العدد 2933 - الخميس 16 سبتمبر 2010م الموافق 07 شوال 1431هـ

حصر الإيمان في الدائرة الفردية

جون لوك وفلسفة التسامح (2)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

كان من جملة المعالم البارزة للفترة التي عاش فيها لوك الميل المتزايد إلى حصر الإيمان في الدائرة الفردية، وحمله ما أمكن على الإيمان القلبي، والحد من تدخل الديانة في إدارة الحياة والمجتمع، وإيكال أمر اكتشاف الحقائق وتحصيل المنافع إلى العقل المؤيد بالحس والتجربة. وفي مجتمع يتسع لأن ينهض من أبنائه من ينكر الحقائق العلوية والغيبية، أو يقول بتعذر الوصول إليهما، وفي مجتمع ينهزم فيه الإيمان إلى الدائرة الفردية القلبية، لا عجب، من باب أولى، أن ينكر على السلطة السياسية أي منشأ غيبي.

كانت السلطة في العالم القديم تستمد شرعيتها من الطبيعة التي يعتبر الإنسان جزءاً منها، وفي العصور الوسطى من العالم الغيبي بصفتها قبساً من القدرة الإلهية، لذلك فإن إنكار أي منشأ غيبي للسلطة لم يكن ليعفي من البحث لها عن شرعية.

سبق القول إن «الإنسان الدنيوي الميول والاتجاهات قد حاز في التاريخ الحديث على الأولية» وطبيعي أن السلطة السياسية، عند موجود كهذا، أمر مفهوم ومبرر، لكن شخص الإنسان والإنسان المنفرد، مهما كانت أوليته، لا يمكنه أن يكون مسوغ السلطة السياسية التي تشكل مصدر النظام الاجتماعي. كذلك فلقد تحتم على الإنسان الحديث أن يبحث عن منشأ اجتماعي للسلطة السياسية. وقد وجد المنظرون، على اختلاف ما سلكوه من طرق، هذا المنشأ في فكرة الشعب. وخلاصة ما تستند إليه هذه الفكرة أن بين البشر من المشتركات ما يصلح أن يتخذ آصرة تضمهم بعضهم إلى بعض. ومادام الإنسان ودنياه هما الأصل ولهما الأولية فما الذي يحول دون اتخاذ هذا الأصل منشأ للسلطة السياسية ومصدراً لشرعيتها؟

عند هذا المفصل من مفاصل تطور الغرب السياسي تتضح، لربما أكثر من ذي قبل، أهمية ماكيافللي وأفكاره. فهل كان لفكرة الشعب أن تتفتح لولا أن فكرتي «القومية» و«فصل الدين عن السياسة»، أي العلمانية، كانتا قد سبقتاها؟

بالطبع لا.

فلولا أن سبق ماكيافللي إلى ما سبق إليه من ترسيخ طابع السلطة الدنيوي، لما أمكن هوبس أن ينظر لـ الإمارة المطلقة، وأن يرى فيها مجلى النظام الاجتماعي الذي غايته تحقيق أمن أفراده، وتوحيد ما بينهم، من طريق إدارة طبيعة أفراده وغرائزهم، دفعاً للأذى واستجلاباً لمنافعهم. وكما خدمت أفكار هوبس فكرة الإمارة لم تلبث هذه الأفكار نفسها أن أدارها كرومويل وأنصاره إلى نحر الإمارة.

كانت الأولوية لدى هوبس وأمثاله قيام نظام بشري صرف في مبتدئه وغاياته. وإذ قام مثل هذا النظام انفتحت أمامه أسئلة استمراره فكانت أفكار لوك – من دعوته إلى تحكيم العقل البشري الحسابي، إلى رسمه ضرورة تمتع أية حكومة بغطاء دستوري يكفل شرعيتها، مروراً بالتسامح في مجال التصديقات والاعتقادات – كانت أفكار لوك بمثابة إجابات عملية على هذه الأسئلة المستجدة.

أشرنا سابقاً إلى أن العصر الذي ولد فيه لوك وترعرع كان يعلق آمالاً كباراً على التجربة، كسبيل إلى المعرفة، ويعتبرها ركناً ركيناً في تسيير أمور الحياة، ولا عجب أن يصر رجل حكومة مثل لوك على التجربة أيضاً.

ورغم أنه لم ينكر المبادئ العقلية والفطرية، كان لوك ينكر التصورات الفطرية ويعتبر العمل والأخلاق مجردين من الفطرية، ويذهب إلى أن التصورات المفضية إلى المعرفة ترجع، في خاتمة المطاف، إلى «الإحساس الظاهر» (Sensation)، أو «المراقبة النفسية» (Reflection) التي تمثل الإحساس الباطن، وأن التصورات الأخلاقية لها منشأ تجريبي أيضاً، يرجع إلى إحساس داخلي وخارجي.

ويعتبر لوك أن متعلق المعرفة الحسية الأمور الجزئية، ويقول، بالإضافة إلى هذا النوع من المعرفة، بمعرفة أسمى ذات ثلاث مراتب. وهذه المراتب الثلاث هي: الحدس (Intuition)، والبرهان (Demonstration) وما لم يبلغ مرتبة الحدس أو البرهان فليس بمعرفة، بل هو إيمان (Faith) أو رأي (Opinion).

وهكذا ينصب لوك المعرفة الإيمانية في مقابل المعرفة الحدسية والعقلية، مخرجاً إياها من دائرة المعقولات، (وإن لم تكن مضادة للعقل).

هذا هو رأي لوك، وهو رأي لا يتعارض مع مجمل سلوكه ومواقفه. فهذا الفيلسوف المعتدل والمسالم يؤيد الإلزامات الاجتماعية، ولا يدفعه إيمانه بالحس والتجربة، كبعض معاصريه والمتأخرين عنه، إلى إنكار الإيمان والاعتقاد بالله والتدين. فباعتباره المعرفة الدينية أمراً وراء العقل لا ضده، يخرج لوك مسائل الإيمان والتدين من دائرة التمييز البشري، حافظاً في الوقت نفسه على منظومته الفكرية تماسكها. بل يذهب إلى أننا، وإن كنا غير قادرين على إدراك المسائل الدينية والأمور العلوية والإلهية من طريق العقل، فإن شهادة الله عليها، (من طريق الوحي)، دليل على قطعيتها.

لا يكتفي لوك بأن يفصل بين العقل والإيمان بل يتدارك احتمالات الصدام بأن ينسب إلى الإيمان ابتداء موافقته للعقل: «حيث إن الإيمان لا يمكنه أن يخالف العقل، فلا يمكن للأمور غير العقلية أن تكون أموراً إيمانية طبعاً». وبرأي لوك، فإن الحاكم النهائي في تمييز الأمور التي وراء العقل والأمور غير العقلية هو العقل نفسه، ولاشك في ذلك، ولكن بعض عبقرية لوك هي في إمساكه بزمام الإيمان بمهارة لا يحتاج معها إلى إنكاره أو مصادمته. وهكذا يحصل العقل على منزلة هي فصل الخطاب في حقل المعرفة ومجال الإيمان معاً.

أما القانون من وجهة نظر لوك فله، وفقاً للعالم الحديث، مكانة خاصة، وهو وإن قسم إلى أنواع ثلاثة: إلهي (Divine law)، ومدني (Civil law)، وعرفي (The law of opinion or reputation)، وجعل القانون الإلهي هو القانون المبتني على الوحي، واعتبر أحياناً أسمى من الآخرين، والملاك النهائي التمييز الحق عن الباطل من الناحية الأخلاقية، فإن عقل الإنسان يبقى في النهاية مرشده إلى القوانين الطبيعية والإلهية، والفيصل بين الأمور الوحيوية الإلهامية وغيرها. والنتيجة هي أن الحكم الواقعي ليس شيئاً سوى العقل البشري.

وسياسة لوك منبثقة بدورها من رؤيته الفكرية الفلسفية، وحاصل تأمله العقلي، وإذ يقول إن السياسة أمر طبيعي نابت في طبيعة الإنسان، وإذ يوافق هوبس على وجود وضع طبيعي، فإن ماهية الطبيعة التي توصل إليها لوك هي الوضع الذي كان الإنسان عليه قبل عضويته في المجتمع، (أو ما يفترض أنه كذلك). وهذا الوضع له قواعده وقانونه الخاص وهو القانون الطبيعي نفسه المكتشف من قبل العقل. فالوضع الطبيعي عند لوك يستلزم تحقق المساواة بين الناس، وضمان أنفسهم وسلامتهم وحريتهم ومالهم.

خلافاً لهوبس الذي يعتبر الحرب أمراً طبيعياً، يعتبر لوك أن الحرب منافية للطبيعة. وبعبارة أخرى فإن الوضع الطبيعي الذي هو مقتضى إنسانية الإنسان يستدعي، برأي لوك، الخير والسلم والأمن. والوضع الطبيعي نظام أخلاقي قائم على أساس حرية الفرد، لكن هذا النظام وهذه الحرية ليسا ناشئين من رغبات وميول الناس، وإنما هما أمران معقولان، ويمكن لعقل الإنسان أن يدركهما بوضوح.

الحقوق والقوانين، برأي لوك، ذات جذور طبيعية. فالحق يساوق الحرية، والقانون يتفق والإلزام، لكن تلك الحرية وذلك الإلزام طبيعيان؛ ولحق الملكية (Property)، كأحد الحقوق الطبيعية، أهمية خاصة من وجهة نظر لوك. وخير دليل على ذلك أنه يخصص الفصل الخامس من رسالته الحكومة العصرية لإثبات حق الإنسان الطبيعي والإلهي بالملكية ولوازمها والآثار المترتبة عليها.

يذكر أن مراد لوك من الملكية ليس «العقارات» (Estates) فقط، بل إن هذا العنوان يشمل النفس (Lives) والحريات (Liberties) أيضاً.

ومن وجوه الوضع الطبيعي، كما يعرفه لوك، جملة مزايا، منها المساواة والحرية، لكن مزايا من هذا القبيل تكون – مع عدم وجود نظام في المجتمع – عرضة للخطر دائماً. وهذا الخطر المحسوس والمعقول هو الذي يدفع الأفراد إلى تشكيل المجتمع. فـ «المجتمع المدني غاية معقولة هي المحافظة على الملكية، أي مال الأشخاص وأنفسهم وحرياتهم». وهكذا فإن غاية المجتمع تكاد تكون هي نفسها عند لوك وهوبس، ومحل خلافهما إنما هو في سبيل هذه الغاية.

إلى ذلك، يلوح في منظومة لوك السياسية أمر آخر لا تخلو كتب الأقدمين من إشارات إليه، مفاده أن أساس وجود النظام الاجتماعي والمدني، وملاك شرعيته، لا يعدوان، على نحو ما، أن يكون رضا الناس

(Consent). وحيث إن اجتماع الناس متعذر عادة، فالرأي الأرجح أن هذا الرضا يستفاد من موافقة الأكثرية، وعليه تكون الأكثرية أساس النظام.

وللميثاق والعقد الناشئين عن الرضا – برأي لوك – غاية، ويقصدان إلى هدف، وليس تلك الغاية وذلك الهدف إلا المحافظة على أنفس الناس وأموالهم وحريتهم، وهذه المحافظة هي ما يبرر قيام الدولة وبقاءها. ومن نافل القول إن الدولة لا تملك أن تتجاوز هذه الحدود، ولا التدخل في أمور المجتمع الأخرى.

ويصل لوك، من طريق هذه المقدمات، إلى نتيجة تعتبر من أهم أسس النظام السياسي والاجتماعي في العصر الحديث من تاريخ الغرب، مفادها أن الضرورات التي تستدعي تأسيس الحكومة تؤدي إلى خروجها عن «الإطلاق» فتغدو لا مطلقة ولا أبدية، بل مقيدة مشروطة برعاية «الحريات» وضمان أرواح المواطنين وأموالهم. فإذا فقدت أياً من هذه الشروط كان الشعب بالخيار بين عزل الحكومة وإبقائها، طالما أن القرار في إعلان الثورة على الحكومة وعدمها بيد الناس أنفسهم. ويشتمل الفصل التاسع عشر من الرسالة الثانية في الحكومة على تفصيل رأي لوك في حل الحكومة، والسبل الكفيلة بذلك.

كذلك تناول لوك بالبحث فصل السلطات – الذي عني مونتسكيو (1689 – 1755م)، أكثر من سواه ببيانه وتوضيحه وبات من المحاور البديهية في الفكر السياسي – ومن المفيد استكمالاً للبحث التوقف عند آراء لوك في هذا الشأن.

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2933 - الخميس 16 سبتمبر 2010م الموافق 07 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:07 ص

      سليم حسين ياسين

      السيد الرئيس محمد خاتمي المحترم تحية طيبة وبعد00ان الدين لم يظهر لاصلاح نفس بشرية واحدة وانما جاء من اجل اصلاح مجتمع باكمله وان الله سبحان وتعالى امر الانبياء باصلاح مجتمعاتهم فالدين مند ظهوره كان عاما وليس فرديا00 واما الدين في المفهوم الليبرالي فهو شان خاص ويجب ان يكون كدلك ولكن ادا اراد الدين ان يترك هده الدنيا وشانها لم تتمكن القوى الدنيوية من ترك الدين وشانه وفي يدي الان كتابا بعنوان الاديان العامة في العالم الحديث لمؤلفه خوسية كازانوفاانصح بقراءته 00 وشكرا لسيادة الرئيس 0

اقرأ ايضاً