العدد 3603 - الأربعاء 18 يوليو 2012م الموافق 28 شعبان 1433هـ

السُّمُّ المنقَّع بين أبي عمَّار والتاريخ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مَنْ قتَلَ ياسر عرفات، هو أحدٌ يخشاه. تل أبيب؟ ربما! خصم آخر؟ ربما أيضًا! لكن الأصل هو أن يكون خصمك التاريخي معنِيٌ بالتهمة أكثر من غيره. فهذا الخصم، لم يكن بعيدًا عن أربعين محاولة اغتيال، دبَّرها ضد أبي عمَّار. في العام 1964 بألمانيا الغربية كانوا متورطين. وفي العام 1965 بدمشق كانوا متورطين. وفي العام 1967 تورَّطوا مرتيْن أيضًا. وبعد ذلك بعام جرَّبوا كذلك. وفي العام 1973 والعام 1982 والعام 1984 والعام 2001 (وما بينهما من محاولات) كانوا يجتهدون للظفر به ليقتلوه. لم تنجح محاولات اغتياله إلاَّ في أكتوبر/ تشرين الاول من العام 2004، بِدسِّ السُّم إلى جسمه.

مسكينٌ أبوعمَّار. مثلما كانت نهايته لغزاً، لم يُكتشَف إلاَّ توّاً، فقد كانت حياته كذلك. حياة ملؤها السِّريَّة، واللعب مع الكبار. وقد دفعت تلك الحياة كثيرين، لأن يظلموا الرجل في حياته، فينعتوه بالخيانة، والعمالة، والاستسلام، وكل عناوين التشهير. خَرَجَ من الأردن عنوة بعد أيلول الأسوَد. وخرج من دمشق عنوة لتلافي استحواذ البعث عليه وعلى القرار الفلسطيني. وخرج من القاهرة، لأنه لم يُرِد أن يمضي في سياسات لم يكن لها حظ ولا أفق. وخرج من لبنان لأنه رأى تدمير بيروت، بحجَّة وجوده فيها، فلم يعد أمامه من خيار، سوى أن يكون خفيفاً على مضيفيه فغادر.

حُوصِر الرجل سياسيّاً وماليّاً. لَفَظَته دولٌ عربية، وخاصمته وبل تآمرت عليه. حتى أبناء الوطن، لم يكونوا قادرين على استيعاب تعقيدات عقله السياسي والثوري. فانزاحوا عنه، وتداعوا إلى غيره، وفي أحيان كثيرة إلى خصومه حتى. نفِيَ إلى تونس، حيث لا قضية، ولا حدود، ولا طوق، ولا سماء مع الوطن. لم يستطع أن يتلوَّن مع هذا الانتحار. فكَّرَ مَلِيّاً في أن يخرق جدار الصَّمت. أراد أن يُجرِّب حظه في السياسة «مستقلاً» هذه المرة، كما اختارها غيره، عَلَّه يصيب فله أجرين، أو يخطأ فله أجر واحد. طَرَقَ أبواب الدول الإمبريالية جميعها فرحَّبوا بتحوله «المريب» طمعاً في إنهاء هذا الملف المزعج: ملف فلسطين. منحهم الرجل كلّ ما يريدونه من أجل الثقة، حتى كسبها بمكر.

تصافح مع إسحاق رابين، صاحب سياسة تكسير العظام! يا له من خيار صعب. كثيرون لم يقبلوا بذلك. إنه تابو لا يقدِر أحدٌ على هَدِّه. حتى الإسرائيليين، لم يستوعبوا ما جرى. هل من المعقول، أن ينسوا لواء اليرموك والقسطل والكرامة والقوة رقم سبعة عشر، الذين دخلوا في معارك ضارية مع جيش الدفاع الإسرائيلي كما يسمونه؟! لم يستَرِح ذلك الاستنكار الإسرائيلي اليميني، إلاَّ بعد أن أطلق متطرف يهودي رصاصة أودَت بحياة رابين، بعد أن أخذته حمِيَّته على أورشليم، وأرض الميعاد، والتي بدت له وكأنها في مهبِّ الريح بسبب رابين نفسه. أما العرب، الذين كانوا للتوّ قد اجتمعوا في مدريد، فقد تفاجأوا هم أيضاً بهذه الخطوة، التي قادها عرفات بانفراد ودون علمهم.

لم يكن أحدٌ يدري، ماذا كان يُخبئ عرفات. دَخَلَ إلى أوسلو وهو غير طامع سوى في قطعة أرض تؤويه ورفاقه وعمله السياسي، حتى ولو كانت بمساحة القَدَم، ما دام الفلسطيني قد أصبح عالة على مضيفيه. هو أدرَك، أن هذه الاتفاقيات ما هي إلاَّ قراطيس وأحبار بالنسبة لأعدائه، لطالما داسوا عليها بعد كل مراسم توقيع، فلماذا لا يعتبرها هو كذلك أيضاً. فالسياسة جزءٌ منها كذب، وجزء منها علاقات عامة، وجزء منها مصالح، وجزء آخر حنث باليمين. خوَّنته طهران وليبيا وعديد من الدول العربية، وقطعت عنه المعونة. وشتمته دمشق بأقذر الأوصاف على لسان وزير دفاعها آنذاك مصطفى طلاس. أما حركتَي الجهاد الإسلامي وحماس والجبهة الشعبية، وبقية الأحزاب الإسلامية والفصائل الفلسطينية فلم تقل عنه بأقل مما قالته تلك الدول عنه.

دَخَلَ عرفات إلى الضفة، ومعه أربعون ألف مقاتل ممن تقطعت بهم السُّبل. جاء بهم لكي لا يقضوا بقية حياتهم رهائن لدى أجهزة الاستخبارات العربية والعالمية تتلاعب بهم. وأدخَل معه ستة عشر ألف قطعة سلاح بأنواع مختلفة. وبدخوله، أصبح السلاح مجاوراً لإسرائيل، بعدما كان قابعاً وراء الحدود. ولم يعد سجناء حماس ولا كوادرها كما أرادت إسرائيل من عرفات أن يعاملهم. كان الأمر مهولاً للعقل الأمني الإسرائيلي. ولم تكتشف تل أبيب بأنها خدِعَت إلاَّ بعد أن تيقنت، أن عرفات قد داسَ على ما اتفق معها عليه. كيف انطَلَت تلك الخديعة على إسرائيل. هي تنبَّهت لها بعد كامب ديفيد 2 الذي رفض فيه مسألة اللاجئين. خَرَجَ رعنان غيسين الناطق باسم شارون وقال أمام الإعلام: عرفات خَدَعَنا.

وعندما قررت إسرائيل أن تبدأ عمليتها العسكرية الوحشية المسماة بالسور الواقي في مارس/ آذار 2002 كان لديها ستمئة اسم من عناصر الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التابعة لعرفات، تنوي تصفيتهم، لأنهم باتوا يشكلون خطراً على أمن إسرائيل. كان على تل أبيب، أن تتعامل مع كتائب شهداء الأقصى، التابعين لعرفات، على أنهم عناصر خطريين، بعد أن اكتشفتهم كمقاتلين أشدَّاء ضدها في انتفاضة الأقصى. كان عليها أن تعتقل ضباط مخابرات مهمين لدى عرفات، ومن دائرته الضيقة، وأن تصفي ما أمكن من القوة رقم سبعة عشر. كان عليها أن تقطع الرواتب والمساعدات التي كان يدفعها ياسر عرفات لكل عائلة شهيد أو جريح خلال الانتفاضة، أو عند القيام بأي عملية ضد إسرائيليين. وكان عليها أن تقصف السجون الفلسطينية، التي تأتمر بأمره، لأنها لم تعد مكاناً للسجن، بقدر ما أصبحت مكاناً لإخفاء النشطاء المستهدَفين من الطائرات الإسرائيلية ومن عمليات الموساد.

هذا هو المشهد الذي يجب أن نستحضره ونحن نقرأ خبر تسميم عرفات بمادة البولونيوم. نستحضره لكي لا نكتب التاريخ من خلال انتماءاتنا الإيديولوجية ومواقفنا السياسية، وإنما من خلال أمانتنا تجاهه، لأنه أساس المستقبل القادم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3603 - الأربعاء 18 يوليو 2012م الموافق 28 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:26 ص

      نسيت أن تقول:

      نسيت أن تقول: إنه قاد سلطة نخرتها سوس الفساد التي تربت على قيمه، وإنه استبد برأيه عن بقية الفصائل في القرارات المصيرية، وإنه وضع نفسه أداة بيد أمريكا وأنظمتها العميلة ضد مصالح الأمة وكل مَن يدافع عنها، وطالما وقف في صف الأنظمة الدكتاتورية ضد مطالبات شعوبها!

    • زائر 3 | 3:27 ص

      رحمك الله يا ابااا عمار

      والله ما اوفاك احد قدرك و ما اعطاك احد جزاء عطائك ،، كنت و لا زلت اكبر من الجرح ،، كنت و لا زلت اسداً في ساحات الجهاد،، بالامس كنت معنا و اليوم روحك هاهي هنا (( في القلب )) اباعمار يا سنوات النضال ،، ابا عمار يا تاريخ القتال ،، ابا عمار يا فلسطين الحره و الابية \\r\\nكيف لا و انت القائل السلاح بيميني و غصن الزيتون بيساري ،، كنت رجل السلم و رجل الحرب \\r\\n\\r\\nتحيات \\r\\nشيعي محب لأبو عمار

    • زائر 2 | 3:26 ص

      رحمك الله يا ابااا ياسر

      والله ما اوفاك احد قدرك و ما اعطاك احد جزاء عطائك ،، كنت و لا زلت اكبر من الجرح ،، كنت و لا زلت اسداً في ساحات الجهاد،، بالامس كنت معنا و اليوم روحك هاهي هنا (( في القلب )) اباعمار يا سنوات النضال ،، ابا عمار يا تاريخ القتال ،، ابا عمار يا فلسطين الحره و الابية \r\nكيف لا و انت القائل السلاح بيميني و غصن الزيتون بيساري ،، كنت رجل السلم و رجل الحرب \r\n\r\nتحيات \r\nمحب لأبو عمار

    • زائر 1 | 2:58 ص

      واو

      عذاً عزيزي الكاتب، هذه هي الكلمة التي أطلقتها ( وإن كنت أحب كتابتك الفضحى جداً ) عندما أنهيت قراءة مقالك والذي أعجبني كثيراً وأن كنت لا أزال أختلف مع الرجل حتى الأن إلا أني أحترمه لبعض مواقفه، هذه النظرة التي لم أقترب منها يوماً عن الرجل أعجبتني كثيراً. تحليلك ممتاز

      سلمت يداك

اقرأ ايضاً