العدد 308 - الخميس 10 يوليو 2003م الموافق 10 جمادى الأولى 1424هـ

الإعلام العربي بين المجتمع والدولة (1)

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

عندما تُذكر افريقيا والأفارقة، حتى عند المعتبرين من المثقفين، فإن الصورة التلقائية التي تقفز إلى الذهن فورا، هي صورة رجل أسود شبه عار، يحمل رمحا، ويرقص على دقات الطبول حول نار متأججة، تحيط بها أكواخ القش في إحدى الغابات. وعندما يُذكر في الغرب، فإن الصورة التلقائية التي تقفز إلى الذهن، هي صورة رجل ملتح، خمري اللون، يرتدي جلبابا أبيض، وكوفية وعقالا، ممتطيا ظهر جمل يسير على كثبان جرداء من الرمال، وتتناثر حوله آبار النفط وخيام الشعر. نحن نعلم، والكل يعلم، أن هذه الصورة الذهنية للافريقي والعربي غير صحيحة، إذ لا افريقيا المعاصرة مجرد غابات ورجال عراة، ولا عالم العرب مجرد جمل ونفط وصحراء. ولكن الصورة النمطية Stereotype غير الواعية في المخيال الجماعي هنا أو هناك، تفرض نفسها في النهاية، حتى على أشد الأذهان موضوعية وحيادا، حتى مع العلم أن الصورة الحقيقية غير ذلك. من خلق هذه الصورة النمطية الساكنة؟ بكل بساطة، إنه الإعلام إلى حد كبير، وإن لم يكن ذلك بشكل حصري، وخصوصا عندما لا تكون الرسالة الإعلامية رسالة مباشرة، كأن تكون فيلما سينمائيا، أو فيلما كرتونيا، إذ ان الرسالة في مثل هذه الحال تكون أقوى تأثيرا، وتنساب إلى أعماق الوعي المستقبل من دون شعر أو إدراك مباشر.

ونحن، أي شعوب العالم الثالث عموما، نلعن أميركا ليل نهار، ونشتم الغرب ليل نهار، ونحملهم مآسينا ومشكلاتنا ومعضلاتنا وإحباطاتنا كافة، ولكنك في الوقت ذاته لا تجد في العالم الثالث إلا من يود الهجرة إلى هذه الأميركا، حيث الفرصة وحيث الحلم وحيث المن والسلوى. قد لا تكون مثل هذه الصورة صحيحة، وقد ينتهي الأمر بالمهاجر غاسلا للحصون في مطعم ما، أو ضاخا للبنزين في محطة ما، ولكن تبقى أميركا في المخيال العالم ثالثي العام هي أرض الميعاد، إذ اللبن والعسل، وفرصة تحقيق أحلام العمر. من أين أتت هذه الصورة النمطية لأميركا؟ مرة أخرى، إنه الإعلام ووسائله ووسائطه، وتلك الرسالة غير المباشرة التي يتضمنها فيلم أو مسلسل أميركي، أو مجلة أو صحيفة أميركية.

القرية الكونية

في العام 1991، قام انقلاب شيوعي في موسكو، محاولا العودة إلى النظام الشيوعي التقليدي الذي قضت عليه إصلاحات ميخائيل غورباتشوف، وفشل الانقلاب في غضون أيام معدودة. ما العوامل الحاسمة التي ساعدت على إجهاض مثل ذلك الانقلاب؟ يتفق الكثير من المحللين على أن وسائل الإعلام المعاصرة كان لها دور حاسم في ذلك، إذ قامت هذه الوسائل بنقل حوادث موسكو لحظة بلحظة، وخلقت نوعا من التضامن العالمي مع حركة مقاومة الانقلاب بقيادة بوريس يلتسن، الذي بدوره استفاد من تلك التغطية في الحصول على زخم معنوي، وثقة بالنفس وملاءمة الظروف. وقبل ذلك في العام 1978، بدأت الاضطرابات وأعمال العنف في طهران، التي أدت في النهاية إلى انتصار الثورة الخمينية في إيران. كيف استطاع آية الله الخميني إثارة الجماهير الإيرانية بشكل لم يسبق له مثيل، وفي تلك الفترة بالذات، على رغم أن «الظروف الموضوعية» للثورة في إيران كانت ناضجة قبل ذلك الوقت بكثير؟ الجواب ببساطة هو أن «تقنية» جديدة دخلت على الخط كما يقولون، ألا وهي تقنية «شريط الكاسيت»، ودوره الحاسم والفعال في إيصال رسالة قائد الثورة إلى الثائرين، بصورة سريعة وسهلة ومؤثرة. وفي العام 2001، قامت مجموعة من المتطرفين بضرب برجي مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون في نيويورك وواشنطن، أعلنت بعد ذلك الولايات المتحدة الحرب على ما أسمته الإرهاب. وعلى رغم أن مفهوم الإرهاب مفهوم معقد، ويحتاج حقيقة إلى توضيح وتنظير، فإن الإرهاب أصبح في النهاية كلمة عادية دارجة، غالبا ما توصف به تلك المنظمات والأفراد المعادون لسياسة الولايات المتحدة بشكل عام. لقد تحول الإرهاب من مفهوم يحتاج إلى مزيد من التوضيح، إلى كلمة شبه متفق على معناها بين الجميع في هذا العالم، والفضل في ذلك يرجع إلى تلك القوة الإعلامية الهائلة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، ضمن متغيرات أخرى.

كل هذه الأمثلة، وغيرها كثير، إنما قُصد بها إيضاح القوة الهائلة لوسائل الاتصالات الحديثة في السيطرة على العقل والسلوك، والتحكم في مجريات الحوادث. وفي الوقت نفسه، الأثر السلبي المدمر، عند استخدام هذه الوسائل بشكل غير مدروس أو مسئول، وذلك مثل سلاح ذري حين يقع في يد مسئولة فيصبح ذي فائدة، والعكس حين يكون العكس». فالعالم من حولنا - كما يقول أكاديمي إعلامي - «خريطة إعلامية أكثر من كونها جغرافية أو تاريخية... بل ان الإعلام أصبح بطل الملحمة واللاعب الأساسي في صوغ الترتيبات العالمية على ضوء انعكاسات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.... وبالتالي فإن المتحكمين في الإعلام هندسة وتمويلا وصوغا هم الأكثر قدرة على صوغ خريطة العالم ورسمها في هذا الزمن وفقا لمرئياتهم وأغراضهم ومصالحهم الخاصة» (عبدالعزيز المقوشي، صحيفة «عكاظ» السعودية، العدد 29031، الاثنين، الأول من يوليو/ تموز 2002). بل وقبل حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وحتى قبل تسارع ظاهرة العولمة المعاصرة بوقت طويل، كان دور الإعلام رئيسيا في تشكيل العقل والسلوك البشري. وفي ذلك يقول عالم الاجتماع الأميركي س. رايت ميلز في واحد من أشهر كتبه: «إن جانبا يسيرا فقط مما نعرفه من حقائق اجتماعية عن العالم، توصلنا إليه بأنفسنا، وبطريق مباشر، بينما معظم التصورات والأخيلة التي في أدمغتنا عن العالم، وصلت إلينا عن طريق وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، إلى درجة أننا في غالب الأحيان لا نصدق ما يجري أمامنا حتى نقرأ عنه في الصحيفة، أو نسمع عنه في الراديو. فوسائل الإعلام لا تعطينا المعلومات فقط، ولكنها توجه خبراتنا المباشرة» (C. Wright. Mills. The Power Elite. London: Oxford University Press, 6591. P. 113). كتب ميلز هذه الكلمات العام 1956، أي قبل انفجار ثورة المعلومات والاتصالات المعاصرة بفترة طويلة، تلك الثورة التي غيرت من فكر وسلوك الإنسان في كل مكان بما يشبه التغير الجذري، إلى درجة انه يمكن إطلاق اسم الثورة البشرية الثالثة عليها، أو الموجة الثالثة وفق تعبير ألفن توفلر، وذلك بعد الثورتين الزراعية والصناعية. تبين لنا ملاحظة ميلز هذه، الأهمية القصوى التي تحتلها وسائل الإعلام في تشكيل عقل وسلوك الفرد والجماعة في عالم اليوم، وخصوصا في هذه الفترة من تاريخ البشرية، إذ يمكن القول إن الإنسان أصبح كائنا إعلاميا، بكل ما تحمله من معنى.

لقد أصبحت المعلومة حاجة أساسية من حاجات إنسان العصر، بحيث لا يستطيع أن يتحرك من دون وحي منها. بل ان المعلومة أصبحت هي الرأسمال الجديد في عصر العولمة، فكما يقول ألفن توفلر: «ثمة ثورة تجتاح عالم ما بعد بيكون الحالي. وما كان بوسع عبقري في السابق... أن يتخيل ما تشهده هذه الأيام من منحى عميق في تحول السلطة، أي هذه الدرجة المذهلة التي أصبحت بها القوة والثروة تعتمدان على المعرفة... إن المعرفة ليست المصدر الوحيد للسلطة فحسب، بل إنها أيضا أهم مقومات القوة والثروة... وهو يوضح لماذا أخذت المعركة الدائرة من أجل التحكم في المعرفة ووسائل الاتصال تشتد الآن وتحتدم في جميع أنحاء العالم» (ألفن توفلر. تحول السلطة بين العنف والثروة والمعرفة. مصراته، ليبيا: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1922. ص: 33-34). من هنا تنبع أهمية معرفة من يملك المعلومة، وكيفية إيصالها. فبمثل هذه المعرفة، نستطيع ليس أن نعرف مجرد السلوك المترتب عليها، ولكن كيفية توجيه من يكون محل الإرسال لهذه المعلومة، سواء كان مجتمعا محليا يراد توجيهه إلى هذه النقطة أو تلك، أو مجتمعا خارجيا يراد الوصول إليه والتواصل معه على أساس لغة مشتركة واحدة. والإعلام، بصفته المؤسسية، عبارة عن مزيج من المعلوماتية البحتة (المعرفة اليقينية) والاتصال، والدعاية والتوجيه. وكل هذه الأشياء تتم عبر وسيط معين هو وسائل الإعلام. إذا جمعنا هذه الأمور الأربعة في معادلة واحدة، نكون توصلنا إلى المفهوم المعاصر للإعلام إلى حد كبير.

ليس المراد هنا حقيقة مناقشة نظرية الاتصال وأبعادها المختلفة، أو نظرية الإعلام بصفة عامة، بما يتضمنه ذلك من كيفية نقل المعلومة أو الرسالة من المصدر إلى المتلقي عبر وسيط معين، والرموز المستخدمة في كل ذلك، بحيث يختلف أثر المعلومة ذاتها باختلاف المُرسل والوسيط والمحيط الاجتماعي المتلقي للرسالة. المراد هنا حقيقة هو مجرد توضيح الدور الجوهري للإعلام في تشكيل العقل والسلوك، وبالتالي في التشكيل الكلي أو الجزئي لمتلقي الرسالة الإعلامية، وفق الأهداف المحددة سلفا لمثل هذه الرسالة. هذا الدور المحوري للإعلام ووسائله، يبدو أكثر أهمية في المنطقة العربية بالذات، بل لنقل في العالم الثالث عموما، حيث التحولات الاجتماعية على أشدها، بما يتضمنه ذلك من اهتزاز في العلاقات الاجتماعية والسلوكيات والأفكار والقيم، وإعادة تشكلها وتشكيلها. قيم قديمة تختفي، أو هي في طور الاختفاء، وقيم جديدة تحاول أن تجد لها موقعا على الخريطة الاجتماعية والثقافية، وبين هذه وتلك، يقف الفرد والجماعة عاجزين عن تلمس الطريق، حين تتلاشى المعايير الاجتماعية «الثابتة»، أو ما كانت تعتبر ثابتة نتيجة هذا التداخل بين القديم والحديث، كما يتداخل الليل والنهار ساعة غسق أو ساعة سحر.

قد تكون مثل هذه المشكلة عامة بالنسبة إلى أي مجتمع، وكل مجتمع يمر في حال من التحول والتغير، ولكنها بالنسبة إلى المنطقة العربية بصفة عامة، أشد أثرا وأقوى تأثيرا. فالقديم وبنيته الاجتماعية والثقافية، يبقى بالنسبة إلى المنطقة العربية قدسا من الأقداس. بل إنه يشكل شرعية للثقافة السائدة، والسلطة المهيمنة، والعلاقات الاجتماعية المسيطرة، ما يجعل من عملية التحول والتغير في هذه المجتمعات أكثر توترا. ومن ناحية أخرى، فإن هنالك قيما جديدة احتلت موقعها على الخريطة الاجتماعية والثقافية والسياسية، في الوقت ذاته الذي يُنظر فيه إلى قيم قديمة بقداسة كبيرة، على رغم أنها لم تعد موجودة على خريطة الواقع الاجتماعي، ومن هنا تنشأ «خصوصية» الحال العربية، إن صح التعبير. والنتيجة المباشرة لمثل هذا الإشكال، ظهور نوع من القيم والسلوك هو عبارة عن محاولة «عملية» للجمع بين متناقضات ليس من الضروري أن يكون اجتماعها متماسكا. والمهم في هذه المسألة، هو أن وسائل الإعلام، أو لنقل المؤسسة الإعلامية في المنطقة، لم تقم بدور فعّال من أجل المساعدة في تلمس أبعاد الطريق الجديد، ما جعل الفرد والجماعة يفقدان التوجيه السليم، أي التوجيه القائم على معرفة متغيرات الوضع في الداخل والخارج، إذ اكتفت هذه المؤسسة بوظيفتها التقليدية التي تجاوزها العصر، وبذلك نعني الدعاية والتوجيه المباشر المعبر عن الحكومة والنظام من دون المجتمع، أو التبشير بقيم لم تعد موجودة ولكنها ترسخها في الذهن على رغم عدم وجودها، حين تؤدلج وتسيس القيم والعادات والتقاليد السائدة وفق مقولات الخصوصية والفرادة المبالغ فيها أكثر الأحيان، وهذا ما يؤدي إلى نتائج وخيمة في سلوكيات الفرد والجماعة، ليس العنف إلا أحد هذه النتائج في النهاية، ولكن هذه قصة أخرى. إلغاء الوصاية على الإعلام وإعادته إلى صاحبه الأصلي، ألا وهو المجتمع المدني، هو الحل الوحيد للخروج من هذه المعضلة، وذلك يقودنا إلى مناقشة تلك العلاقة الجدلية بين الحرية والقيد، سواء في مجال الإعلام أو غيره.

الحرية: في البحث عن عدالة

يرى الفيلسوف الهولندي سبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة» أن صحة المدن، أو لنقل الدول والمجتمعات، واستمرار هذه الصحة، إنما تكمن في حرية التفكير وممارستها ونشرها. ويرى الفيلسوف الألماني هيغل أن الروح أو العقل المطلق إنما يتجسد تاريخيا في الحرية، فحيثما حلت الحرية كانت الحضارة، والعكس صحيح. وحرية التعبير عن الذات -فردا كانت هذه الذات أو جماعة - واحدة من أهم حقوق الإنسان التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة في ميثاق حقوق الإنسان. وحرية التعبير عن الذات لا تستقيم من دون وسائل عامة للتعبير، وهذه الوسائل هي في النهاية البنى التحتية التي تقوم عليها العملية الإعلامية، بصفتها قناة من قنوات التعبير وإيصال المعلومة. فالإعلام ووسائله ليس مجرد أداة للتوجيه الرسمي والوصاية الايديولوجية، بقدر ما انه وسيلة اجتماعية وسياسية للتعبير من ناحية، وحلقة مهمة من حلقات الوصل بين الدولة والمجتمع، حين تقوم بنقل المعلومة الصحيحة من ناحية، والتعبير بأمانة عن حركة المجتمع من ناحية أخرى. وفي المجتمعات التي تفتقر إلى مؤسسات للتعبير عن المجتمع وحركته، أي مؤسسات المشاركة الشعبية في العملية السياسية، فإن إيصال المعلومة والتعبير عما يمور به المجتمع من تقلبات وتحولات، مسألة في غاية الأهمية من أجل استقرار النظام السياسي ذاته. فأي نظام سياسي مستقر هو ذاك الذي تكون مخرجاته معبرة عن مدخلاته. وحين تكون المدخلات غير صحيحة، فإن المخرجات لن تكون معبرة عن حاجة معينة، ومن هنا يأتي اختلال النظام. المعلومة الصحيحة، والتعبير عن الحركة الفعلية للمجتمع، هما ضمانة المدخلات الصحيحة، وذلك لا يتأتى إلا من خلال إعلام حر مقيد بأحادية في النظرة، أو كوابح أيديولوجية تحجب ما هو واقعي في سبيل ما هو أيديولوجي مفترض.

أما في المجتمعات الديمقراطية فإن حق التعبير عن الرأي، وحق الحصول على المعلومة، من الحقوق الأساسية للفرد والجماعة حتى يستطيع ممارسة دوره في اتخاذ القرار السياسي والمجتمعي، وإلا فإن العملية الديمقراطية ذاتها وممارستها لا تستقيم. الحصول على المعلومة وممارسة التعبير الحر عن الرأي، لا يمكن أن يتحققا من دون وجود وسيط وأداة كفيلين بتجسيد المبدأ إلى واقع ملموس وممارس، وهنا يأتي دور الإعلام كتجسيد لكل. فالإعلام في مجتمع ديمقراطي هو جزء مهم من العملية الديمقراطية ذاتها، وليس مجرد مؤسسة للتوجيه والوصاية الايديولوجية الأحادية على المجتمع، كما هي الحال في معظم دول العالم الثالث، أو لنقل تلك التي لا تعترف بالديمقراطية أسلوبا لاتخاذ القرار. فالصحافة مثلا هي التي أسقطت الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بعد فضيحة «واترغيت»، التي لا تعد فضيحة لو نظر إليها بأي معيار من المعايير العالمثالثية. والصورة المتلفزة هي التي جعلت حوادث العالم بين أيدي الجميع، ما يجعل الحدث أكثر تأثيرا سواء في فهمه أو التفاعل معه، وهذا ما يعطي قوة غير متصورة في الماضي لمالك المعلومة والمتصرف بها، ولكن هذا موضوع آخر. لذلك فإنه كي يكون الإعلام مؤثرا، من ناحية نقل المعلومة الصحيحة، أو التعبير عن مختلف الآراء، المعبرة بدورها عن حركة المجتمع ذاته، فلابد أن يكون حرا، وإلا فإنه والحال هذه لن يكون إعلاما بقدر ما يكون توجيها ووصاية. بإيجاز العبارة، فإن الإعلام إما أن يكون حرا، أو لا يمكن أن يكتسب صفة الإعلام بأية حال من الأحوال.

الإعلام والقيم

في بحث له عن تشكل القيم وتغيرها، يقول أحد الباحثين: «أثرت هذه القيم السالبة تأثيرا عميقا في قيم المجتمع المستقرة والأصيلة وأخذت لها مكانا مع القيم الإيجابية، وأدت إلى تشكيل شخصيات الأفراد في صورة تشير إلى اختلاف في العقلية والهدف، ما أوجد لدينا ثلاث فئات من الناس على الأقل. فئة تتبع ما جد من قيما باعتبارها قيما لها مكانتها. وهؤلاء عاشوا في وهم يغلفه ستار من عدم الوضوح لأصول هذه القيم... وفئة استمسكت بما لديها من قيم... وهؤلاء شعروا بالتناقض بين ما يتبعونه وبين ما يرونه في محيطهم، فاتجهوا إلى التكلس حول أنفسهم بغية الحفاظ على قيمهم، أو اتجهوا إلى محاربة القيم الدخيلة... وفئة ثالثة فصلت بين ما تراه من قيم وما تمارسه من أعمال، فضاعت قيمها عندما فقدت عنصر العمل، وصارت في غالبيتها اتجاهات تتبدل، وآراء تتقلب» (محمد أحمد إسماعيل علي، «الإعلام العربي والوعي التنموي»، مجلة الوحدة، العدد 54، مارس/ آذار 1989، ص، 101). حقيقة لا أجد وصفا لحال المجتمعات العربية المعاصرة مثل هذا الوصف. فالموقف من القيم هو في النهاية ما يحدد اتجاهات فئاته الاجتماعية، ومواقفها من بعضها بعضا، ومن العالم حولها. والسؤال المطروح هو: ما دور الإعلام في مثل هذه الحال من التحول الاجتماعي، وعدم الوضوح القيمي؟ وفق ملاحظة عامة، يمكن القول إن الإعلام العربي ووسائله محدود الدور في مثل هذه الحال، بل وربما كان دوره المحدود هذا سلبيا، وفق العوامل التي تحدد العملية الإعلامية العربية، إلى درجة يمكن القول معها إن حركة المجتمعات العربية في واد، وواقع الإعلام في واد آخر. ففي المنطقة العربية إجمالا، لا ينظر إلى الإعلام على أنه جزء من المجتمع وحركته، مؤثر فيه ومتأثر به في الوقت ذاته، بل على أنه مجرد جهاز «توظيف» ذي مهمة أحادية، ألا وهي التعبير عن وجهة النظر الرسمية، والقيام بمهمات الدعاية والتوجيه، وفي أحسن الأحوال، على انه مؤسسة من مؤسسات التنشئة الايديولوجية، ولا اقول الاجتماعية. وما عدا ذلك، وهو قليل على أية حالا، فهو مزيج من أي شيء وكل شيء، إلا أن يكون جزءا من حركة المجتمع وتحولاته.

وبالنظر إلى موقف الفئات الاجتماعية من القيم، عندما تكون المجتمعات في حال من التغير والتحول وغياب الرؤية الواضحة، كما هي حال مجتمعات العرب المعاصرة، فإن حال من اللاتوازن تكون هي النتيجة. حال اللاتوازن هذه، غالبا ما تفرز ثلاثة أنماط متناقضة من الشخصية الاجتماعية، ومن ثم العقل والسلوك. فهناك أولا التبني الكامل للقيم الحديثة، أو الوافدة، في طرفها الأقصى، وهناك تبن كامل لما يُعتقد أنه قيم مثالية (وفق تحديد الفرد أو الجماعة المعنية لها)، وهناك أخيرا حال التأرجح بين الحالين، وما تفرزه من عقل متشظ، وسلوك يتميز بالازدواجية، قد يقود في النهاية إلى نوع من العبثية الاجتماعية. ما ذكر سالفا هو نوع من «النمذجة»، إذ انه في واقع الحال، فإن مثل هذه الشخصيات، أو أنماط الفكر والسلوك الاجتماعي، لا تبقى في حال ثابتة، بل ان التحول من احداها إلى أخرى هو الملاحظ فعليا. فالنمط الأول، أي التطرف في اعتناق الحداثة، قد يؤدي في النهاية إلى الاحساس بعدم الانتماء إلى الهوية الاجتماعية السائدة، ومن ثم لن يكون من المفاجئ أن يتحول صاحب مثل هذا الموقف إلى الطرف الآخر، أي التطرف في تبني موقف «مثالي» معين في التعامل مع مسألة الهوية، كأن يصبح إسلامويا متحمسا، أو تقليديا منغلقا، أو نحو ذلك. والشيء نفسه قد يحدث للنمط الثاني والشخصية التي يفرزها، اي التطرف في المثالية المفترضة، التي قد تنتهي بصاحبها إلى الاحساس بنوع من العزلة عن مجرى الحياة كما هو كائن، فتدفع صاحبها إلى الطرف النقيض، أو العودة إلى حال اللاتوازن من جديد. أما النمط الثالث، أو الشخصية المتشظية أو المزدوجة، فإنها قد تنتقل في النهاية إلى أحد الطرفين، أو أنها تغرق نفسها في ممارسات اجتماعية غير مقبولة، أو أن تستمر في ممارسات سلوكية غير خاضعة لأي معيار قيمي معين، بل بحسب ما تقتضيه الحال، حتى لو كانت المواقف متناقضة من حال إلى حال.

قد يقول قائل: «وما دخل الإعلام والعملية الإعلامية في كل ذلك، فهو لم يخلق مثل هذه الظاهرة في النهاية»؟. وهذا اعتراض سليم فيما لو طرح، إذ ان الظاهرة راجعة في جذورها إلى متغيرات ثقافية واجتماعية في المقام الأول. ونحن حقيقة لا نتحدث عن دور الإعلام في خلق الظاهرة، بل عن دوره في علاجها أو الإسهام في علاجها، بصفته أداة من أدوات التغيير الاجتماعي، والتنوير الاجتماعي، وخلق لغة تفاهم مشتركة مع المجتمع والعالم. ولكن الملاحظ في المنطقة العربية هو أن الإعلام، وفق التحليل السابق، يفاقم في الواقع من استشراء مثل هذه الظواهر، نتيجة أدلجته واتجاهه الأحادي في التعبير عن المؤسسة الرسمية فقط، نتيجة غياب الحرية تحديدا، بدلا من أن يسهم في حلها، أو خلق أرضية مشتركة يمكن أن تكون أساسا للعلاج

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 308 - الخميس 10 يوليو 2003م الموافق 10 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً