العدد 3149 - الخميس 21 أبريل 2011م الموافق 18 جمادى الأولى 1432هـ

هل الدين مؤسَّسة اجتماعية؟

زهير الخويلدي comments [at] alwasatnews.com

.

«إن الأفكار العظمى للألوهية تأتينا عن طريق العقل وحده. انظروا إلى مشهد الطبيعة، واسمعوا الصوت الداخلي. ألم يقل الإله كل شيء لأعيننا وضميرنا وحكمنا؟ ماذا عسى الناس يقولون لنا أكثر من ذلك؟».

يمكن أن نتصور مجتمعاً ما يخلو من العلوم أو التقنيات أو الفلسفات ولكن لا يمكن افتراضه فاقداً للعنصر الديني وبالتالي الدين هو عنصر ضروري من العناصر المكونة لحياة الشعوب، إذ حيث هناك جماعة بشرية تعيش على وجه الأرض هناك أنماط من الحياة والعبادة والمعرفة والتربية والأخلاق اسمها ديانة. بيد أن الغرابة تكمن في أن الدين يتضمن على الثابت والمتغير يقبل الزيادة والنقصان ويتراوح بين السلطة والحرية ويحمي المؤن من الوقوع في الأخطاء ويمثل دعامة الأخلاق ولكنه يمكن أن يرتبط بالعصبية ويبرر الأنظمة السياسية الفاسدة وينتج الأخطاء.

غير أن الإشكاليات التي تطرح هاهنا هي:هل يقبل الدين التعدد أم هناك دين واحد؟ وهل يمكن أن نرحب بمن يساعد على تطور الدين؟ وهل الديانات تتكون من أركان واضحة وفرائض بديهية أم من أسرار خفية وطلاسم وغيبيات؟ وهل الدين مصدر السلوى ويجلب السعادة ويلهب الحماس ويقوي العاطفة أم أنه عدو للفرح وسبب للتعاسة والشقاء والوقوع في بحر من الدموع والأوهام؟ وهل العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم هي علاقة اختلاف وعداوة أم علاقة صداقة واتفاق في الجوهر؟ وإلى أي مدى يمكن اختزال تاريخ البشرية في تاريخ الأديان؟ كيف تخاطب الأديان القلب دون العقل؟ وهل يمكن تصور أديان خالية من الخرافة والأساطير؟ وكيف يجل الدين الانسان ويرفعه فوق مرتبة الحيوان؟ وهل توحد الأديان الناس وتوفق بين المتناقضات أم يفرق بين الشعوب ويسبب التنازع والخصومات؟

ذكر الرواقي شيشرون أن الدين هو الاهتمام بطبيعة أعلى من الانسان تسمى طبيعة إلهية وتقديم عبادة لها. وكان يقصد أن الصلة بين الناس والله تتضمن ثلاثة أبعاد:

- مجموعة معتقدات وفرضيات تتعلق بالذات الالهية والمصير بعد الموت.

- مجموعة من الشعائر والطقوس التي تستجيب إلى قواعد ممارسة فردية وجماعية.

- تجميع الناس وحشدهم في كتلة واحدة قصد تقاسم هذه المعتقدات.

ما نخلص إليه هو أن الدين هو مجموعة مذاهب وممارسات تكون علاقة الانسان بالقدرة الالهية، وما نلاحظه هو أن العلاقة بين الناس والله عمودية بينما العلاقة بينهم يجب أن تكون أفقية ومتساوية.

وكما قال كانط:»الدين هو معرفة جميع واجباتنا بوصفها أوامر إلهية»، ويدعم شلايرماخر ذلك بتأكيده:»أن الدين يتمثل في شعورنا المطلق بالتبعية». لكن كيف يشكل الدين مؤسسة اجتماعية؟ وهل يجوز لنا القول دون تناقض أن الدين يصنع المجتمعات من جهة ويساهم في صنعه الإنسان المجتهد من جهة أخرى؟

يعتقد بعض علماء الاجتماع والفلاسفة أن الدين يحصل بطريقة اتفاقية تعاقدية وأنه يمثل سلطة معنوية على المجتمع ولا يمكن تغييره عن طريق الأفراد وتحكمه نواميس وأحكام مثل القوانين التي تتحكم في الظواهر الاجتماعية والقيم والمبادئ الأخلاقية الأخرى.

اذا سلمنا أن الدين كمؤسسة اجتماعية تنشئها المجموعة فإن القيمة الاجتماعية للمعتقد الايماني تبرز من خلال ما يلي:

- قيام المجتمعات بمشاعر التكاتف والتعاضد وهي مشاعر تأسيسية لا تظهر إلا في الدين مثل قيمة الإيثار والتضحية من أجل الآخرين.

- يرتبط الدين بالضمير الجمعي والذاكرة الجماعية وهي راجعة بالنظر إلى المشاعر المشتركة والروابط الروحية وتؤسس ميثاقا أخلاقيا يجعل كل عنصر من المجتمع يحس بالمصير المشترك والانتماء إلى هوية ثقافية معينة تستمد قوامها من النص الديني المحوري مثل القرآن بالنسبة للعرب والمسلمين.

يترتب عن هذا الارتباط بين الدين والمجتمع إلغاء المسافة بين المقدس والدنيوي والتشديد على الصلة الحميمية بين الإنسان الإجتماعي والظاهرة الدينية بحيث – مثلما يقول دوركايم:»ليس ممكنا أن يوجد مجتمع لا يشعر بالحاجة إلى مشاعر جماعية وتصورات جماعية تصنع وحدته». وفي السياق نفسه يؤكد رونيه جيرار أن «الدين هو أساس الاجتماعي وأن القاعدة الاجتماعية دينية أو لا تكون».

يتجلى الأساس الاجتماعي للدين في الأعياد والاحتفالات وإذا كان دوركايم لا يميز بين الاحتفالات الوطنية والاحتفالات الدينية باعتبارها تعبر كلها عن الشعور المشترك والجماعي فإن جيرار يرى أن الطقوس الدينية تخرج الأفراد من عالم الضيق الأناني وتلقي بهم في عالم الكل الاجتماعي وتؤدي وظيفة علائقية تأسيسية تنظم الروابط بين الأفراد وتقننها وفق منظومة من الرموز والشعائر.

لكن إذا كان الدين آلية تأسيسية للمجتمع ويوطد البعد الحضاري فإلي أي مدى يمكن اعتباره نسبياً ومتغيراً؟

صحيح أن دوركايم يدعو إلى التطور والتقدم في المجال الديني بقوله:»لا وجود لأناجيل أبدية وليس ثمة داع يجعلنا نعتقد أن الانسانية أضحت عاجزة عن إنتاج أناجيل جديدة»، إلا أن الأديان تتضمن دوائر أزلية وثابتة لا تخضع لجدلية الهدم والبناء ولا يمكن اعتبارها تاريخية وذلك لكونها منزلة وتعبر عن المطلق والعنصر الأزلي والحقيقة الأبدية ونذكر هنا النصوص المقدسة التي تظل عرضة للتأويل والقراءة ومع ذلك ما انفكت تنتج المعاني والدلالات وتنضاف تأويلات جديدة الى تأويلات قديمة وتحافظ هذه النصوص على طاقتها السيميائية وفائض المعنى الذي تحتوي عليه وتبقى غريبة وعصية عن الفهم وتتضمن الكثير من الألفاظ المتشابهة والاعجازات البيانية. كما يتعدى الدين الظاهرة الاجتماعية نحو العناية بالذات وتقديم حلول للنفس الممزقة ويصون الشخصية الأخلاقية من كل نزع للكرامة ويضفي على الحياة الاقتصادية نوعاً من التحفيز والضوابط الديناميكية ويضفي على النشاط السياسي للأفراد وللهيئات القضائية نوعاً من الرقابة الأخلاقية والردع المعنوي.

لكن ألا يمكن إقامة هرمينوطيقا إسلامية تركز على البعد الاجتماعي والاقتصادي؟

إن بعث هرمينوطيقا إسلامية نقدية يتوقف على استئناف باب الاجتهاد في الأصول والفروع على حد سواء والاحتكام إلى العقل وتنشيط المخزون الدلالي الذي تتكون منه لغة الضاد وإخضاعها إلى البحث الفيلولوجي والتاريخي والأسني قصد تطهيرها من الاستعمالات الشائعة وتحويلها الى لغة الفكر والعلم وجعلها لغة الحياة اليومية وأحد أهم الوسائط في العملية التواصلية وملهمة لروح الخلق والابداع. وذلك لأن «أي تأويل وأي تجديد للمعنى داخل الثقافة العربية الإسلامية لا يتم إلا عبر إعادة خلخلة اللغة واستعادة زمن انشائيتها أي محاولة إخراجها ونشرها وبعثها». وإن كانت اللغة هي ما ابتدئ به الخلق فإن التأويل هو ما يبتدئ به البعث والمعاد، فالتأويل عودة إلى خلقية اللغة وبعثية معانيها، وفي هذه اللحظة عينها يتحدد جدل زمني بين الفهم المؤسس تاريخيا واللغة القرآنية المؤسسة بعثيا».

فهل تقبل الهرمينوطيقا الاسلامية مراجعات علوم الإنسان للظاهرة الدينية وخاصة فرضية اللاشعور والعلاقة المستريبة بين المعرفة والسلطة وبين الحقيقة والمصلحة؟ وإلى أي مدى تبقي هذه الهرمينوطيقا على فكرة المقدس بوصفها المصدر الذي ينتظر منه المؤمن كل ضروب العون وكل أشكال التوفيق؟

إقرأ أيضا لـ "زهير الخويلدي"

العدد 3149 - الخميس 21 أبريل 2011م الموافق 18 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً