العدد 3551 - الأحد 27 مايو 2012م الموافق 06 رجب 1433هـ

دولوز والسلطة التي تنتج الواقع وتقمعه

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

مقولة الفيلسوف والناقد الأدبي والسينمائي الفرنسي جيل دولوز (ولد في باريس في العام 1926 وتوفي في العام 1995. عاش أغلب حياته في باريس. له العديد من الكتب التي تتناول الفلسفة وعلم الاجتماع. اهتم خصوصاً بدراسة تاريخ الفلسفة وتأويل نماذج متعددة منه يعتبرها على غاية من الأهمية مثل فلسفات كانط ونيتشه وبرجسون وسبينوزا): «السلطة تخلق الواقع ثم تقمعه» هي في العمق من حضورنا العربي؛ باعتبار أن الواقع الماثل اليوم لم يهبط بمظلة ولم تأت به الصدفة. هو نتاج ممارسات وسياسات ممنهجة ومتراكمة عبر أكثر من سبعة عقود أحرقت الحرث والنسل؛ سياسات الأخذ بيد المجتمعات إلى محارق بالجملة. هذا الواقع الذي تنتهجه السلطة - أي سلطة - بكل خلله ومثالبه وانكشافه سيولّد بالضرورة والفطرة رافضين له، ومثل ذلك الرفض سيواجَه هو الآخر بقمع يناسب جرأته وتطاوله. كأنّ السلطة في عالمنا - وهي كذلك - بحسب دولوز لا تكتفي بإنتاج مثل ذلك الواقع؛ بل هي على الاستعداد لقمع ما / من يحتجّ على خلل ذلك الواقع المُنْتَج.

اشتغل دولوز على «موضوعة التعدديات كما هو الأمر مع ميشيل فوكو، وركّز الأول على أخلاقية الرغبة في كتابيه (إرادة المعرفة) و(المراقبة والعقاب)». لم ينس فوكو أن يشير إلى الأهمية الكبرى التي يحظى بها دولوز في مركز الاشتغال الفلسفي وهو الذي كتب: «سيأتي يوم يصبح فيه العالم دولوزياً».

الواقع الذي يتمخّض عن الرغبة الجامحة في ممارسة التسلّط والقمع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون قادراً على الانتماء إلى عوالم ومجتمعات هي على النقيض من ذلك. مجتمعات تؤسّس وتبني وتُراكم وتحرص على كل ما يثبّت قيمة الإنسان، واحترام قدراته وخياراته وطاقاته الخلاّقة والمبدعة؛ فيما الواقع من حولنا وضمن حيّزنا وجغرافيتنا يمتلك طاقة وفائض تصدير الرعب والتجاوز. واقع أول سماته الكبت وليس آخره الترويج إلى العدم وتسويقه.

الاستبداد الذي يسِم ذلك الواقع هو ثابت ومتحرك في الوقت نفسه. ثابت من حيث حقيقة حضوره ووجوده، ومتحرك في تطوّر ممارساته وأساليبه وقدرته على القفز بتلك الممارسات والأساليب إلى مستويات تكاد تكون فوق قدرة المخيلة البشرية على التصوّر.

إنه الاستبداد الذي يقود الرماد إلى تسيّد اللحظة والمراحل. وللسلطة يد باستبدادها في خلل الطبيعة. استبدادها في تلويث تلك الطبيعة بعناصر احتضارها ومواد نهايتها، كما هو الأمر بتلويث حق الإنسان في بيئة حياة حرّة وكريمة لا تحاصره بالشروط والموانع والمصادرات لحقوقه.

الذهاب في ممارسة التسلّط والاستبداد حدّ الإدمان لا الرغبة فحسب في اشتغال دولوز على موضوعة السلطة وتفكيكه لموضوعة التعدديات، يكشف أول ما يكشف عن الفراغ الضخم الذي تعانيه منظومات التسلّط؛ ما يدفعها إلى ملئه بممارسات لا تنتهي من الإقلاق والإرباك وفتح آفاق مبتكرة للتجاوزات والمصادرات وتكييف الحقوق والقانون بحسب مرئيات حمايتها وتأبيد حضورها ووجودها.

ما هو خلاف منطق العقل وخلاف منطق الواقع في الوقت نفسه؛ على رغم علاّته والخلل المقيم فيه، لا يمكن لأي سلطة في العالم اليوم تصرّ على إرباك الواقع الذي تحكمه بتأبيد حضورها وهيمنتها وسياساتها الملفتة في الارتداد وتقدّمها في القمع المستمر لما ينشأ عن ذلك الواقع، أن تكسب رهان الأبد وتدخله تحت مظلتها واحتكارها كما تحتكر الناس ومصائرهم. ذلك منطق لا يستقيم لا مع حركة الماضي ولن يكون له موطئ قدم في المستقبل والحاضر في أحطّ مستويات عافيته وقيمته.

بقي القول:كلٌّ منّا يصطفي خياره في هذه الحياة في البيئات الصحية وحتى أولئك الذين لا خيار لهم ثمة من يتكفل بالأمر نيابة عنهم؛ برضاهم أو بعدمه!

في الرماد نقيم. السيد الأخضر ذلك المنسيّ، ذلك الذي تم إقصاؤه منذ تمكّنت الغربان من السيطرة على الحدود والأفق، بات الحديث عن الأحزمة الخضراء نكتة سمجة ومستفزة في الوقت نفسه.

قبل عقود كان الحلم بتحرّر الأوطان من الوجود الأجنبي الذي تفصلنا عنه بحار وقناعات وأمزجة أمراً اعتيادياً؛ بل هو واحد من مجسّات أرواحنا المنتبهة التي لا يمكن أن يتحكّم بها أي طرف عبر كبسة زر (جهاز التحكم عن بعد كان وقتها في بدايات الاشتغال عليه). اليوم نحن تحت رحمة وتفويض الدول القومية بكل شعاراتها الصارخة ذهبت إلى ما بعد ممارسة الاحتلال لسلطاته المطلقة عليها. ما حدث هو أن واقع البشر وحتى الأشياء صار أكثر امتهاناً وانحيازاً للرماد الذي بات سيد المرحلة بامتياز.

بقي قول ثانٍ: هذا التحول المذهل الذي أحدثته الإرادات في العالم اليوم لن يقبل بأي حال من الأحوال أيّ مراهقة سياسية لا تستقيم مع منطق العقل وحتى منطق الأشياء إن كان للأخيرة من منطق. لا يمكن لتلك الإرادات أن ترتد على عقبيها بعد كل أنهار الدم والدموع والمنافي في الداخل والخارج. سيكون ذلك بمثابة تسليم وإذعان للكارثة وتقديم القرابين لها عن طيب خاطر. ذلك لن يحدث.

يحضر الشاعر محمود درويش كلما جنّ ليل الرصد لما يحدث في هذه الأوطان وإنسانها المنتهب:

التلال مقدّسةٌ والرعاةُ القدامى ينادون:

يا رب... يا ربُّ

نحن بقايا كلامك

فاحرس بقايا كلامك

حتى نكون كما تبتغي أن نكونْ...

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3551 - الأحد 27 مايو 2012م الموافق 06 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً