العدد 293 - الأربعاء 25 يونيو 2003م الموافق 24 ربيع الثاني 1424هـ

قواعد أميركية في العراق واستدعاء ضباط المخابرات العراقية المختصين بشئون إيران

رقابة على الصحف... ممنوع الكلام عن الاحتلال

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

بحسب الإدارة المدنية الأميركية في العراق يمكن رسم الصورة الوردية الآتية: باشر رجال الشرطة العراقيين أعمالهم وهم يقومون بدوريات مشتركة مع قوات التحالف للحفاظ على الأمن الذي بدأ يستقر، وتمت إعادة تشكيل النظام القضائي في البلاد... وطلبة المدارس والجامعات عادوا إلى مقاعد الدراسة، والآن بدأوا يستعدون لأداء امتحاناتهم لنهاية السنة الدراسية، والنفط بوشر في تصديره والحصة الغذائية المقررة للعوائل العراقية قد تم توزيعها للشهر الجاري... وأجور الموظفين والمتقاعدين بدأ دفعها... ومكاتب تشغيل العاطلين عن العمل تتسلم يوميا آلاف الطلبات... العسكريون الذين سرحوا من الجيش يتم استيعابهم بوظائف مدنية أو يتم استقدامهم للعمل في الجيش الجديد الذي تمت المباشرة به... الأمن العام والمخابرات تم إعادة تشكيلهما مجددا، وقسم من منتسبيهما السابقين يتم إعادتهم للعمل.

النوادي الرياضية والمسابح والاتحادات والفرق الرياضية باشرت القيام بواجباتها. وللمرة الأولى منذ عقود يتذوق العراقيون طعم الحرية ويعيشون أجواء الديمقراطية انهم يتظاهرون ولديهم عشرات الصحف بدلا من ثلاث ذات المضمون الواحد، والأحزاب التي كان محظورا وجودها ما عدا حزب السلطة أصبحت تنتشر الآن في أرجاء البلاد.

كل شيء تغير، والحياة بدأت تستعيد وقعها في العراق على نحو مختلف. وافق المستقبل يحمل في طياته المزيد من الإيجابيات التي طالما حلم بها الشعب الذي عانى من القتل والتهجير الجماعي على يد نظام ديكتاتوري قل نظيره في أساليب القمع والتعذيب والبطش بمناوئيه.

والصورة في العراق ليست على هذا النحو الوردي الذي تحاول الإدارة الأميركية تسويقه في إطار دعايتها الطنانة. فالبلد الذي عانى من سنوات القمع والحروب المتواصلة والعقوبات الدولية قد تهشمت بناه الاقتصادية وانهارت بناه التحتية والثقافية وقيمه الاجتماعية، وجاءت «حرب» «التحرير» الأنجلو أميركية لتقضي على البقية الباقية فيه. ولكن في ظل النظام القمعي السابق كان الناس يمارسون حياتهم بعيدا عن السياسة على نحو طبيعي، ولقمة العيش في حدودها الدنيا بالنسبة إلى معظم الشرائح الاجتماعية كانت مؤمنة. السرقة قد قلت على رغم سنوات الحصار والحركة في الشوارع والاماكن العامة أمينة، والمهم كانت هناك مرجعية سلطوية يعود اليها المواطن إذا ما تعرض لاعتداء أو سرقة أو سلب.

أما الآن فالناس خائفون، فطالبة المدرسة أو الجامعة يخاف ذووها إرسالها الى المدرسة أو الجامعة من دون صحبة مرافق من إخوانها أو ذويها. النساء يخفن الذهاب للأسواق كما اعتدن من دون رفقة الرجال. الرجال أنفسهم يخافون التعرض للسرقة أو الإذلال على يد القوات الأميركية.

الشوارع والاماكن العامة تصبح مكفهرة بمجرد حلول الظلام، بغداد المدينة التي كانت مزدحمة صاخبة ليلا في اوقات الصيف... اصبحت غارقة في لجة ظلام لا تكسره ربما اكثر من ساعتين من الكهرباء التي بات انقطاعها يصيب الناس بالهستيريا مع ارتفاع درجات الحرارة. البلد الذي كان يعيش سنوات عقوبات قاسية طوال 13 سنة لم يواجه وعلى هذا النحو المستمر من انقطاع الكهرباء وبمعدل 18 و20 ساعة يوميا. مترافق مع ذلك شحة في المياه التي تصل الاحياء السكنية.

ومما يزيد الوضع سوءا هو ارتفاع كلفة الحياة فيما تظهر ازمات من نوع غير معروف في الحياة العراقية، فهناك الآن ازمة متفاقمة هي ازمة الورقة النقدية فئة عشرة آلاف دينار التي لا يقبلها الآن التجار بعد ان كانوا يقبلونها بسعر اقل من قيمتها بنسبة 40 في المئة والتي عجزت حتى الآن السلطة الاميركية الحاكمة في البلاد من الحد منها على رغم قيامها بطبع كمية من فئة 250 دينارا الا ان سوء طرحها في المصارف ومحدودية كميتها مقارنة بما هو موجود من مبالغ النقد بفئة عشرة آلاف لم يوفر الحل المطلوب لهذه الازمة. ومما يعقد هذه الازمة قيام السلطة بدفع رواتب الموظفين من فئة عشرة آلاف دينار.

الفشل في طرح عملة جديدة كما كان يتوقع الناس ادى الى انهيار سعر صرف الدولار مقابل الدينار بنسبة 50 في المئة، ومنحة الطوارئ التي دفعتها السلطة الاميركية للموظفين والمتقاعدين والتي لم تتجاوز 50 دولارا، لم تمثل شيئا مع ارتفاع كلفة الحياة اليومية للعراقيين من ارتفاع اسعار البنزين الى ارتفاع الغاز المنزلي للطبخ الى ارتفاع اسعار النقل وارتفاع اسعار الفواكه والخضر وما الى ذلك.

مشكلات كثيرة يتعاطى معها العراقيون وان بدت ثانوية الا انها مزعجة. فنصف الطرق المؤدية الى قلب العاصمة مقطوعة بأمر قوات الاحتلال لانها تؤدي الى مقرات هذه القوات، والنصف الثاني من هذه الطرق مزدحم إلى درجة مقيتة بسبب زخم السيارات التي ازدادت اعدادها بعد ان فتحت السلطة الحاكمة ابواب الاستيراد من دون جمارك، ومما يزيد من قسوة الزحام تلك الطوابير المتزايدة من السيارات على محطات البنزين. والحصة التموينية التي وزعت؛ مفرداتها اقل مما كانت عليه في السابق وكمية مفردتين على الاقل منها تم انقاصها. الأوضاع في كل شيء تسير من الأسوأ الى الأكثر سوءا.

وامام هذه الاجواء المستمرة وعلى رغم مضي اكثر من شهرين على سقوط بغداد، فان السؤال الحائر الذي لا يجد له العراقيون الجواب؛ هو: ما استراتيجية الولايات المتحدة في العراق؟

حتى الآن من الواضح انه لم تتبلور الاستراتيجية صوب تشكيل حكومة عراقية مؤقتة تتولى ادارة شئون البلاد، والاتجاه ينحو الى تعيين اشخاص من التكنوقراط تناط بهم مسئوليات محددة تحت اشراف سلطات الاحتلال. اما الاحزاب السياسية العاملة في الساحة، فهي لا تحظى باحترام الاميركيين وهي كذلك لا تحظى بقبول واسع لدى الشارع العراقي المهموم بفواجعه ولا يرى في هذه الاحزاب المعبر عن همومه وهواجسه.

فضلا عن ان معظم هذه الاحزاب هي تشكيلات اسمية اكثر منها قوى سياسية فاعلة ومؤثرة في الوسط الجماهيري، وفي ما عدا الاحزاب الاسلامية وبعض الاحزاب القومية، فان معظم الاحزاب الموجودة الآن لا تتجاوز احجامها عن رهط من الاشخاص الذين لا يتمتعون بحضور وتأثير واسعين في اوساط الناس.

والاولوية الواضحة للاستراتيجية الاميركية حسب ما يرى - الباحث في مركز الدراسات الدولية - ظافر العاني تتجه صوب الاقتصاد، ويقول «يعتمد الاميركيون في اولويتهم هذه على النهج ذاته في الترتيبات الهيكلية التي قاموا بها في بلدان مثل روسيا والارجنتين عندما اعتمدوا اسلوب «العلاج عن طريق الصدمة» المشين المطبق على روسيا في بداية التسعينات وحتى العملية الجراحية الخالية من الجمالية المفجعة في الارجنتين قبل بضعة سنوات.

وفي رأي - استاذ العلوم السياسية في جامعة النهرين منعم العمار- يغلب الاميركيون في استراتيجيتهم ازاء العراق المنطق الكلي الشمولي لادارة الصراع على المستوى العالمي منه على حيثيات توفير الاستقرار والامن في العراق نفسه... والذي يقول «هذا الامر بدأ يتضح من خلال مؤشرين على الاقل، الاول هو المباشرة في بناء قواعد عسكرية واسعة في انحاء مختلفة من العراق واحدة في منطقة ربيعة على الحدود مع سورية والثانية على مقربة من مدينة كركوك الغنية بالنفط وثالثة في سليمانية على مقربة من الحدود مع ايران. ورابعة في دهوك قرب الحدود مع تركيا والتي ستكون القاعدة الرئيسية لتدريب الجيش العراقي الذي اعلن بريمر عن اعادة تشكيله.

ومن المؤكد ان هناك قواعد جديدة اخرى سيعلن عنها فيما بعد. المؤشر الثاني هو ان اعادة تشكيل المخابرات العراقية تم باستدعاء ضباط المخابرات العراقية المختصون بالشئون الايرانية. فالاولوية في اطار الاستراتيجية الكلية الشمولية لادارة الصراع العالمي من قبل واشنطن تتجه نحو ايران، وتبعا لهذه الاولوية يجب تحضير العراق الذي يفترض ان يكون واحدة من قواعد الانطلاق لادارة الصراع اميركيا على المستوى العالمي». ويضيف العمار «تفترض هذه الاستراتيجية البعيدة المدى نوعا من السلبية لدى العراقيين كأنهم كتلة رخوة يسهل تطويعها». ولهذا فان العراقيين صاروا يدركون ان سياسة الولايات المتحدة القائمة في العراق باتت تتخذ مسارا قائما على تركهم لانفسهم في مواجهة الفوضى في محاولة لجعلهم هدفا سهلا للتطويع.

طبعا حالة الغليان والمقاومة المتنامية في الشارع العراقي ضد الاميركيين باتت تعوق هذه السياسة، ومن الممكن ان تشكل عقبة كؤود للاستراتيجية الاميركية الكلية الشمولية. والحقيقة البارزة والتي يمكن ان تتضح اكثر للناس خارج العراق، ان المقاومة الفاعلة القائمة حاليا ضد الوجود الاميركي ليست امتداد لبقايا النظام السابق، وانما هي مقاومة ناشئة ولكنها من المتوقع ان تكبر وتتسع، ومردها ان العراقيين صاروا يشبهون سياسة الاميركيين بسياسة صدام وينظر إليها على انها امتدادا لها. فقوات الاحتلال تحصنت في مواقع النظام السابق واماكن ترفه وتقيم نظاما غير شرعي، محاصرا ومهتما فقط بالدفاع عن مصالحه الخاصة.

الآن وفق ما يرى غير خبير عراقي متابع لمجريات النهج الاميركي في العراق «تهتم الولايات المتحدة بالنفط وانتاج اكبر قدر منه وكذلك ارساء عطاءات اعادة الاعمار على الشركات الاميركية، فضلا عن الاهتمام ببناء القواعد العسكرية». ومثلما كانت السلطة السابقة تلجأ الى القمع من دون تمييز في مواجهة اي تمرد، فان قوات التحالف تفعل الشيء ذاته، فهي لا تحارب المقاومين وانما تذل السكان وتقتل من دون تمييز وعياراتها النارية تصيب حتى القابعين في منازلهم.

إذا، صورة نظام يعيش في الرخاء خلف حصونه مرتكزا على نخبة اختارها وهي تابعة له تحتكر موارد البلد حتى لو بقي المواطنون يعانون الحاجة لا تزال ترتسم امام اعين العراقيين. بل كثير من العراقيين صاروا على اعتقاد راسخ ان السلطة الامريكية في العراق لا تختلف في ممارساتها ومنهجها في ادارة الحكم عن السلطة التي تمت ازاحتها. يعلق الصحافي ابراهيم عاشور وبتندر «لقد جاءتنا توجيهات (الرئيس) بريمر الاعلامية الى جميع الصحف العراقية والتي لا تختلف من حيث الجوهر عما كانت تصلنا من توجيهات اعلامية من صدام حسين». ورئيس تحرير احدى الصحف - حسب ما ينقل احد الصحافيين العاملين معه - يخاطب العاملين معه «اياكم والمس بأميركا لا تنسوا ان السلطة الحاكمة في العراق هي اميركا».

ومثل هذه القناعة يبدو باتت تتسلل إلى الاطفال في العراق، فأحدهم يسأل معلمته هل صور صدام التي امر الطلاب بتمزيقها من الكتب ستوضع مكانها صورة بوش؟ وابنتي سألتني عن اسم الجسر الذي كنا نسير عليه، وقد كان فيما مضى اسمه «جسر صدام الكبير» هل تم ابداله باسم «جسر بريمر الكبير»؟ ترى هل توقعات ابنتي ستتحقق؟ من يعرف

العدد 293 - الأربعاء 25 يونيو 2003م الموافق 24 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً