العدد 3103 - السبت 05 مارس 2011م الموافق 30 ربيع الاول 1432هـ

عواصم القرار... ورشاوى ديكتاتور الجماهيرية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

خطوتان إلى الوراء خطوة إلى الأمام. هذه خلاصة السياسة الأميركية المترددة بشأن الكارثة التي قرر ديكتاتور الجماهيرية إنزالها بالشعب. حتى اللحظة تبدو إدارة باراك أوباما غير متشجعة في اتخاذ خطوة حاسمة تنقذ الناس من حملة الإبادة التي أعلن عنها الديكتاتور وابنه صراحة في الخطابات المتلفزة الأخيرة.

الخطابات القذافية وحدها كافية لإدانة سلطته تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. والكلام الذي ورد عن الفتك والجمر والتدمير والتهديد بالحرب الأهلية والتمزيق وقطع الامداد والتجويع يكفي قانونياً لاتخاذ اجراءات دولية تحد من جبروت طاغية قرر معاقبة الشعب لأنه تمرد على حكم استبدادي تواصل على امتداد 42 سنة.

كل هذا الكم من الاثباتات الدامغة والموثقة بالصوت والصورة لم يقنع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بوجود مجزرة ضد المدنيين. فالوزيرة اكتفت في تصريح لها أمس الأول بالقول إنها «تراقب الوضع عن كثب». لماذا؟ لأن «هناك تضارباً في المعلومات الواردة، ما يجعل من الصعب على الولايات المتحدة أن تعرف حقيقة ما يجري». كل ما قالته كلينتون إن واشنطن «قلقة جداً» وهي تبحث «عن سبل بناءة ومنتجة للمضي قدماً».

الوزيرة لم تشر «قدماً» إلى أين؟ هل للتفاهم مع الديكتاتور وتوفير فرصة له لتنفيذ تهديداته وإرهابه ومن ثم معاقبته بعد فوات الاوان على جرائم كان بالإمكان منع حصولها، أم بالتفاهم معه على تقاسم الغنيمة (النفط) والتهام الودائع الليبية التي تقدر بعشرات مليارات الدولارات وأبدى الديكتاتور استعداده للتخلي عنها إذا ترك ينتقم من الانتفاضة.

الغموض الأميركي وتذبذب المواقف لم يقتصر على كلينتون. الناطق باسم الخارجية فيليب كراولي أكد أن الولايات المتحدة ضد تشكيل لجنة دولية للتحقيق تاركاً المسألة لنزاهة الديكتاتور وحكمته. فالعقيد برأي كراولي يعرف «ما هو بحاجة لفعله لمصلحة بلاده وشعبه». الكلام الغامض (الرمادي) يطرح أسئلة استفهامية عن احتمال نجاح القذافي في عقد صفقة مع عواصم القرار تعطيه مهلة زمنية للقضاء على الانتفاضة مقابل رشوة بالمليارات تم ايداعها في صناديق شركات النفط ومؤسسات التصنيع الحربي والمصارف وأسواق المال. فالرشوة يمكن أن تقتطع من الحسابات المجمدة التي بلغ مجموعها أكثر من 130 مليار دولار.

احتمال الرشوة ليس مستبعداً وهو لا يقتصر على إدارة واشنطن وانما على بعض عواصم الغرب ومؤسسات ما يسمى منظمات الدفاع عن حقوق الانسان. فهذه الهيئات الدولية ليست بريئة وغير محايدة احياناً حين تقتضي المصلحة. منظمة «هيومن رايتس ووتش» تبدو حذرة في تقاريرها وهي أقرب إلى تبني وجهة نظر الديكتاتور في التخفيف من ارتكاب مجازر بحق المدنيين. كذلك رفضت قبول المعلومات التي ذكرتها الانتفاضة عن استقدام مرتزقة افارقة واستئجار شركات أمنية على غرار «بلاك ووتر» في العراق. وهي أيضاً توافق رأي الديكتاتور ومزاعمه عن وجود شبكات عائدة لتنظيم «القاعدة».

خرافة «القاعدة» أكد عليها منسق مكافحة الارهاب في وزارة الخارجية دانيال بنجامين حين أبدى قلقه «من مساعٍ يقوم بها التنظيم وجماعات ارهابية لاستغلال الفوضى الحاصلة في ليبيا حالياً». فالمنسق قلق من انتشار الفوضى لا من القتل، وخائف من «الانتشار الكبير للسلاح في ايدي الناس في ليبيا» لا من استخدام الطيران الحربي لقصف المستودعات والمخازن والقرى والبلدات واحياء المدن.

هناك ما يشبه الفضيحة في تصريحات وتعليقات المسئولين في عواصم القرار بشأن جرائم الديكتاتور ومحاولات التغطية عليها أو التخفيف منها واحياناً نفيها أو اتهام الثوار بالمبالغة أو بارتكاب افعال غير انسانية بحق المعتقلين من الميليشيات والمرتزقة. حتى وزير الدفاع روبرت غيتس أعطى ذرائع واهية بشأن عدم قدرة الولايات المتحدة على فرض «حظر جوي» على ليبيا لمنع تحليق الطيران الذي ينقل المرتزقة أو يقصف الناس. فهذا الوزير تذرع بموانع فنية وعقبات تقنية واجراءات بروتوكولية وفترة من الوقت حتى يستطيع اتخاذ قرار المنع.

كل هذه الخطوات الى الوراء تفضح خطوة باراك اوباما التي اتخذها نحو الامام ونصح فيها بتهذيب دبلوماسي الديكتاتور الطاغية حين قال «حان الوقت للقذافي كي يترك السلطة». الخطوة المذكورة هي الاشارة الوحيدة التي صدرت عن البيت الأبيض بهذا الاتجاه مقابل قصف معاكس من التصريحات والتلميحات المضادة. حتى التعميم الذي صدر عن الشرطة الدولية (الانتربول) بحق القذافي واسرته وأعوانه كان في غاية اللطف، لكونه اكتفى بالتنبيه (اللون البرتقالي) ولم يتقدم خطوة إلى الأمام باتجاه دعوة الطاغية للاستماع أو الاستدعاء أو الاعتقال والمحاكمة.

كل هذا الغموض في الدبلوماسية الأميركية (اللغة الرمادية) يطرح فعلاً أسئلة بشأن ماذا يجري وراء الكواليس وهل هناك صفقة دسمة ابرمت خلف الستار اخذ كل فريق نصيبه من الودائع المجمدة اضافة إلى شراكة عالية النسبة في تقاسم غنيمة النفط ومشروعات اعادة الاعمار.

الشك قنطرة اليقين، لأن الكلام الصادر عن عواصم القرار ومنظمة «هيومن رايتس» وشركات النفط وبعض هيئات الإعلام يبعث على القلق ويكشف عن احتمال وجود فضيحة اخلاقية كبرى بشأن كل ما يذكر من شعارات براقة تتعلق بالإصلاح والتغيير. والفضيحة التي بدأت سياسياً بتبني اكاذيب الديكتاتور الطاغية عن «القاعدة» وانتشار الأسلحة بين الليبيين، وترك الفضاء مفتوحاً للقصف، والتغطية على الجرائم المرتبكة ضد المدنيين، وإلصاق الاتهامات بالقتل والتعذيب برجال الثورة وأهل الانتفاضة، يمكن ان تنتهي بانفضاح أسرار لا تقل عن شراء ابن القذافي شهادة دكتوراه بمبلغ مليون ونصف مليون جنيه من أهم جامعات بريطانيا. ومن ينجح في رشوة رئيس جامعة لندن لتزوير شهادة علمية لا يتأخر في توزيع ثروات الشعب الليبي المسروقة والمنهوبة مقابل شراء كرسي الرئاسة لفترة إضافية.

الديكتاتور نفسه أعلن في مؤتمر صحافي غاضب الأسبوع الماضي أنه دفع ثمن استمراره في الحكم وأنه موجود في موقعة بناء على صفقة أو تسوية. لم يوضح الطاغيه كيف ولماذا، لكنه لمح إلى هذا الأمر من دون خجل أو مواربة. فهل ما قاله صحيح؟ إذا كانت المسألة كذلك يمكن فهم الكلام المتذبذب والمتواضع والمتردد الذي تفوهت به وزيرة الخارجية أو منسق الارهاب أو وزير الدفاع من أخبار مشوشة وغير مؤكدة بشأن صعوبة الحصول على معلومات توضح «حقيقة ما يجري».

التأخر في اتخاذ خطوة حاسمة إلى الأمام بدأ فعلاً يثير علامات الاستفهام ويطرح أسئلة عن تلك المناورات الخفية التي يحتمل أن تتخذها عواصم القرار بعيداً عن الكاميرا... تاركة الديكتاتور يفعل ما يشاء بذرائع واهية تُعلَّق على شماعة رفض الصين أو روسيا التجاوب مع الغرب لاتخاذ قرار دولي ضد طاغية الجماهيرية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3103 - السبت 05 مارس 2011م الموافق 30 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 0 | 2:23 م

      شكرًا

      شكرًا على المقال و ياريت يا استاذ تكتب عن مؤسسات حقوق الانسان اللي تدور عن مصالحها و لا تسال عن الفلسطينين و العراقيين و شكرًا استاذ مقالاتك دائماً مفيدة و لك نظرة معرفية ممتازة شكرًا استاذ 

اقرأ ايضاً