العدد 3130 - الجمعة 01 أبريل 2011م الموافق 27 ربيع الثاني 1432هـ

حَرِّروا المنابِر

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

تدخل المسجد يوم الجمعة فترى الناس مطأطئي رؤوسهم، فمنهم من أسنَدَ رأسه للجدار، ومنهم من أبحرَ في عالم الأفكار، ليس من شدة الخشية ولكن من شدة الإرهاق الذي باغتهم بعد انقضاء الدقائق الخمس الأولى من بدء الخطبة. فمعظم ما يقوله الخطيب يعرفه الحاضرون لأنه يستخدم نفس الآيات الكريمات، ويكرر على مسامعهم نفس الأحاديث الشريفة، ويسوق نفس الأمثلة والقصص التي ألِف الناس سماعها مذ كانوا أطفالاً في المدارس. وهذا لا يقلل من شأن أي آية أو حديث حتى لو تكررا، فالذكرى تنفع المؤمنين، إلا أن مصادر الشريعة المطهرة بها آلاف الآيات والأحاديث والقصص الأخرى التي لا أدري لماذا يحجم معظم خطباء المساجد عن ذكرها، حيث لا تتجاوز قصصهم، في بعدها الزمني، عصر الخلفاء الراشدين.

إن خطبة الجمعة هي وسيلة إعلامية وإصلاحية، تروّج للممارسات الحسنة وتعزز مبادئ الأخلاق والفضيلة لدى أفراد المجتمع، والمفترض بها أن تتفاعل مع القضايا الحيوية في حياة المسلمين، وتساعدهم على تجاوز تحديات الحياة وإرهاصاتها. وحياة الإنسان ليست عبادات وإيمانيات فقط، فهناك المشكلات الأخرى التي تؤرقه بالليل والنهار، وهناك التحديات التي يحتاج إلى من يساعده على تجاوزها. فالإنسان يحتاج إلى من يتحدث معه أكثر ممن يتحدث إليه، ويحتاج إلى الاستشارة أكثر من التوجيه، لأن الاستشارة أكثر صدقاً ولا تحمل صيغة الأمر.

قلّما تجد اليوم خطيباً يربط الآيات والأحاديث بالواقع اليومي للناس، فحديث الخطباء عن الغزوات أكثر من حديثهم عن الإنجازات، وتجدهم مغرمين بسرد قصص المعارك بين المسلمين والكفار، ولا ينفكّون يصوّرون بطولات الفرسان وكراماتهم خلال المعارك، كالمشي على الماء وغيرها، ويندر أن تجد من يتحدث عن الحضارة الإسلامية عندما ازدهرت في دمشق وبغداد وبلاد فارس ومصر والأندلس وغيرها، وكيف استطاع المسلمون أن ينتجوا في فترة وجيزة ذلك الكم المعرفي والعلمي الذي نقرأ عنه في كتب التاريخ، وكيف تمكنوا من بناء دول عظيمة ومجتمعات راقية على رغم التحديات الأمنية والجغرافية والسياسية التي كانت تواجههم، وكيف يمكن أن يُستفاد من تجارب تلك المراحل النيرة من التاريخ الإسلامي في حياتنا اليوم. ابحث عن خطيب يتحدث عن مخترعات المسلمين أيام الدولة العباسية الأولى، أو خطيب يتكلم عن التسامح الإنساني في الدولة الأندلسية، ولن تجده إلا إن كنتَ محظوظاً.

ويبدو أن بعض الخطباء الأفاضل لم يطّلعوا على الفلسفة الإسلامية التي تركت أثراً عظيماً في مسار الفكر الإنساني، والتي ارتكز عليها كثير من فلاسفة الغرب ومصلحيهم في مسارهم نحو تحقيق ما عرف لاحقاً بـ «النهضة الأوروبية»، فلقد استفادوا من ترجمة معاني القرآن في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية والإسبانية والألمانية وغيرها من لغات أوروبا، واستخدموا تلك المعاني التي تُكرّم الإنسان وتُعلي من قدر كيانه البشري في حربهم ضد تعسّف الكنيسة التي كانت تحول بين الإنسان وبين ربه، حيث كانت تُهمّش العقل وتُكفّر كل من يُفكّر. أما بعض خطبائنا اليوم فإنهم لا يعرفون كيف يوظفون معاني القرآن للارتقاء بالإنسان والمجتمع، وهو الذي نزل بلغتهم ودرسوه لسنوات طويلة، حيث يصرّون على تكرار الكلام حول الترغيب والترهيب، متجاهلين الجوانب التنموية التي وردت في مختلف مصادر التشريع وفي التاريخ الإسلامي.

إن خطباءنا يغفلون، دون شكّ، تاريخاً عظيماً أتى بعد زمن الخلافة الراشدة، بدءاً بدمشق وانتهاءً بالآستانة، حيث أنتج المسلمون خلاله فكراً إنسانياً ظلّ يُدرَّس لمئات السنين في الجامعات الغربية، ككتاب القانون في الطب لابن سينا، وشروحات ابن رشد لمنطق أرسطو، وأعمال البيروني الفلكية، واكتشافات الخوارزمي الرياضية، وغيرها من إنتاجات فكرية وأدبية وعلمية، إلى جانب إبداعاتهم الفنية والمعمارية والصناعية. والمتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أنه عندما نهضت الأمة الإسلامية معرفياً، كانت العقول قد تفتحت على رؤى مستقبلية ذات أبعاد مجددة، ولم يكن الإنتاج الفكري المعرفي والفلسفي الإسلامي قائماً على التراث لكونه قديماً، ولكن لكونه أصيلاً. أي أنه لم يستمد من الماضي إلا ما يخدم الحاضر والمستقبل، فليس كل قديم أصيلاً، والتراث الأصيل هو الذي يصلح أن يستخدم في مختلف العصور لأنه غير مرتبط بظروف معيّنة، فهناك من القديم ما لا يصلح إلا لمرحلة ما، ومن الجور على التاريخ وعلى الإنسان أن يتم إقحام بعض أحكام الماضي وقوانينه وفرضها على الحاضر لا لشيء إلا لأنه ينحدر من (التراث)، وتلك هي إحدى مشكلات منابر الجمعة اليوم، التي يرفض خطباؤها الخروج عن المألوف وتقديم شيء واقعي وقريب من فهم الناس.

ما المشكلة لو ترك خطباء المنابر الكلام حول أحكام الطهارة قليلاً وتحدثوا عن التغييرات التي يشهدها العالم العربي والإسلامي اليوم من منظور فكري وتأصيلي، وليس من منظور تحليلي فقط. وما الضير لو أجّلوا الحديث عن برّ الوالدين وتحدثوا عن التحديات المصيرية التي تواجه الأمة، كمشكلات الفقر والأمية والفساد وغيرها من قضايا تؤثر في حياة الإنسان أكثر مما تؤثر به أحكام الطلاق. وقبل أن نعلّم الناس آداب المائدة يجب علينا أن نوفّر لهم الطعام أولاً.

أتساءل: لماذا يجب أن يكون الخطيب فقيهاً أو إمام مسجد ولا يكون مُفكراً أو عالماً أو خبيراً اقتصادياً؟

ولماذا يجب أن يكون موضوع الخطبة دينياً بحتاً ولا يكون موضوعاً فكرياً أو إنسانياً؟

ولماذا لا يكون منبر الجمعة مكاناً لإطلاق مبادرات مجتمعية لدعم المعاقين أو لنشر ثقافة التطوع في المجتمع على سبيل المثال؟

عندما تنتهي صلاة الجمعة ويجتمع المصلون خارج المسجد، تسمعهم يتناقشون حول القضايا التي تهمهم، ولا يكاد أحدهم يذكر شيئاً مما قاله الخطيب، فقضاياهم كبرى وقضاياه فرعية.

وفي عصر الانفتاح المعلوماتي صار على الخطيب أن يكون أكثر تجدداً واطلاعاً وجرأة لكي يستحق المكان الرفيع الذي يرتقيه كل أسبوع.

حَرِّروا المنابِرَ ممن يُعلون مِن قَدْر الإنسان ميتاً ويهملونه حيّاً

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3130 - الجمعة 01 أبريل 2011م الموافق 27 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 9:54 ص

      ربما!!

      ربما لانهم تناولوا علماً جافاً
      عبارة عن احكام وااداب او قصص معينة..
      فيتم سردها دون تطبيقها على الواقع..او ربطها به..
      ولكن ليس الجميع...فمنهم الفقهاااء يعرفون الكيفية ولكن فعلا اغلبهم يتجه لسرد ماهو مكتووب لديه في الورقة او حتى ماحفظه في رأسه..

    • زائر 4 | 3:07 ص

      حضارات

      أي و الله كلامك صحيح و يا ليت بس الخطباء يذكرون المصلين بإنجازات الدولة الصفوية و البويهية و القرامطة و الزنج و الحشاشين ثم يقارنها بإنجازات الحضارة الإسلامية في الأندلس و بغداد و دمشق و الفسطاط و القاهرة و القيروان يكونوا فعلوا خيراً ليرى المصلين المؤمنين كيف كانت حضارات المسلمين و إنفتاحهم على العالم و قبول الآخر.

    • زائر 2 | 2:12 ص

      شكرا لك يا أخي ياسر العزيز

      أحسنت القول، لماذا الفصل بين الدين و هموم المواطن و العيش، لأنه غير مسموح له و بعضهم موظفين. لا تلومهم فقط، هم نعم ملومين لعدم تجديدهم لثقافتهم و لكن الجو العام لا يسمح. أسأل الله أن يهدي علمائنا لتثقيف هذه الأمة و إنتشالها من تأخرها الثقافي و الحضاري.
      شكرا لك مرة أخرى على هذا الإبداع.

اقرأ ايضاً