العدد 3340 - السبت 29 أكتوبر 2011م الموافق 02 ذي الحجة 1432هـ

إصرار على بوتقة الحب والذات (1 - 2)

رواية «القندس» لعلوان...

عبدالعزيز الموسوي comments [at] alwasatnews.com

.

«القندس» هو عنوان الرواية الصادرة حديثاً للروائي السعودي، محمد علوان، عن دار الساقي في طبعتها الأولى 2011، جاب خلالها «القندس» 320 صفحة من الحجم المتوسط، متوغلاً في 40 فصلاً يسرد فيها بحذر بالغ تفاصيل ذاتية،عائلية ومجتمعية دقيقة، تماماً مثلما يجمع الأخشاب ليبني سدّه العائم في النهر.


غواية العنوان

لا يمكنك وأنت تقف عند عتبة عنوان رواية « القندس» ولا تستحضرك الأسئلة، ويجول في ذهنك كل ما يمت لهذا العنوان بصلة. بالنسبة إلى مخزوني المحدود كانت عبارة قرأتها في رواية «السجينة»* أتذكر هذه المقولة خصوصاً؛ لأنها تذكّرني بقدرة الإنسان على اختلاق الدعابة في ظل حرمانه من أبسط سبل الحياة، كان الأبطال يحفرون نفقهم نحو الخلاص من سجون تحت الأرض، كانوا يردِّدون أمام الحرَّاس: « دخلت القنادس إلى سدني وأعلام النصر خفّاقة فوق رماحها». فهل كان العلوان يحفر نفقاً لخلاص أبطاله؟

أيضاً يستحضرني الممثل ميل غيبسون وهو يمسك بيده دمية على هيئة قندس في فلم حمل اسم *»القندس» والذي يحاول غيبسون التخلص من كآبته المزمنة من خلال علاقته بدمية القندس. فهل أراد العلوان أن يتخلص من مرض ما مستعيناً بالحيوان نفسه؟

كل ذلك يأتي في الذاكرة لمجرد قراءة العنوان، ثمّة أمر آخر وهو شخصي جداً، يتعلّق بابني الصغير، عندما أرى أن شعره أخذ يحتل من وجهه أكثر مما ينبغي نبزته: « متى أوديك الحلاق أيّها القندس؟» في بداية الأمر سألني: ماذا يعني «القندس»؟ أجبته: حيوان برمائي تطفر عيناه من وسط شعره الكثيف. فهل اختار العلوان أن يتنابز بالألقاب مع شخصياته فلم يجد أفضل من القندس ليقدحهم به؟

التحليل الأخير قريب في اعتقادي بشكل ما من تبرير لصق مسمَّى هذا الحيوان على غلاف الرواية، فالبطل مندهش من مكانة هذا الحيوان الذي يحتل كل هذه المساحة من الإعلانات وذاكرة الناس وتقام باسمه المهرجانات، كان الأشهر في بورتلاند، وبما أن «غالب» جاء إلى هذه المدينة للبحث عن ذاته لم يجد أمامه سوى هذا القندس، ولأنك لا يمكن أن تعبر ذاتك إلا عبر ذوات الآخرين راح غالب يتأمل هذا القندس ويحيل كل صفاته الحيوانية على عائلته، فشيَّئهم جميعاً لقنادس وراح يتأملهم ويحلل كل تصرفاتهم من خلال القندس الذي ظهر له بكل عائلته من ضفة ويلامت.

« تأملت سنيّه البارزتين اللتين اكتستا لوناً برتقالياً شاحباً من فرط ما قضم من لحاء البلوط والصفصاف ، فذكرني لوهلة بما كانت عليه أسنان أختي نورة...أما ردفه السمين فذكرني بأختي بدرية... وعندما رفع إلى عينيه الكلّتين محاولاً أن يقرأ ملامحي ونواياي بدا مثل أمي... انتزع التمرة من يدي كما ينتزع أبي ثمار الحياة انتزاعاً... قبض عليها بيد شحيحة ذكرتني بيد أخي سلمان عندما تقبض على المال..».


الحكاية

«غالب» بطل القندس هذا المتمرد المأزوم الذي يعاني الآن من القولون وقد تشوّه وجه الجميل جرّاء حادث سيارة، كان قبل ذلك قد التقى بـ «غادة» أثناء زيارته لـ مدينة جدّه: « علقت غادة بصنارتي التي رميتها بلا مبالاة في أحد شبابيك جدة ولم أعوّل عليها أن تعود بشيء. لكن الذي يعرف جدة يعرف أنه عندما يكون الموسم ربيعاً يلقي البحر على المدينة أطناباً من اللقاح الذي يتنفسه الناس ولا يرونه. يصبح الحب حالة عامة والشوارع مليئة بالقلوب الخصبة.»صـ303ــ توثقت علاقتهما من خلال اللقاءات السرية ونمت بذرت الحب، لكن لم يكتب لهذا الحب أن يتوّج بـ ارتباط مقدّس لأسباب قبلية:»كان رأي أبي معلوماً لي قبل أن أضطر إلى مفاتحته، تماماً مثلما تعلم هي مسبقاً رأي أبيها.كل من العائلتين كانت تتعالى على الأخرى؛ ما جعل المعادلة أصعب فعزفنا عن حلها قبل أن نحاول» ص201ــ ودون محاولات تذكر آمنوا ألاّ سبيل للارتباط تاركين أنفسهم في مهب العشق، لكن غادة تتزوج سفيراً وتغادر عشقها الأول ليأخذها الغياب سنة كاملة قبل أن تعود لتسترد مكانها الشاغر دائماً. «كانت غادة عاشقة مثالية لفتى صاخب ولكنه لن يتزوجها مطلقاً كما تقول القبيلة التي في دمه، وكنت عاشقاً لحوحاً لفتاة حرة ولكنها لن تتزوجه أيضاً كما تقول المدينة في دمها.هكذا تركنا القصة مفتوحة دون تدوين تفاصيلها حتى إذا اضطرم الحب بيننا رمينا باللوم على الآباء، وشتمت هي جنوبي المتخلف وشتمت أنا حجازها المتحذلق. أما إذا خفت الحب وتحوّل إلى علاقة باهتة كتلك التي نعيشها اليوم تذكرنا معاً بأنها ربما جاءت أبهت لو كنا تزوّجنا فعلاً».

تستمر العلاقة المجنونة حتى يصل كليهما لسن الأربعين، يلتقيان بين زمن وآخر في مدن مختلفة من العالم، وبينما تعيش غادة حياتها و تربي أطفالها يظل غالب سجين نفسه، يتمرد أكثر فيقرر أن يعتزل في بورتلاند بالقرب من نهر ويلامت يفني أيامه بين تعلّم صيد السمك و التصعلك في الحانات ثم العودة لشقته المستأجرة، من هناك يظل يتواصل معها هاتفياً، إلى أن تفاجئه بقرار زيارتها لمحل إقامته لتدبّر شئون دراسة ابنها، لكنها وبسبب خلاف يدب مع زوجها، تقرر البقاء في بورتلاند لحين يرضخ زوجها لمطالبها، فتسكن شقة غالب قرابة الشهر قبل أن تعود إليه، لكن خلال هذه الفترة التي يجرّب فيها غالب العيش مع أحد آخر يكتشف أن الأمر برمته كان نزوات طارئة ..» الحقيقة التي كشفها استيقاظنا معاً في الصباح على أمزجة متناقضة وصمتنا الطويل في المساء أمام برنامج تلفزيوني، هي أن علاقتنا برمتها لم تكن أكثر من صدفة غير متقنة. الآن اكتشفت بشعور مختلط بين الألم والراحة أن الجوهرة الصغيرة التي احتفظت بها في صندوق مخملي في أقصى القلب كانت مزيفة ولا تستحق سوى ثمن بخس من النزوات الطارئة».

إذن ما الذي يجعله يستمر معها طوال عشرين سنة دون أن يكون الذي بينهما يستحق كل هذا العناء والمخاطرة؟ ما يحاول غالب أن يقوله ما بين السطور أن العشرة تجبرنا أحياناً أن نجامل حتى في رغبتنا الجنسية ونستمر حتى يجعل الله لنا مخرجاً وذلك لا يعني أننا لا نحب ولكنه حب متعدد الأوجه.

«بالتأكيد كنت أحبها ولكني لم أكن أعرف نوع هذا الحب.أعتقد أني مارست معها نصف أنواعه على الأقل. أحببتها باستخفاف في البداية لأني كنت أظنها سهلة المنال بسبب استجابتها السريعة. فكرت في البداية أن بنات جدة كلهن كذلك ولكن عشرين سنة من الدوران حولها مثل أطواق زحل بخرت هذه الفكرة تماماً».

«على رغم أن وجهها المستدير لم يعد كامل الألق وأصابعها تضاعف حجمها حتى بدا لي كأنها قلت عدداً، وصرت أحصي في بطنها إذا جلست ثلاث طيات، ولكن منذ متى أنا ألتقيها لجمالها؟».

يفرد غالب في السرد الكثير من تفاصيل عائلته بدءاً من الأب الذي يأخذ الكثير من المنعطفات وصولاً إلى أشقائه من أبيه كون أمه تزوجت بعد طلاقها من أبيه برجل آخر كما فعل أبوه أيضاً وتزوج من شيخة التي أحسنت إليه برعايتها، إلا أن غالباً يظل معتزلاً عن أخوته فيحتل سلمان مكانة خاصة عند أبيه الذي بدأ يأخذ طريقه نحو الثراء والشيخوخة، أخته منى التي تشبهه في التمرد، بدرية التي تلجأ للتدين والتشدد، عمته فاطمة الأرملة التي راح يقص عليها مغامراته، حسان وسلمان، صديقه فيصل، والخال بالرضاعة داود، يستمر في سرد الكثير عن تاريخ عائلته وتحديداً جده «حسن الوجزي» الذي يظل «ثابت» ابن قريتهم القديمة يسرد عليه وهو يدون كل شيء على أمل أن يعدّ بحثاً لا ينجزه أبداً.

يعود غالب في ختام الرواية من بورتلاند مع موت أبيه ليتقاسم وأخوته التركة التي لم تكن كما يتوقعون لكنهم اقتسموها وانصرفوا لحيواتهم

إقرأ أيضا لـ "عبدالعزيز الموسوي"

العدد 3340 - السبت 29 أكتوبر 2011م الموافق 02 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:57 م

      جميل جدا ماكتبت ولكن ...

      جميل جدا ماكتبت ولكن ماذا بعد ذلك هل نرجع الى اعمالنا ام لا ، فقبل التفرغ للرواية ، هلا نتفرغ اولا للهم الاكبر الذي يشغل الوطن والمواطن عزيزي الكاتب ، ترى الكل ما يقرء لا الرياضة ولاتستهويه الروايات غير رواية واحدة ماذا بعد عن الوطن والازمة الطاحنة والدوامة التى نحن بها فقط هذه ، والشهداء والاسرى والمفقودين والزلزال الذي اخذ في تصاعد ولن يهدأ . اما الرويات ، ايه نعم اذا حصلت على الخبز سأقرء بعد النوم .

اقرأ ايضاً