العدد 291 - الإثنين 23 يونيو 2003م الموافق 22 ربيع الثاني 1424هـ

الحلاقة الجارحة وطيبة القلب

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

احد الحلاقين (قديما) كان يمارس مهنته من خلال التنقل بين القرى، واينما حل يقوم بزيارة المنازل والمجالس ويمارس مهنته من خلال حلاقة الرجال الموجودين في المجالس. الحلاق يستخدم معدات وأدوات قد تكون حادة وجيدة في يوم من الايام وقد تكون غير ذلك في يوم آخر بسبب الاستخدام المكثف، كما ان الحلاق ذاته قد يكون تعبا في يوم من الايام بسبب الاجهاد في العمل. والتحدي هو ان الشخص الاول الذي يقبل ان يتقدم للحلاقة (حلاقة تامة لإزالة شعر الرأس كله) يقوم ايضا بتقييم الحلاق وأدواته. فاذا كانت شهادته حسنة استمرت الحلاقة بالدور للقضاء على شعر الرأس لجميع الرجال الحاضرين في المجلس المتلهفين للخلاص من شعر رأسهم.

وذات مرة دخل الحلاق مجلس عائلة يوجد فيه الابناء وابناء العم، وبدأ الحلاق بالسيد محفوظ. السيد محفوظ اعطى شهادة حسنة للحلاق ولذلك واصل الحلاق عمله وذهب إلى الثاني. الشخص الثاني ايضا اعطى شهادة حسنة، وهكذا استمرت الحلاقة حتى انتهى الحلاق من حلاقة شعر رأس اخر شخص. الشخص الاخير اكتشف الامر، اكتشف ان الحلاق ليس فقط مرهقا و«يسيل الدم» اثناء الحلاقة، وانما ادوات الحلاقة ايضا «تعبانة» وتقتلع جلد الرأس قبل ان تقتلع الشعر. الشخص الاخير ليس بعده شخص آخر لكي يقول رأيه، ولهذا احترق قلبه وهو يعاصر الألم. التفت للشخص الاول قائلا: «لماذا عملت فينا هذا يا سيد محفوظ؟».

الشخص الاخير لم يقدم اللوم للشخص الذي سبقه وانما توجه مباشرة إلى الشخص الأول الذي عانى الكثير واكتشف حقيقة الحلاق وأدواته، ولكنه لم يخبر الآخر وهكذا استمر العمل «الجارح» حتى اتى الحلاق على رأس كل واحد منهم. الشخص الأول كانت نيته طيبة، وربما لم يشأ ان يحرم الحلاق من رزقه ذلك اليوم. ربما ان الشخص الاول اراد تخفيف الألم الذي وقع عليه من باب «البلية اذا عمت طابت». الا انه وفي جميع الاحوال يوضح اهمية الدور الذي يلعبه الشخص الذي يتوقع منه الآخرون ابداء رأيه. وهذا يشبه «اعمدة الرأي» والافتتاحيات في الصحف والمجلات. والوضع ايضا يشبه الحالات التي يتورط بها انسان ما فيما لو اشترك في مشروع لانه رأى شخصا آخر يحترمه موجودا فيه. وذلك الشخص قد يبدي رأيه او قد لا يبديه ولذلك ينجح في توريط غيره معه لكي «تعم البلية» ويطيب الألم.

الكثير من الشركات التجارية تلجأ للاستشارات المتخصصة لكي لا تتورط في مشروع ما. وشركات الاستشارات تزداد في مدخولها السنوي كل عام بسبب ازدياد الطلب عليها وعلى خدماتها. شركات الاستشارة التي تمتهن الحصول على الارباح من خلال «ابداء الرأي» محظوظة كثيرا لانها تستطيع الدخول في مختلف الاعمال وتدقيق انشطتها لكي تتمكن من ابداء رأيها. وهناك من يشبّه عمل الاستشاري بذلك الشخص الذي تسأله «ما الوقت الآن؟» فيقوم بأخذ ساعة يدك ويقرأ لك الوقت ثم يتسلمها بعد ذلك ملكا له.

الاسلوب القديم في العمل يجرب التنفيذ والانتاج مباشرة على الواقع، اما الاسلوب الحديث فيعتمد على اجراء التجارب الكثيرة قبل الشروع في الاستخدام او الانتاج. فالطائرة التي تصمم وتصنع لايتم تجريبها على الركاب مباشرة وانما تخضع لبرنامج دقيق وشديد للتأكد من سلامة الطائرة واجهزتها قبل البدء باستخدامها. وحتى لو كان التصميم ناجحا فان كل طائرة يتم اختبارها قبل تدشينها ويتم اختبارها بعد كل فترة من الطيران للتأكد من سلامتها. وربما اننا لا نقول الشيء الجديد في ان الذي يستخدم السيارة فانه يهتم كثيرا بنوعية السيارة وهل ان ماكنتها سليمة وهل بها فرامل وهل يمكن ان تخدم السائق، ام ان السائق سيشتري هذه السيارة من اجل ان يصبح خادما لها ومتورطا بها.

اذا كنا نحرص كل الحرص على التأكد من سلامة سيارة قبل قيادتها وان نتأكد من حسن سمعة شركة طيران ونوع الطائرة قبل ارتيادها فلماذا لا نستخدم العقلانية نفسها مع مشروعاتنا الاجتماعية؟ المشروعات التجارية اذا خسرت فانها تخسر المال القابل للتعويض، اما المشروعات الاجتماعية والسياسية فانها تتعلق بالعلاقات الاجتماعية وتتعلق بالانسان بصورة مباشرة.

لماذا لا نلجأ للتقييم المستمر والاستشارة المستمرة والاستعداد دائما لإعادة وجهة النظر في الامور التي كنا نعتقد انها الطريق الاسلم للوصول للاهداف؟ لماذا لا نهتم بالمشروع الاجتماعي وبخسائره وارباحه كما نهتم بالمشروع غير الاجتماعي؟ هل يلزمنا ان نورط بعضنا الآخر لكي نخفف الألم من خلال تعميمه، كما فعل السيد محفوظ؟ ليست هذه دعوة للاثارة او عدم العمل او الابتعاد عن الساحة، بل على العكس، انها دعوة لعقلنة المشروعات من اجل مضاعفة الجهود في الاتجاه الاكثر وضوحا للاستفادة من الخبرات القيمة. فطيبة القلب واللطافة او التلطف كلها ميزات حسنة، ولكنها لا توفر لوحدها الضمانة لانجاح المشروعات

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 291 - الإثنين 23 يونيو 2003م الموافق 22 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً