العدد 3554 - الأربعاء 30 مايو 2012م الموافق 09 رجب 1433هـ

مثقفو المزادات ساعة الزلزلة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

ظلَّ المثقفون في طليعة الأحداث الكبرى وصنعها. في طليعة المواقف المطالبة بتصحيح أوضاع مواطنيهم والبشر الذين ينتمون إليهم أنّى كانوا ووجدوا. ليست تلك سابقة في التاريخ؛ بل هي منذ اتسعت مداركهم ومعارفهم. كانوا الصوت الذي تنتظره الأمم حين لا يجرؤ أحد على فتح فمه. يبادرون ويجادلون ويلاسنون ويتظاهرون ويضربون عن الطعام، وتجد الأنظمة القمعية نفسها أمام خيارين؛ إما الرصاص الذي يتولّى إخماد تلك الأصوات؛ وإما الزجّ بها في غيابات السجون. في الحالين تتسع دائرة حضورهم ويكبرون في أعين وضمائر الناس. لا الرصاصة قتلت الموقف والأثر؛ ولا السجن فتَّ في عضدهم. وهم في سجنهم (عزلتهم الإجبارية) في الداخل يطاولون بصلابتهم كل صلف وغرور الأمكنة تلك، والسياسات التي أوصلتهم إليها.

إذا أردتَ قياس عافية أمَّة في وعيها وحراكها فتأمّل حركة وموقف مثقفيها. إذا لم ترهم في الصف الأول من الحراك وفي طليعة وأوّل المبادرات، ثق أن أمر الخلل سيطول، والهيمنة ستتجذّر، ولا صوت سيعلو غير صوت الذين يقمعون ويصادرون، والأدوات التي يتمترسون وراءها.

مع بزوغ الربيع العربي كانوا هناك في عراء الميادين، في مواجهة آلة الخسف. كانوا يؤسّسون لكتابة أخرى أيضاً في خلواتهم النادرة؛ استبدلوا الخلوات تلك بالالتحام بالطوفان البشري الذي خرج ليعلن أنه سئم من كونه رقماً في إحصاء، وسئم من كونه لم يفطم عن التبعية التي يراد لها أن تطول وتلازمه حتى في القبر.

كانوا هناك، وعبر نبوءات رمَّزوها في الزمن الصعب. زمن الخوف حتى من الهمس بالاحتجاج؛ ليتركوا كل ذلك وراء ظهورهم خارجين إلى علن الموقف لوضع حدّ لمهزلة استعباد الخلق، واعتبارهم سقْط متاع أو كائنات في زرائب.

مخططات الاحتواء التي طالت المثقف لم تحتجْ إلى ربيع عربي. طالته في الخريف الدائم والمقيم. كان صدى لصوت تريد السلطة إيصاله وإشاعته. كان مُضمراً. كان في دائرة المجهول. كان ظلاً باهتاً؛ بل كان مسخاً؛ إلا ما رحم ربك والوقت ونقاء الخيار وحريته.

ذلك لا يعني أنه مع الربيع العربي انتهت صور وحالات ومواقف المسوخ من المثقفين، وتوارى الصدى والاستقطاب الذي يُراد له أن يكون دائماً. على العكس، مَكنة الاستقطاب في حركة دائمة على مدار الساعة. نجحت في موقع وتقهقرت في مواقع. وما تمَّ استقطابه ذهب بعيداً بعيداً، إلى ما بعد موهبة تشويه السلطات لكل خروج عاقل وحق على سياساتها التي أدْمَتْ قيمة الإنسان وحطَّت من كرامته.

في مصر لم يسلم الشهداء من بعض مسوخ الثقافة؛ ممن كانوا واجهات علنية ومكشوفة للسلطة بحزبها الواحد الذي لم يرتضِ أنه يكون له أي شريك قبل انهيار فرعون أرض الكنانة. الأحياء كانوا أكثر جدوى في التعريض بهم لإخراجهم من دائرة البشر إلى ما دون دائرة البهائم؛ عبر خطابات/ مقالات ومساحات حوارية تم الإعداد لها قبْل بروز الحدث ونشوئه (موضوع الحوار). تشعر أن الخطابات والمقالات وعناصر الحوار كُتبت ودُبّجت في ثكنة عسكرية أو جهاز استخبارات.

في تونس قبلها لم يختلف الأمر. كان بعض المثقفين والإعلاميين بمثابة كلاب حراسة تنبح سواء عبَرَ أحد الخط الذي يراد له أن يكون باللون الأحمر (لا أدري ما قصّة الخطوط الحمراء) أم لم يعبر. فقط يُراد لذلك المسخ أن يُسمِع صوته لسيده. في ليبيا واليمن وسورية كان الأمر فاقعاً في انحطاط نماذج مثقفين كانوا في الصدارة من الردْح والرقص على أقل من «وحْده ونص»من دون نسيان كليشيهات: «الخونة والعملاء والطابور الخامس وصنيعة الاستعمار والذيول».

عليَّ هنا أن أستدرك ماحدث في 8 سنوات هي فترة الحرب العراقية الإيرانية التي سخّر فيها صدام حسين كل أجهزة قمعه وكلابه في الداخل لاختطاف كل الطاقات المُذهلة وتجييرها في أدب الحرب (الحزب) الذي يريده هو. كانت مرحلة انحطاط في الأدب لم يعرفه العراق في تاريخه طوال النكبات التي تعاقبت عليه؛ كما هو انحطاط منظومة الحقوق، وتحوّل الإنسان إلى شبح في هيئة إنسان؛ فيما الذين نجوا بأرواحهم وخياراتهم وعبَروا الحدود إلى المنافي كانوا على النقيض من ذلك في بروز القيمة، وإبداع أذهل قرّاء العالم.

المثقف منشغل بالشتم نيابة عن الدولة العربية، والدولة العربية منشغلة بالقمع والقتل والدم. لم تختلف الصورة؛ وحتى زاوية المشهد في جغرافيات أخرى. القاموس واحد والمسعى والهدف واحد: عزل النخب المثقفة عن واقع الخلل الذي يحكم الحياة، وتحويل تلك النخب إلى مكاتب للعلاقات العامة ترمِّم ما استطاعت من عوَر ومثالب وانكشاف لم يعد ينطلي على أحد؛ أوتحويلها إلى كلاب حراسة وظيفتها النباح، لا تريد منها الدولة العربية المعاصرة أكثر من ذلك.

في الجانب الآخر، ثمة من دفع الثمن أضعافاً مضاعفة بسبب مواقفه وانحيازه وفضحه لكل الاستباحات التي عرفتها الأوطان لعقود. وقتها لم يكن عقل العالم قد تمكّن من التوصل إلى أدوات الفضح والكشف بسرعة البرق. حدث ذلك فطفتْ على السطح كل صور الاستباحات، قبل عامين إلا قليلاً.

ما هو ليس ملفتاً بالنسبة إليَّ وإلى كثيرين، أن الأنظمة تلك قذفت بالمتردية من «المثقفين» - وأضعها بين قوسين للتمييز - في المشهد الراهن في موقف قسري على أنهم يمثلون واجهة الثقافة في بلدانهم وأنهم المتحدثون الرسميون باسم الحرْف والخلْق!

لاحظوا أن منابر الثقافة بتصدُّر تلك النماذج للواجهة، عانت وتعاني من انحطاط وتراجع وضمور واختناق وتيبُّس في عروقها وانسداد في مسامها. ثقافة تعاني الكُساح ولو أُفردت لها كل مضامير وساحات الدنيا؛ لأن الذين أُريد لهم أن يكونوا في الواجهة لا علاقة لهم بأي خيار في الحياة، حين رهنوا خيارهم لوهْم النفوذ والواجهات؛ ومن المنطقي ألاّ يصدر عنهم ما يدل على قيمة الحياة؛ باستثناء قيمتهم المرتهنة لعطايا الأسبوع والشهر!

الأمر هنا لا ينفصل عن مسرح الاحتواء الأكبر؛ إذ يتحوّل المثقف إلى سبّاب وخوّان من دون تكليف رسمي! البعض وجد في التبرُّع بالموقف منجاة من جهة، وطريقاً سهلاً للإثراء السريع من جهة أخرى. لكن، من قال إنه غنىً سيُعترف به ويُرى في ظل تواطؤ على الإنسان، وتآمر على قيمته وكرامته؟ لا غنى مع تعرية النفس والأخذ بها إلى الدرَك الأسفل من العدم.

الأمر هنا بالنسبة إلى بعض المثقفين شبيه برقصة العار، تلك التي لا تورّث مجداً ولا تهب لياقة ونفَسَاً طويلاً في مواجهة استحقاقات يوم ما. يوم أن يثوب الخلق إلى رشْدهم وحتى الأشياء يمكن استنطاقها لتكون شاهداً على ذلك العار ومن أنتجه.

الربيع العربي كان فرصة للشعوب - ربما من الصعب توافرها في حال الانتظار لعقود - كي تقف على هشاشة الذين توهّم كثيرون قوّتهم، والوقوف على ضِعة الذين توهّم الناس رفعتهم، والوقوف على موهبة البيع بالجملة والمفرق لدى الذين توهّم الناس جهلهم بالسمسرة وعقد الصفقات؛ ولو كانت مشبوهة وتفوح منها رائحة أرواح ودم؛ فيما هم على درجة عالية من الاحتراف في هذا المضمار. إنهم مثقفو المزادات ساعة الزلزلة.

كم أنهكت المزادات والمزايدون هذه الأوطان؟ كم كان بعض أدعياء الثقافة طعنة وعوالم من أفخاخ في طريق أحلام وتطلعات أمم وشعوب لا تريد شيئاً سوى أن تحيا بكرامة تليق بآدميتها وتليق بقدرتها على الوجود والإبداع بعيداً عن المصادرات والرصْد ومختبرات السحْل والاستجواب؟

كم لوّثت المزادات والمزايدون صورة الحياة وقيمتها؟ كم أزهقت أرواحاً عن بعد ومن وراء حجاب؟ كم صادرت أو ساهمت في مصادرة حريات وقيم ليس لمخلوق الحق في أن يعبث بها ضمن هذا الحدّ والمستوى؟ فقط هي كنوز الوهْم التي تتبدّى لذي خوَر وغيبوبة وتدفع ضريبته (الوهْم) المخلوقات.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3554 - الأربعاء 30 مايو 2012م الموافق 09 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:00 ص

      ابداع

      اسمح لي يا استاذ ان ارفع لك القبعة. قمة المهنية والابداع

    • زائر 3 | 2:26 ص

      هناك فرق بين مثقفي الفلوس والمال ومثقفي الأوطان والحرية

      لا يقارن شرف المهنة بين من يقف مناضلا مع شعبه مدافعا عن حقوقهم وبين من يكون مثقفا من اجل المال والجاه والمنصب فشتان بين الطريقين وشرفهما
      طريق النضال هو دائما محفوف بالمكاره والسجون لكنه
      في النهاية يتوج اصحابه ويعترف له حتى اعدائه بشرف مسيرته اما الآخر فهو في قرارة نفسه غير مقتنع بما يقوم به ولكنه من اجل المال والجاه يبرر بعض مواقفه.
      ولا بد ان ينتابه الندم في حين غرة وبالذات في نهاية المطاف حين يجد ما اخذه من مال لا قيمة له امام ما هو مقبل عليه من مستقبل تكون الحسرة هي الحاكمة في كل شيء

    • زائر 2 | 1:30 ص

      في المواقف الصعب نعرف معاد الرجال

      فيهم من يدافع عن الحق و لا يخشى غير الله
      و فيهم من يركض وراء الدينار و المصالح الخاصة و الضيقة مثل قلوبة المريضة
      لقد فرزت الثورة هؤلاء الناس فاصبح فينا المناضلين و الحقوقين الصحف التي تنقل الحقيقة ليتسلمو الجوائز و شهادة التقدير
      على العكس من ذلك لقد اصبحت صحف صفراء لاثقة فيها و ناس لاتريد مصافحته لانه يركض وراء الدينار تم تعريته امام العالم و المنظمات

اقرأ ايضاً