العدد 336 - الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ

التحوّل في العقل الأميركي والأمن القومي العربي!

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

يقول المؤرخ الفرنسي الكسيس دو توكفيل في كتابه الشهير عن «الديمقراطية في أميركا»، إن أهم ما يسعى إليه الاميركي في حياته، ومنذ تأسيس الامبراطورية، يتمثّل في أمرين أساسيين هما: الرفاهية، والأمن. بكلام آخر، يريد الاميركي أن يعيش في بحبوحة، وهي مؤمّنة لأن البلاد غنية بمواردها الطبيعية، وذلك في ظل جوٍّ آمن لا يعكّر صفوه شيء. ولاتزال هذه المطالب ترافق الاميركي حتى أيامنا.

كذلك الامر، لم تكن اليد العاملة متوافرة بكثرة مع المهاجرين الجدد إلى العالم الجديد. ابتكروا بسبب ذلك حلولا تمثّلت بتجارة الرقيق، وبمفهوم المدني المسلح (ميليشيا) بدلا من إنشاء جيش دائم على غرار ما كان حاصلا في اوروبا. أي ان الخوف كان دائما من تأسيس جيش دائم يعيش في ثكناته وضمن المجتمع. فالجيش الدائم، قد يعني المزيد من صرف المال، كما قد يشكّل هذا الجيش خطرا على الديمقراطية والحرية. انعكست هذه الحقائق على العقل الاميركي في أمور عدة اساسية لاتزال تحتل مواقع مهمة في السياسة الاميركية، الداخلية منها والخارجية، وهي: الخوف الدائم من الخسائر البشرية في الحروب، وسيطرة السياسيين التامة على العسكر، وعدم جهوزية القوات المسلحة الاميركية عندما يدق نفير الحروب، وهذا ما حصل فعلا عشية الحرب العالمية الثانية. وقد يقول البعض، إن سبب عدم إنشاء جيش دائم في اميركا قد يعود إلى أمرين مهمين هما: الجغرافيا الآمنة التي عزلت اميركا عن مخاطر العالم، وخصوصا الاوروبية، بمحيطين كبيرين: الاطلسي والهادئ. كذلك الامر، عدم وجود مخاطر داهمة على حدودها مع البلدان المجاورة لها.

في ظل هذه العقلية، سيطر البعد السياسي الاميركي على العسكر بصورة مطلقة. تمثّل هذا الامر بإعطاء الرئيس الاميركي صلاحيات القائد الاعلى للقوات العسكرية، من جهة. ومن جهة ثانية، ربط الدستور الاميركي موضوع صرف الاموال على التسلح بالكونغرس مباشرة. نتج عن هذا الوضع الامور الآتية:

- المقاتل المدني هو المعتمد، وهو الذي يختار سلاحه عند الحاجة. من هنا تقدم الصناعات العسكرية الاميركية، في القطاع الخاص.

- انتجت هذه العقلية، جيشا لا سياسيّا، وخصوصا أنه محكوم من السياسيين من دون امكانية الحركة.

- انتجت جيشا فقيرا في عتاده وتنظيمه إبان السلم. ومحرجا في الوقت نفسه في كيفية تنفيذ مهماته العسكرية الكبرى إبان الحرب.

وبسبب هذه الامور، لم تتقدم الصناعات العسكرية والتكنولوجية كثيرا، وذلك بسبب عدم الحاجة الماسة إليها بصورة مستمرة. علما بأن المؤرخين العسكريين، يعتبرون الحرب الاهلية الاميركية، أول حرب تُخاض بوسائل الثورة الصناعية.

كان هذا قبل الحرب العالمية الثانية. أما بعدها، فقد وجدت اميركا نفسها مرغمة بوصفها الحامي الأكبر للعالم الحر. وهي الدولة الاولى التي ادخلت النووي على الترسانات، وعلى الحروب. وهي أول وآخر دولة حتى الآن، استعملت هذا السلاح في حروبها الكبرى. وتكون بذلك حولت، شكل ونوع الحروب جذريّا، التي عهدناها قبل الحرب الثانية. مع النووي، انتقل العالم إلى الحروب المحدودة، بدلا من الحروب الشاملة وذلك بسبب هاجس الدمار الشامل. كما تبدلت العقلية والوعي الاميركيين جذريّا تجاه البُعد الأمني. فمن أمن شامل تقريبا قبل الحرب العالمية الثانية، انتقلت اميركا إلى الاحساس بمعطوبيّة مرتفعة، وذلك بسبب امتلاك العدو السلاح النووي، ووسيلة إيصاله إلى الارض الاميركية، والمتمثل بالصاروخ العابر للقارات وما شابهه. وبهدف ربح الحرب الباردة، عمدت اميركا إلى إطلاق العقائد الاستراتيجية، وإقامة الاحلاف ضد الدب الروسي، فكانت استراتيجية الاحتواء، كذلك الامر استراتيجية إقامة التحالفات الاقليمية. كذلك الامر، انشأت اميركا القيادات القارية (عددها خمس). كلّها، بهدف خنق الاتحاد السوفياتي، ومنع ايديولوجيته من الانتشار.

ولعبت العقليّة الاميركيّة دورا مهما في كيفيّة إدراك المخاطر على الارض الاميركية. فنظرية الأمن الكامل (مذكورة أعلاه)، هي التي جعلت اميركا تعتمد على مبدأ الدومينو المتساقط، لترسم استراتيجية المواجهة. فقد كان الاعتقاد، أنه وفي حال سقوط دولة معينة تحيط بالاتحاد السوفياتي، فسيتبع هذا السقوط، سقوط الدول الباقية كما يسقط الدومينو. وسيؤدي هذا السقوط، إلى سقوط العالم الحر، وبالتالي يصبح الخطر على الحدود المباشرة لأميركا، فتضطر إلى القتال داخل أرضها، وهذا أمر لم تتعوّد عليه.

إذا مع الدور الجديد لأميركا، ومع نوع المخاطر الجديدة عليها وعلى العالم الحر - على الأقل من وجهة نظرها - طرأت تبدلات جذرية في العقلية الاميركية تمثلت بالآتي:

- القرار في اعتماد جيش دائم ومنتشر على القارة التي نصح الرئيس الأول جورج واشنطن بالابتعاد عنها، وعدم التورط في مشكلاتها.

- تقدم دور الجيش في الحياة السياسية، فبتنا نرى الظاهرة الآتية: تسييس الجيش، وعسكرة السياسيين.

- تقدم مذهل للصناعات العسكرية والتكنولوجيا. وأدى هذا الامر إلى تحذير الرئيس الاميركي دوايت إيزنهاور من مخاطر سيطرة هذا القطاع على الحياة السياسية الاميركية.

- أخيرا وليس آخرا، اصدرت السلطة السياسية الاميركية عدة قوانين لتنظيم العسكر والاستخبارات (إنشاء السي.آي.أي، ووزارة الدفاع).

بعد مفاجأة بيرل هاربور، اتت على اميركا المفاجأة الأكبر وتمثلت بضربة 11 سبتمبر/ايلول. مع هذه المفاجأة، طرأ على العقلية الاميركية تبدّل جذري في كيفية وعي المخاطر على أمنها القومي. فالخطر اصبح في الداخل، والعدو تبدّل وتغيّر. والسلاح القديم للعدو القديم، لم يعد ينفع. وبدت الاستراتيجيات والتحالفات القديمة، قديمة بكل ما للكلمة من معنى. ولابد من التغيير الجذري. لكن كيف؟

حدد الرئيس الاميركي في استراتيجية الأمن القومي التي أطلقها، عدّة اهداف منها:

- عدم السماح لأية دولة كبرى بالصعود، لتنافس زعامة الولايات المتحدة الاميركية على العالم.

- عدم السماح لأية دولة من الصف الثاني بدعم الارهاب، تمويله وإيوائه تحت طائلة الضربات الوقائية.

- إعلان الحرب على الارهاب أينما كان.

يستنتج من هذه الامور، أن اميركا ستحارب ثلاثة انواع من الحروب هي:

- حروب شاملة إذا دعت الحاجة، ضد أية دولة عظمى لمنعها من المنافسة.

- حروب محدودة ضد دول صغرى قد تساعد الإرهاب (العراق، إيران....الخ).

- حروب صغيرة (ميكرو) ضد الجماعات الارهابية أينما وجدت.

وقد تعني هذه الامور، المزيد من التورط العسكري الاميركي المباشر على كل مساحة الكرة الارضية. في ظل هذا الامر، بدا التحول في العقلية الاميركية جذريّا. لكن كيف؟

- من جيش مؤقت وقليل العدد إلى جيش دائم يخوض حروبا مستمرة من دون توقف.

- من تكنولوجيا متوسطة المستوى، إلى الاعتماد الكلي تقريبا على التكنولوجيا باعتبارها حلا لتجنب الخسائر البشرية، ولاستباق المنافسين بصورة مستمرة.

- من أمن كامل وشامل، إلى مستوى أمني نسبي، مع هاجس مستمر من ان يضرب العدو.

- من الاعتماد على القوانين والمرجعيات الدولية، إلى التفرّد في قرارات الحرب كما السلم، فقط لأن الخطر اصبح في القلب الاميركي.

أين الأمن القومي العربي من هذه التحولات الجذرية في العقل الاميركي؟

يعرّف الكاتب والصحافي الاميركي الشهير والتر ليبمان الأمن القومي على الشكل الآتي: «تعتبر الدولة آمنة، عندما تستطيع ان تحافظ على قيمها الاساسية، في حال ارادت تجنب الذهاب إلى الحرب. لكنها، أي الدولة، وإذا ما كانت مجبرة على الذهاب إلى الحرب للحفاظ على هذه القيم، فمن المفروض ان تستطيع الانتصار في هذه الحرب». إذا يعتبر الأمن القومي مؤمّنا، بحسب قدرة الدولة على ردع الحرب عنها، أو الانتصار في هذه الحرب في حال فرضت عليها. لذلك هو متغير، أي يزيد وينقص بحسب قدرات الدولة المعنية. لكن الاكيد أن الأمن القومي، يرتبط مباشرة بموضوع تحديد من هو العدو، وبكيفية وعي دولة أو أمة ما للمخاطر المحدقة بها. واستنادا إلى هذه الامور (تحديد العدو ووعي المخاطر)، تقوم الدولة بوضع الاستراتيجيات اللازمة، وتأمين الوسائل الكفيلة بتأمين نجاح المخطط العام. ماذا عن العرب؟

العرب والعدو: يحتار الدارس والمتابع للأمن القومي العربي فعلا في تحديد العدو المشترك للعرب في الوقت الجاري. هل هو «إسرائيل»؟ ماذا عن موقّعي السلم معها؟ ماذا عن المنتظرين دورهم للتوقيع معها؟ وماذا عن الرافضين؟ فـ «إسرائيل» كانت العدو الأكبر للعرب، وهي كانت السرطان المزروع بينهم. وهم اعتبروا في فترة من صراعهم معها، أنها تشكّل التهديد الأكبر لأمنهم القومي. هل اميركا هي العدو الحالي؟ وماذا عن المنضوين تحت جناحها؟ ماذا عن استضافة الكثيرين منهم للقوات الاميركية؟ هل تعتبر تركيا عدوا أم صديقا؟ إذا لماذا تتحكّم بالأمن المائي لكل من سورية والعراق؟ وإذا كانت العدو، ما التدابير اللازمة لدرء الخطر؟ وهل العرب جاهزون للمواجهة؟ ماذا عن ايران وثورتها؟

العرب وسبل المواجهة: بعد ان كان العرب موحدين في جبهة واحدة ضد «إسرائيل»، ماذا حصل كي يقع هذا الانفصال؟ هل ستكون المواجهة على صعيد القطر، أم على صعيد الامة ككل؟ من الاكيد حاليّا ان المواجهة تكاد تصبح محدودة ومقتصرة على دولة او اثنتين، فهل يمكن الذهاب إلى الحرب للحفاظ على القيم العليا بهذا العدد؟ إذا كانت «إسرائيل» لاتزال العدو الأكبر، وإذا كان من المستحيل النصر عليها في حرب تقليدية، فكيف إذا تقهر؟ إذا كان التماس الدائم معها هو الحل على غرار ما حصل في جنوب لبنان، فأين سيكون التماس في المستقبل، وهي راحت تبني جدران الفصل؟ كيف يمكن للعرب من غير الفلسطينيين قتالها وهم بعيدون عنها، وبعد ان تركوا الشعب الفلسطيني مستفردا في حرب ليست لصالحه، وهم يرددون الشعار الذي يقول: «نحن نقبل بما يرتضيه الفلسطينيون لأنفسهم»؟

العرب ووعي المخاطر على أمنهم القومي: كيف يعي العرب المخاطر على أمنهم القومي في هذا الوقت؟ هل لاتزال «إسرائيل» المصدر الرئيسي؟ أم ان الصراع انتقل إلى داخل المجتمعات العربية، بعد الصراع الدائر حاليّا مع الارهاب؟ هل يشكّل الوجود العسكري الغريب تهديدا لأمنهم؟ وهل هم أحرار في خياري السلم والحرب بعد ان اصبحوا محتوين؟ هل هم العامل الأساسي في الحرب على الارهاب، أم انهم هم المقصودون في هذه الحرب؟ فأميركا تتهم المنطقة بالارهاب، وبإيوائه وتمويله. والمنطقة متهمة بالسعي إلى امتلاك اسلحة الدمار الشامل، وهي المقصودة مباشرة في استراتيجية الأمن القومي الاميركي التي ذكرناها في سياق المقال.

فالمنطقة العربية تشهد، استنادا إلى الاستراتيجية الاميركية، حروبا من النوعين الثاني والثالث، أي حروب محدودة، وحروب صغيرة (ميكرو). شكّل كل من العراق وافغانستان النموذجين الأولين للحرب المحدودة. أما الحروب الصغيرة فهي تسير بصورة مستمرة، كان آخرها قتل ولدي الرئيس العراقي المخلوع.

في الختام، يبدو الوعي الاميركي الحالي بعد 11 سبتمبر للمخاطر على الأمن القومي، وكأنه يتناقض، أو بالأحرى يستهدف الأمن القومي العربي مباشرة. فهل العرب جاهزون؟ طبعا لا. فحتى الآن، لا يوجد حتى وعي للأمن القومي العربي، فكيف سيكون هناك استعداد؟

العدد 336 - الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً