العدد 2919 - الخميس 02 سبتمبر 2010م الموافق 23 رمضان 1431هـ

مدخل تاريخي إلى سيرة فيلسوف

لماذا كتب ابن خلدون المقدمة؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ما هو الجديد الذي يمكن إضافته على ما كتب وقيل عن مقدمة ابن خلدون؟ فهذه المقدمة أشبعت دراسة وشرحاً من عشرات المفكرين العرب والأجانب. وصنفها بعض الفلاسفة والمؤرخين والمستشرقين في مواقع متقدمة من العلوم الإنسانية التي نجح البشر في إنتاجها.

بهرت المقدمة الكثير من العلماء لكونها تعتبر علامة في تطور فكر الإنسان من حيث تأسيسها لقواعد علم الاجتماع أو في اكتشافها لقوانين التاريخ والآليات التي تتحرك وتنتج الحوادث والمعارف. المقريزي مثلاً (845هـ/ 1441م) لاحظ قبل غيره أهمية «المقدمة» ورأى أنه «لم يعمل مثالها» فهي «زبدة المعارف والعلوم» وهي «نتيجة العقول السليمة والفهوم» و«تعرّف حقيقة الحوادث والأنباء» و«تعبّر عن حال الوجود» و«تنبئ من أصل كل موجود».

الوصف الذي تقدّم به المقريزي على غيره في قراءة المقدمة والإعجاب بها تكرر القول به ومراجعته في مئات الكتب وآلاف الدراسات التي تناولت الاكتشافات النظرية التي توصل إليها ابن خلدون في قراءة التاريخ واستخراج قوانينه وإعادة شرحها وتنظيمها في فلسفة اجتماعية مبرمجة في سردها للحوادث وتنسيق نمطيتها وتعاقبها الآلي من محطة إلى أخرى.

عشرات الأطروحات درست الأسباب التي دفعت ابن خلدون إلى كتابة مقدمة لموسوعته التاريخية. وهناك أطروحات حاولت تفسير العوامل الموضوعية المعطوفة على ظروف نفسية (سيكولوجية) ساهمت في بلورة منظومة أفكاره وانسيابها في سياقات تأويليه انتهت إلى استخراج نظرية محكمة في رؤيتها لقوانين التحول والتراكم والتطور. وهناك أطروحات توقفت أمام المراجع التي اعتمد عليها في استخلاص الدروس والعبر من حوادث التاريخ. وهناك بحوث تناولت تجربته وسيرته ومحيطه ما كان لمجموعها الأثر المباشر في تشكيل وعيه في مرحلة كانت الأمة تمرّ في طور الهبوط والانقسام والتمزق والاصطراع العصبي على السلطة.

كل هذا الجهد المتراكم من المحيط إلى الخليج لا يمنع من إعادة قراءة ابن خلدون للتعرف على تفصيلات تعانقت في لحظات تاريخية لتشكيل مخطط ذهني في وعي إنسان نجح في وضعه على الورق بعد حالات من الضياع والمطاردة والفشل في تحقيق طموحاته الشخصية. فالمقدمة استثنائية في تاريخ الفكر البشري وهي تستحق العودة إليها دائماً حتى تكون تلك اللحظات التي كتبت بها لوحة يمكن مشاهدة الزمن من خلال تفصيلاتها العامة المعطوفة على سيرة إنسان قيض له أن يقوم بمهمة شاقة يصعب تكرارها، ساهمت في نقل الوعي من دائرة الوصف إلى طور التحليل والتفكيك والتركيب الممنهج للوقائع الجارية.

المقدمة لا يمكن فصلها عن محيطها الزمني، كذلك لا يمكن عزل الفيلسوف عن سيرته والإسهامات التي شكلتها الانعطافات الذاتية في ترسيم صور اللوحة التاريخية في زوايا الوعي وأسلوب التخاطب مع الناس والحياة.

حتى تكون القراءة على سوية معقولة لابد من ربط المقدمة بالمحيط الذي لعب دوره في إنتاجها المعرفي انطلاقاً من مشهدين: الأول، التاريخ الذي سبق ولادة المؤرخ الفيلسوف. والثاني سيرة الكاتب وصلة الأفكار بحياته الشخصية وانعكاس التجربة الخاصة في تحليل وتفكيك الرؤية العامة لمنظومة العلاقات بين البشر. فالربط ضروري لأنه يشكل ذلك المخرج النظري للإجابة عن سؤال: لماذا كتب ابن خلدون المقدمة؟


المغول والفرنجة

المدخل إلى المقدمة لابد أن يقرأ التاريخ الذي سبق ولادة ابن خلدون ومهد لكتابتها في لحظات انعطفت خلالها سيرة الفيلسوف ودفعته إلى الركون والاستقرار وتشكل قناعة لديه بأن لا فائدة من الكفاح والإصلاح في اعتبار أن الزمن يتكفل آلياً بتصحيح الواقع من دون ضرورة للعناء والتضحية.

هذه القناعة (الاستسلام لقوانين التاريخ) لم يكن بإمكانها أن تنضج لو لم تكن مستندة إلى وقائع جارية وتجربة شخصية كادت مراراً أن تقضي على الفيلسوف بسبب طموحاته وخصوماته مع القوى المنافسة لموقعه الخاص ودوره السياسي في التعامل اليومي مع السلطات المحلية في تونس والجزائر والمغرب وغرناطة في القرن الرابع عشر الميلادي.

ابن خلدون الذي ولد في مطلع الثلث الأول من القرن الثامن للهجرة عاش تجربة مرة تأسست على تراكمات تاريخية تقهقرية (تراجعية) بدأت تتكشف على أرض واقع الأمة الإسلامية منذ بدايات القرن الثالث عشر (السابع الهجري). آنذاك وقبل مولده بأكثر من مئة عام شهد العالم الإسلامي المترامي الأطراف من الهند إلى إسبانيا سلسلة تحولات أدخلت تاريخه في مسارات متعارضة بين انهيار المركز (بغداد) ونمو قوى إقليمية على الأطراف أخذت تقود الأمة في منحدرات ومسالك خارج الفضاء الجامع للشعوب التي يتكون منها الإسلام.

من القرن الثالث عشر كانت البداية حين قاد جنكيزخان الزحف المغولي من الشرق (الصين) إلى الغرب باتجاه العالم الإسلامي. في تلك الفترة الصعبة نجح المسلمون في دخول شمال الهند حين استطاعت قوات السلطان محمد الغوري (الغزنوي) الاستيلاء على دلهي في العام 604هـ (1207م) واتخاذها عاصمة للدولة.

هذا في الشرق. أما في الغرب فقد لقيت قوات الموحدين هزيمة قاسية في معركة العقاب في الأندلس (609هـ/1212م) أعقبها وفاة أمير دولة الموحدين في المغرب الناصر لدين الله في العام 610هـ (1213م) الذي عاش في بلاطه أولاد الفيلسوف القاضي ابن رشد الحفيد.

لم تمر فترة طويلة حتى نجح المغول في دخول سمرقند وارتكاب مذبحة في أهلها في العام 617هـ (1220م). وتصادفت المذبحة في الشرق مع فشل الحملة الصليبية (الفرنجية) على مصر في العام 618هـ (1221م).

تعارض المسارات التاريخية بين المشرق والمغرب أضعف قوة المركز (بغداد) وأنهك موقع المسلمين على الأطراف ما أعطى فرصة لنهوض دولة بني حفص في تونس وهي فصيل من قبائل مصمودة المؤيدة لدولة الموحدين. وقيام الدولة الحفصية، وهي التي سيولد ابن خلدون في كنفها، جاء في العام 626هـ (1228م) بعد أن تفككت دولة الموحدين وأخذت بالتلاشي إلى أن اضمحلت رسمياً في العام 633هـ/ 1236م.

نهوض دولة بني حفص في تونس في فضاء غياب دولة الموحدين تصادف مع أمرين كبيرين في المشرق والمغرب: الأول نجاح الحملة الصليبية السادسة في إعادة احتلال القدس في العام 626هـ (1228م) والثاني تأسيس دولة بني الأحمر في غرناطة (630هـ/ 1233م) بقيادة محمد بن يوسف (من أسرة بني نصر).

الحادثان يكشفان عن التخلخل الذي بدأ يضرب أركان دولة الإسلام. في الجانب المشرقي نجح الفرنجة في كسر الانتصار الذي سبق وحققه الناصر صلاح الدين الأيوبي مستفيدين من الضعف الناجم عن تشتت القوى بسبب نمو العصبيات وتقدم المغول باتجاه بغداد. وفي الجانب المغربي نهضت سلطة بني الأحمر المحلية في غرناطة تأسيساً على أنقاض دولة الموحدين في الأندلس، إذ بعد هذا المتغير السياسي ستسقط قرطبة في العام 633هـ (1236م)، وبلنسية سنة 636هـ (1239م).

تساقط المدن الأندلسية أمام حملات الفرنجة في المغرب لم يمنع موازين القوى من التعادل في المشرق حين نجح المسلمون مرة أخرى في استرداد القدس من الفرنجة في العام 640هـ (1242م). فهذا التعارض في المسارات التاريخية بين الانكفاء والتراجع في الأطراف (الشرق والغرب) والنمو في المركز (مصر وبلاد الشام) يؤشر إلى أن الانهيار العام لم يتطور بعد ليصل إلى حده الأقصى الذي سيشهد ابن خلدون بعض تموجاته.

تعارض المسارات التاريخية كان حتى القرن الثالث عشر لايزال القانون الذي يتحكم بموازين القوى بين دولة الإسلام من جانب والحملات من الشرق المغولي والغرب الافرنجي من جانب آخر. ولكن قانون التعادل بين الكفتين سيبدأ بالتراجع خطوة خطوة امتداداً إلى القرن الرابع عشر.

في آخر النصف الأول من القرن الثالث عشر سيشهد العالم الإسلامي سقوط أشبيلية في الأندلس (646هـ/ 1248م) وهي مدينة أسرة ابن خلدون ما اضطر أجداده للنزوح من إسبانيا إلى تونس. سقوط اشبيلية في المغرب لم يمنع الدولة الأيوبية في أواخر عهدها من إحباط الحملة الصليبية السابعة على مصر في العام 647هـ (1249م).

فشل حملة الفرنجة على مصر أنهى من جانب دولة بني أيوب ومهد الطريق لقيام دولة المماليك الأولى (البحرية) في العام 648هـ/ 1250م. وهي دولة ستلعب دوراً مفصلياً في مواجهة موجات الغزو المغولية والقضاء على بقايا ممالك الفرنجة في ساحل بلاد الشام.

ظهور دولة المماليك الأولى على المسرح لن يكتسب قيمته التاريخية (العسكرية) إلا بعد كارثة سقوط بغداد ونجاح المغول بقيادة هولاكو في اجتياح عاصمة الخلافة في العام 656هـ (1258م) ومقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله وذبح مليون نسمة من أهالي المدينة.

بعد زلزال سقوط بغداد سيبدأ دور المماليك حين حاول المغول مهاجمة بلاد الشام. فالغزو سيفشل في موقعة عين جالوت التاريخية في العام 658هـ (1260م). وبسبب تلك المعركة الفاصلة التي قادها السلطان سيف الدين قطز ستتعزز هيبة المماليك وتستقر شوكتهم التي تعاظمت بعد نجاح السلطان الظاهر بيبرس في تحرير إمارة انطاكيا من الفرنجة في العام 666هـ (1268م).

نجاحات المماليك اقتصرت على المشرق (مصر وبلاد الشام) ولم تتجاوز حدوده الجغرافية المحاصرة من المغول في العراق وبعض ممالك الفرنجة في ساحل الشام ودويلات الأسر في المغرب. في ذاك الفضاء المتعارض في مساراته التاريخية ستنهض دولة بني مرين في المغرب الأقصى في العام 667هـ (1269م) وهي الأسرة التي سيتصل بها لاحقاً ابن خلدون ويتعامل معها سياسياً، كذلك ستشهد تونس فشل حملة صليبية (افرنجية) بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع في العام 668هـ (1270م).

التفكك الأسري (الدويلات) في المغرب والأندلس لم يمنع إحباط الحملة الصليبية التي ستكون الأخيرة في العالم الإسلامي (العربي) لأن المسارات التاريخية المتعارضة ستنتج في المشرق مجموعة تطورات حاسمة في مجرى الزمن المضطرب. ففي نهاية القرن الثالث عشر ستظهر في آسيا الصغرى (تركيا) بدايات نمو الدولة العثمانية في 688هـ (1289م). وهذا النمو الأولي سيتصادف مع حادثين كبيرين في تاريخ دولة الإسلام وهما: اولاً، نجاح سلطان المماليك الأشرف خليل (ابن السلطان قلاوون) في استرداد إمارة عكا في العام 690هـ (1291م) وبه سينتهي الوجود الصليبي (الافرنجي) في المشرق العربي.

ثانياً، سينجح المماليك أيضاً بقيادة السلطان الناصر محمد بن قلاوون في إنزال هزيمة في المغول في معركة مرج راهط في مطلع القرن الرابع عشر (702هـ/ 1302م).


مولد ابن خلدون

في هذا الزمن المضطرب في مساراته التاريخية المتعارضة ولد ابن خلدون في تونس في فضاء دولة بني فحص في العام 732هـ (1332م). وسيكون لسيرة الفيلسوف علاقة بتلك التموجات التي عصفت بالأمة من مغربها الذي تتحكم بمفاصله السياسية دويلات أسرية في غرناطة وفاس وتونس ومشرقها الذي سيشهد تقلبات ناجمة عن مواصلة المغول (التتار) ضغوطهم على بلاد الشام ونمو شوكة دولة المماليك الثانية (البرجية) في مصر.

قبل هذه المتغيرات سيظهر وباء الطاعون الدارس الذي سيعصف بأوروبا والمغرب ومصر وبلاد الشام ويتفشى في مدن وموانئ البحر المتوسط العامرة ما سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد وخراب المعاش وموت ربع سكان المناطق خلال فترة امتدت سبع سنوات ستنتهي في العام 751هـ/ 1350م.

النصف الأول من القرن الرابع عشر سيكون زمن وباء الطاعون الذي سيؤدي إلى وفاة والد ابن خلدون وشقيقه الكبير وبعض أساتذته وشيوخه حين اجتاح تونس ما دفعه إلى مغادرتها في سن الشباب (17 سنة) إلى المغرب في العام 749هـ/ 1348م.

المشرق لم يكن أفضل حالاً إذ درس وباء الطاعون «النخبة» في مصر وبلاد الشام، وما أن تلاشى حتى ظهرت قوة دولة العثمانيين في الأناضول حين نجح السلطان أورخان بن عثمان في عبور مضيق الدردنيل وبدأ زحفه العسكري على شرق أوروبا وجنوبها في العام 757هـ/ 1356م.

آنذاك بلغ ابن خلدون سن النضج (45 سنة) حين قرر فجأة اتخاذ خطوة الاستقالة من العمل السياسي بسبب قناعته بصعوبة الإصلاح والانصراف نحو الكتابة وتأليف تاريخه عن دول المغرب. جاء القرار الطوعي بعد تجربة قاسية أودت بأصحابه وكادت أن تنهي حياته ما دفعه إلى طلب العزلة والانكفاء مع عائلته في منزل (قلعة) صديقه في الجزائر، والمباشرة في صوغ مقدمته الفلسفية في قراءة التاريخ. أنهى ابن خلدون في وضع مقدمته (قبل التنقيح والتهذيب) في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف العام 779هـ (1377م). وبعدها تفرغ لإنجاز كتابه التاريخي فألف موسوعة في خمس سنوات قضاها في العزلة والانطواء في منزل صديقه.

حين أنهى ابن خلدون عمله التاريخي خرج من حلقة الانكفاء وكان بلغ الخمسين من عمره فتوجه بداية إلى مسقط رأسه فاختلف مع مفتي تونس فكرياً ما جعله يتعرض مجدداً للوشاية والضغوط فقرر المغادرة إلى مصر ومنها إلى الحجاز للحج.

تصادفت خطوة ابن خلدون مع متغيرات مهمة في المشرق إذ سقطت في العام 784هـ/ 1382م دولة المماليك البحرية وقامت دولة المماليك البرجية (الثانية) بقيادة السلطان برقوق (الشركسي). وحين وصل الفيلسوف إلى القاهرة أصيب بدهشة ثقافية إذ اكتشف بسرعة ذلك الفارق العمراني - المعرفي بين مدينة عامرة وبين حصون (معسكرات أسرية) تنهض على قاعدتها القروية دويلات معزولة في المغرب عن عالم مزدهر بالتحولات. وبسبب التقاط ابن خلدون هذه المفارقة الزمنية قرر منذ لحظة وصوله البقاء في القاهرة وعدم العودة إلى المغرب.

تبوأ صاحب المقدمة في مطلع عهد دولة المماليك البرجية كرسي قاضي الإفتاء على المذهب المالكي واستمر يشغل ذلك المنصب على تقطع مدة أكثر من عشرين سنة عرفت خلالها مصر الكثير من التقلبات والانقلابات وشهد في فترتها المشرق العربي موجة جديدة من الغزوات المغولية على بلاد الشام.

آنذاك هاجم سلطان المغول تيمورلنك حلب وحماه وارتكب في المدينتين مجازر ضد المدنيين في العام 803هـ/ 1400م، توجه بعدها إلى دمشق وحاصرها بقصد دخولها. وقبل الهجوم كلف السلطان الناصر المملوكي ابن خلدون بمفاوضة تيمورلنك فتوجه إلى دمشق برفقة وفد محاولاً إقناع سلطان المغول بعدم مهاجمة عاصمة الأمويين. انتهت المفاوضات التي جرت في ضاحية دمشق إلى الفشل فقفل ابن خلدون العجوز (68 سنة) إلى القاهرة واجتاح المغول المدينة وارتكبوا مجزرة ونهبوا بيوتها وأسواقها وخيراتها في العام 803هـ ما اضطر سلطان المماليك فرج بن برقوق إلى توقيع معاهدة صلح مع تيمورلنك في العام 804هـ/ 1401م.

بعد توقيع الصلح مع مصر توجه المغول إلى آسيا الصغرى وحصلت معركة أنقرة التي انتهت بهزيمة العثمانيين في العام 805هـ (1402م) وأسر السلطان بايزيد الأول وإرساله إلى سمرقند. هزيمة العثمانيين العنيفة ستؤدي إلى تأخير فتوحاتهم في أوروبا الشرقية مؤقتاً إذ سيموت بعدها تيمورلنك في العام 807هـ (1404م) ما سيخفف الضغط عنهم في الجبهة الجنوبية وسيترك أبواب الشمال مفتوحة أمام تقدمهم. آنذاك كان ابن خلدون ناهز عمر 74 عاماً ولن يشهد التحولات الكبرى التي تواصلت في مسارات تاريخية متعارضة وانتهت بسقوط القسطنطينية (اسطنبول) في قبضة العثمانيين لتسقط بعدها دولة بني الأحمر في غرناطة وتضمحل في ضوء تفاعلاتها آثار المسلمين في إسبانيا. آنذاك كان صاحب المقدمة غادر الدنيا في العام 808هـ (1406م) ليدفن في مقبرة الصوفية في القاهرة.

هذه الفضاءات التي عصفت بالأمة صعوداً وهبوطاً وأودت إلى غياب المركز (بغداد) عن المشهد ونمو قوة مركزية إقليمية (الدولة العثمانية) في الطرف الشرقي من العالم الإسلامي واجتياح المغول العراق وبلاد الشام وخروج الفرنجة من القدس وعكا وقيام دويلات أسرية في المغرب على أنقاض دولة الموحدين ونهوض دولة المماليك في مصر بعد انهيار سلطة بني أيوب، تشكلت في تضاعيفها السياسية مسارات تاريخية متعارضة نجح ابن خلدون في معايشتها وملاحظة تداعياتها وتموجاتها المتضاربة في تكويناتها العصبية والزمنية. فهذه الفضاءات ساهمت في تشكيل وعي ابن خلدون ودفعته إلى كتابة مقدمة لتفسير التاريخ والآليات التي تتحكم في ترتيب حوادثه.

«المقدمة» التي صاغ فقراتها ابن خلدون في خمسة أشهر أسست لاحقاً مجموعة علوم في الفلسفة والاجتماع، وشكلت خطوة استثنائية في تقدم الفكر البشري. كيف حصل الأمر ولماذا؟ الجواب يحتاج إلى قراءة تفصيلية للتعرف على تفصيلات سيرة إنسان وصلتها المضطربة بزمنه.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2919 - الخميس 02 سبتمبر 2010م الموافق 23 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً