العدد 3589 - الأربعاء 04 يوليو 2012م الموافق 14 شعبان 1433هـ

المعيار المُميّز بين التعبير عن الرأي والتحريض

علي محسن الورقاء comments [at] alwasatnews.com

محامٍ بحريني

التعبير عن الرأي (أو إبداء الرأي) يصدر في الغالب باللفظ أو بالكتابة لا عن فعل أو سلوك ولا بالإشارة. ولذا نجد «التعبير عن الرأي» يختلف عن «التعبير عن الإرادة» الذي قد يكون باللفظ، أو بالكتابة، أو بالإشارة الشائعة الاستعمال، أو بالمبادلة الفعلية، أو باتخاذ موقف معين يدل على التراضي أو على إظهار الإرادة.

وأياً تكن وسيلة التعبير عن الرأي يظل مصدره القول (أي الكلام) حتى وإنْ أظهره المُتكلم في محرر كتابي عبر كتاب مطبوع أو بالنشر مثلاً.

وقد يصدر التعبير عن الرأي من مجموعة من الناس بالهتافات أو من خلال بيان يُعلِنونه في مسيرة جماهيرية، ذلك لأن المسيرة أو الهتاف لا يجوز أن ننظر إليه بكونه فعلاً أو سلوكاً مجرداً بقدر ما أنه وسيلة للتعبير عن الرأي، إلاّ إذا كانت المسيرة صامتة فتُعتبر حينئذٍ سلوكاً أو فعلاً له معنى أو مغزى.

ومن ثم عندما نضع نصب أعيننا «مبدأ حرية الرأي» كوجه من وجوه الديمقراطية وجب أن نُقرِنُ هذا المبدأ بمبدأ حرية التظاهر السلمي حيث لا ينفصل هذا عن ذاك، ومن يقرر انفصال أحدهما عن الآخر إنما يقرر إجهاض حرية الرأي أو يلغيها.

والتحريض هو الآخر لا يصدر إلاّ عن قول إما باللفظ وإما بالكتابة كذلك، سواء كان التحريض ضد شخص طبيعي أو اعتباري، أو ضد نظام سياسي، أو ضد فئة من الناس، أو ضد عقيدة بعينها.

ومما تقدم نستخلص أن التعبير عن الرأي والتحريض كلاهما يصدران بالقول، أي أن مصدرهما الكلام، شفاهة كان أو محرراً، وهذا هو العنصر المشترك بينهما.

بيد أن هذا العنصر المشترك لا يوحدهما، إذ يظلان رغم ذلك مختلفين اختلافاً كبيراً، وهذا الاختلاف يكمن في المفهوم والطبيعة القانونية والهدف لكل منهما، فضلاً عن اختلاف النظريات والمدارس الفقهية في حدودهما.

فمن حيث المفهوم والطبيعة القانونية نرى باختصار شديد أن «التعبير عن الرأي» تصريح ينبثق من الفكر الصالح المباح، مداده قول الحق والحقيقة حسبما يراهما المُعبِّر، ويرتكز على مبدأ الحق غير المطلق في ممارسته، ويقوم أساساً على فكرة البحث وتبادل الأفكار. في حين أن «التحريض» نقيض ذلك؛ فهو من حيث المبدأ يمثل جريمة أو يحث عليها، ولا يمتّ إلى الفكر الصالح بصلة، ولا يقوم على مبدأ الحق بالمطلق إلاّ إذا كان وفق الأطر الضيقة المسموح بها قانوناً وشرعاً كما هو الشأن في التحريض ضد أعداء الأمة وأعداء الدين والفاسدين ومن في حكمهم بشرط أن تَثْبُت عداوتهم ويَظهرُ فسادهم.

وحيث إن هناك خطوطاً تتقاطع بين «التعبير عن الرأي» و «التحريض»، ونظراً لاختلاف الرؤى بينهما نلحظ بعض الأنظمة السياسية أو ذوي النفوس المريضة يستغلون هذا التقاطع واختلاف الرؤى لملاحقة كل من يُعبِّر عن رأيه بتهمة جريمة التحريض مثلاً. وأكثر ما يُنسب إلى هؤلاء تهمة «التحريض على كراهية النظام» باعتبار أن هذه التهمة هي بالتحديد القميص المناسب والواسع الذي يمكن إلباسه على من يُراد تكميم أفواههم. وهذا ما يدعونا إلى أن نقف على هذين الموضوعين بشيء من الإيضاح لبيان ماهيتهما والتمييز بينهما.

ولكن بداية يجدر بنا أن نشير إلى أن حرية التعبير عن الرأي قد كفلتها دساتير الدول المتحضرة حتى تلك التي تتمتع شعوبها بقدر من الديمقراطية، وهذه الحرية لم تكن وليدة العصر الحديث إنما نشأت بنشأة الأديان السماوية وأقرّتها اتفاقيات ومواثيق الأمم المتحدة منذ عقود من الزمن، مثال ذلك:

أولاً: «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» المُعتمد في ديسمبر/ كانون الأول العام 1948 حيث نصت المادة (19) منه «إن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة دون تقيد بالحدود الجغرافية».

ثانياً: «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية» المُعتمد في ديسمبر العام 1966 حيث جاء في المادة رقم (19) منه كذلك:

1 - «إن لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة».

2 - «ولكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها».

وبناء على ذلك، ندرك أن التعبير عن الرأي في حدوده المشروعة حق ثابت للأفراد لا يحق للسلطة انتزاعه أو التعدي عليه، ويجوز استعماله بكل الوسائل المشروعة المتاحة.

وإذا كنا نقرّ أن حرية التعبير عن الرأي مقيدة غير مطلقة فلا يعني ذلك أن نجعل من هذا القيد مدخلاً لتضييق هذه الحرية أو وأدها، أو أن نعتبر أي وجهة نظر تصدر عن هذا أو ذاك جريمة على سند من القول إنها افتئات أو تحريض على كراهية النظام، أو لاعتبارها مخلّة بالأمن القومي، إلى غير ذلك من الذرائع التي تعودنا على سماعها. لذا وجوب الوقوف على القيود التي تحدّ من حرية التعبير عن الرأي، أو التي تميز التعبير عن الرأي عن التحريض، والتي نستنتجها مما يلي:

أولاً: التعبير عن الرأي بحسب مفهومه العام هو التصريح عن وجهة النظر التي يؤمن بها المُعبِّر عنها بحسب مدلوله الفكري والثقافي وربما العقائدي. فمثلاً أنا عندما أسمع أن الحكومة قد قررت أمراً ما ورأيت أن هذا القرار حسب منظوري الفكري والثقافي غير صائب ثم أعلن وجهت نظري (أو أعبر عن رأيي) بشأنه، فليس هذا تحريضاً ضد الحكومة طالما كان إبداء رأيي مقتصراً على هذا الأمر دون دعوة الناس إلى مواجهة الحكومة بالعنف والتهديد.

ولهذا نجد أن أول ما يميز «التحريض» عن «التعبير عن الرأي» هو أن يكون التعبير عن الرأي غير مقترن بالدعوة إلى ارتكاب فعل يحرمه القانون، فإن كان مقترناً أو متصلاً بارتكاب فعل يحرمه القانون اعتبر تحريضاً. ذلك لأن التحريض طبقاً لقواعد القانون الجنائي يقوم على ركن توافر النية والعزم لدى المحرّض على استقطاب من يسعى إلى تحريضهم للقيام بعمل غير مشروع، فإن انتفى هذا الركن انتفى التحريض. وعليه نستنتج أن المعيار الذي يميز التحريض عن التعبير عن الرأي هو العمل غير المشروع المتصل أو المقترن بالتعبير عن الرأي.

ومن نافلة القول في هذا الجانب؛ إنه حتى وإن صيغ يراع التعبير عن الرأي بعبارات تداخلت فيها عبارات النقد الهادف البناء الذي لا يدعو إلى العنف فلا يعتبر ذلك تحريضاً، لأن جريمة التحريض كما قلنا لا تقوم إلاّ إذا اقترن الرأي (أو النقد) بعمل غير مشروع أو الدعوة إلى ارتكابه كالعنف مثلاً أو كان الهدف منه الازدراء بالآخرين، إلى غير ذلك من الأعمال غير المشروعة.

ثانياً: سبقت الإشارة إلى أن التعبير عن الرأي ينبثق من الفكر المباح، مداده قول الحق والحقيقة، ويقوم أساساً على فكرة البحث وتبادل الأفكار، وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون التعبير عن الرأي هو في مواجهة القرارات السياسية الصادرة من الحكومة أو القرارات الصادرة عن أجهزة الدولة ومناهجها وحسب، إنما قد ينسحب ذلك إلى ما يطرحه الأفراد أنفسهم من أفكار ورؤى شخصية.

وحيث إن آراء الناس ليست كلها متطابقة لعدم تساوي الفكر والثقافة والمستوى العلمي والتربوي لديهم لدى نجد غالباً أن هناك من يبدي برأيٍ يخالفه الآخر، أو يثبت أن رأيه كان خاطئاً غير صائب.

ولما أن حرية الرأي مكفولة وليس من الجائز محاسبة كل من يبدي برأي خاطئ، وإلاّ اعتبر ذلك بمثابة تقويض لحرية الرأي وحرية الفكر. ولكن على رغم ذلك يجب التوقف هنا للتمييز بين الرأي الخاطئ وبين الرأي الصائب المتطرف المنبثق عن ذهنية طائفية تسودها الكراهية ويسعى صاحبه إلى الازدراء بطائفة معينة أو لإثارة الفتنة والشقاق بين الناس أو التحريض على طائفة أخرى.

وحيث قلنا في الفقرة الأولى «إن التحريض طبقاً لقواعد القانون الجنائي يقوم على ركن توافر النية والعزم لدى المحرّض على استقطاب من يسعى إلى تحريض الناس للقيام بعمل غير مشروع» فإن الرأي المتطرف الداعي إلى الازدراء بالآخرين والمحرّض على الفتنة والشقاق يعتبر عملاً غير مشروع وإن كان رأيه المقترن بهذا العمل صائباً.

وعليه يظهر لنا ثانية في هذا المقام أن العمل غير المشروع هو ذاته المعيار الذي يميز التحريض عن التعبير عن الرأي في المقام السابق.

وبهذا نخلص إلى القول إلى أن التعبير عن الرأي بشأن أي أمر من الأمور هو حق ثابت للأفراد بمقتضى القانون والشرائع السماوية والمواثيق الدولية، ولا يجوز اعتباره جرماً أو تحريضاً إلاّ إذا اقترن بعمل غير مشروع يعاقب عليه القانون كالعنف مثلاً، أو كان يدعو إليه المُعبِّر عن رأيه.

إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"

العدد 3589 - الأربعاء 04 يوليو 2012م الموافق 14 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:50 ص

      للفصل أصل والأصل فصل

      هوية الشيء تحدد وتعرف بأصله، فلذا يمكن الفصل. لكن في الأعراف (العادات والتقاليد) يغيب الأصل منه لبديهية أنه "تقليد" ومن الصعب أن تجد له أصل ثابت. فكيف يمكن الفصل في شيء أصله مجهول أو معدوم؟
      بينما في القيم والمباديء يبدو المقياس ظاهر وواضح.
      فأيهما أعلى المقياس أم المعايير؟
      وأيهما يعين على الوزن وأيهم يضيع الوزن؟

    • زائر 1 | 2:27 ص

      لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم

      شكرا على هذا المقال:
      من يتمعن في الآية المذكورة أعلاه يعرف أن الجهر بالسوء من القول غير مصرح به إلا لمن احسّ بالظلم ويعني ذلك ان المظلوم له حق ان يرفع عقيرته مظهرا لظلامته موضحا لها هذا إذا كنا نتبع شرع الاسلام الذي نقول للعالم اننا مؤمنين به ولكن على ما يبدوا اننا مؤمنين بالاسلام قولا لا فعلا وبالذات العالم الاسلام فغالبية السلطات فيه تمشي عكس الاسلام بل وعكس حتى القوانين الوضعية والانسانية
      اي لا احترام الى الله ولا الى خلقه

اقرأ ايضاً