العدد 3135 - الخميس 07 أبريل 2011م الموافق 04 جمادى الأولى 1432هـ

أدب الخلاف ومهارات الاختلاف

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

التعددية بكل أشكالها مظهر حضاري يدل على تقدم المجتمعات ورقي سلوكها. ففي التعددية اعتراف ضمني بالآخر وتجسيد للرغبة في التعايش الإيجابي معه. وتعلمنا دروس التاريخ، بأن أحد معايير قياس تقدم مجتمع ما ورقيه، إنما يكمن في قدرة فئاته المختلفة على التمسك بقيم العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة التآلفية بين تلك الفئات، مهما تعقدت أنماط الاختلافات بينها. ولعله من الطبيعي، والمقبول، أيضاً أن تبقى تلك الخلافات، كامنة، فيما يشبه البيات الشتوي، إلى أن يطرأ عليها ما يستفزها، ويستثير غرائزها، فتتراجع حينها عناصر الوئام ومنشطات التعايش المشترك، كي تنتعش مكانها، سلوكيات نشوب الخلاف وبروز الاختلاف، التي عادة ما تتحول إلى شكل انفجارات عنيفة تهدد أمن المجتمع، وتهشم مقومات استقراره. لهذه الأسباب، وربما أخرى غيرها، تعمل تلك المجتمعات الراقية، أيضاً، على زرع أخلاقيات التفاهم، وتوفير كل مقومات الدعم لها، تحاشياً لأي شكل من أشكال الانفجارات التي من شأنها إيقاظ عوامل الفرقة، التي تقود، بطبيعة الحال، إلى تشطير الوحدة الاجتماعية، وتشظية عوامل اللحمة بين الفئات المختلفة في المجتمع الواحد، بل وربما حتى في نطاق الأسرة الواحدة، عندما ينتمي كل فرد فيها إلى فئة من الفئات مختلفة في المجتمع ذاته. تختلف أسباب مثل هذا التباين الاجتماعي، إذ نجد فيها الطائفي حيناً، والعرقي أحياناً أخرى.

نسوق هذه المقدمة المقتضبة كي نلفت النظر إلى ظاهرة خطيرة مدمرة باتت تسود سلوك بعض فئات المجتمع البحريني في الآونة الأخيرة. فقد أصبحت تصم آذاننا دعوات تحاول حث المواطن على تحديد موقفه من الآخر بناء على انتمائه الطائفي، لا سلوكه الأخلاقي. باتت آذان البعض لا تستهجن، بل ربما تستسيغ، سماع عبارات تحثنا على تحديد موقف سلبي من الآخر، ليس من أجل أي سبب سوى انتمائه للطائفة الأخرى. أصبح البعض منا مضطراً للرضوخ إلى «أوامر» تصنف المحلات التجارية وفقاً لانتماء ملاكها الطائفي، فتدعو طائفة بكامل أفرادها إلى تجنب شراء أي شيء من متجر تعود ملكيته لأحد أفراد الطائفة الأخرى. رويدا رويدا، وبدون أن نحس بذلك، ستتحول البحرين إلى ما يشبه الأرخبيل المتناقض اجتماعياً والذي تفرق بين طوائفه المختلفة حواجز اجتماعية، تتفوق في قدرتها على العزل والتمييز، تلك التي تحدثها الموانع الطبيعية من مياه أو جبال. بلغت الضعة بهذه الأصوات إلى درجة الإفصاح عن استعدادها لتبضع احتياجاتها حتى من، لا قدر الله، حوانيت «يهودية»، كما تردد هي، تحاشياً لشرائها من مخازن يملكها أفراد من الطائفة الأخرى.

يزداد انتشار هذه الدعوات، ويتنامى تفشيها، كي تصل إلى مؤسسات أخرى، مثل المدارس والجامعات، فبتنا نجد في طائفة ما من يفكر جدياً في عدم إرسال أبنائه إلى مدارس تؤمها غالبية طلابية من الطائفة الأخرى، تحاشياً، كما يرى البعض من هذه الطائفة، لاحتكاك اجتماعي غير متوقع، يقود إلى انفجار يصعب تقدير عواقبه، أو حيز تأثيراته السلبية.

مما لاشك فيه، أن الخطوة الأولى على طريق علاج هذه الظاهرة المرضية، هو الاعتراف بها كحقيقة، ليس هناك ما يدعو، أو حتى يبرر التعامي عنها أو التنصل منها، تحت تفسيرات عاطفية تتغنى بالماضي، خشية من مواجهة الحاضر. لابد لمن يريد طرق الموضوع من القبول، دون أية مكابرة، أن هناك تعددية طائفية، تعود جذور خلافاتها إلى عشرات، إن لم يكن مئات، السنين. وبالتالي فينبغي الكف عن ترديد أن ظاهرة الصراعات الطائفية إنما هي وليدة اليوم، أو الابنة الشرعية لحوادث «دوار اللؤلؤة». لا شك أن الدوار كان هو الذي فقأ دملة «الطائفية»، وساعد على الكشف عنها، بالحيز الذي بتنا نراه، والحجم الذي باتت تتمتع به، ولعب دوراً مهماً، بدون وعي أو قصد، في تعزيزها وتغذية عواملها. لكن الدوار لم يكن لينجح في ذلك لو لم تتوافر التربة الخصبة التي كانت مهيأة، بشكل مسبق، لتقبل البذرة، وتوفير عوامل حمايتها، ومن ثم، نموها.

بعد تشخيص المرض، ومعرفة الأسباب، وتحديد العناصر أو القوى التي ولدت ذلك المرض، لابد من الإسراع في تحضير الوصفة الطبية التي بوسعها، دون غيرها، اجتثاث المرض من جذوره، بدلاً من معالجة أعراضه، أو الاكتفاء بالحد من انتشاره. ويتطلب الوصول إلى هذه المرحلة الراقية من حل مشكلات الأمراض الطائفية التمتع بدرجة عالية من آداب الخلاف والاختلاف التي تعيننا على حل المشكلات التي تواجه مجتمعنا بصورة حضارية، بعيدة عن العنف، ورافضة بشكل قطعي نفي الآخر أو إنكار حقوقه.

بوسع التقيد بأدب الخلاف والسلوك السوي للاختلاف، أن يحول السلبية التي يزرعها التنابذ الطائفي، إلى عناصر إيجابية تحث على التعايش الطائفي الإيجابي الذي يحمي التعددية، ويدافع عنها، ويحافظ عليها، من خلال ضمان كل مقومات التنوع الاجتماعي، الذي وحده أكثر من غيره يوفر للمجتمع مقومات التفاعل الحضاري البناء، القائم على فهم الآخر دون الحاجة لنفيه.

ربما تحقق دعوات المقاطعة ربحاً ضئيلاً مؤقتاً لفئة معينة، ولفترة محدودة، لكن ما هو ثابت وغير قابل للجدال أنها لا يمكن أن تبني مجتمعاً متحضراً، راقياً، قادراً على احتضان تلك التعددية، ويملك مقومات توفير لكل فئة منها كل الضمانات التي تبيح لها ممارسة طقوسها الخاصة بها، دونما أي استفزاز للآخرين، أو تحدٍّ لطقوسهم الخاصة بهم. وكل ذلك لا يمكن تحقيقه دون امتلاك مهارات أدب الخلاف، ومقومات فنون الاختلاف

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 3135 - الخميس 07 أبريل 2011م الموافق 04 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً