وإنما تطور خطوة خطوة بدءاً من الموارنة في الثلاثينات وانتهاء بالسنة في تسعينات القرن الماضي. فالتحول العام حصل وانعكس في داخل كل طائفة على طريقتها الخاصة. والنتيجة تراجع الارستقراطية السياسية (حكم الأعيان) وما حملته العائلات من ايديولوجيات قومية (عربية، سورية، ولبنانية) ونمو قوى محلية متجانسة أو متكيفة مع هويات أصغر تتناسب في تكوينها مع هيئة الطائفة أو المذهب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً