العدد 3623 - الثلثاء 07 أغسطس 2012م الموافق 19 رمضان 1433هـ

جارودي... لا يرحل عن الذاكرة

محمد حسن كمال الدين comments [at] alwasatnews.com

رحلت بعيداً في موسوعات فلسفية متعددة الأنماط، فلم أعثر على فيلسوف واحد من فلاسفة الشرق أو فلاسفة الغرب طرأ على مخيلته هذا السؤال الذي داهمني...»هل العقل دليل على وجود العقل؟» هذا السؤال حاولت الإجابة عنه في إصداري الأخير «كيف نرى العقل؟ أين نرى العقل؟»، على قناعتي أن إجابتي لا ترقى إلى حد الإقناع.

وما حفزني لطرح هذا السؤال، ذلك السؤال الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي «روجيه جارودي»:»أيهما أسبق المادة أم الفكر؟ الطبيعة أم الروح؟» وفي هذا السياق أعود بذاكرتي إلى شهر فبراير/ شباط من العام 1966، كنت حينها طالباً في جامعة دمشق، وأثناء تجوالي في ردهات الجامعة بعد انتهاء إحدى الحصص، بمعية زميلين سوريين هما عبدالرحمن فرزات وفيصل الجاسم، شاهدنا مجموعة من طلاب كلية الآداب - قسم الفلسفة - خارج قاعة المدرسين، فدفعنا الفضول للسؤال عن سبب هذا التجمع، فقيل لنا أن هناك شخصية فرنسية بصحبة الأستاذ الدكتور شكري فيصل، أستاذ اللغة العربية والدراسات الإسلامية بالجامعة، وبالمناسبة هذا الأستاذ «الدكتور شكري فيصل» كان أحد المشرفين على تعريب التعليم بالجزائر بعد حصوله على الاستقلال، وبحكم كون هذا الأستاذ يدرسنا الأدب في عصر الإسلام، هو يعرفني جيداً، دخلنا غرفة الأساتذة دون تردد وسلمنا على أستاذنا، وبدوره قدمنا لضيفه الحاضر قائلاً: هذا هو الفيلسوف الفرنسي «الدكتور روجيه جارودي»، وأشار لي قائلاً لضيفه: «هذا طالب من البحرين»، فتعرفت على ذلك الضيف الفائق الأناقة، والتفت لي متعجباً لماذا لا يتجه أبناء الخليج للدراسة في فرنسا؟

قلت له ربما لصعوبة اللغة الفرنسية أو لأسباب مادية، وإذا لم تخني الذاكرة، قال لنا مداعباً: «إياكم يا إخواني من الاقتراب من الفلسفة، فإنها تكشف لكم أسرار الكون، وأسرار النفس البشرية» وكأنه بتلك المداعبة يدعونا إلى الالتحاق بركب العلوم الفلسفية والإنسانية. لم يدم اللقاء طويلاً، إلا أنه قبل أن نودعه، وجّه لنا نصيحة غاية في الأهمية قائلاً: «إذا قرأتم التاريخ، إياكم أن تقرؤوه قراءة مقلوبة».

ومنذ ذلك الوقت وعلى تخصصي في اللغة العربية وآدابها، أصبحت متابعاً لكتابات الدكتور جارودي بالخصوص من خلال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بدمشق، كون هذا المفكر والفيلسوف العالمي من أكبر المناصرين لقضايا العرب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، فاسم «جارودي» من أشد الأسماء لمعاناً في عالم المفكرين الغربيين، ونزاهته الفكرية أبعد ما تكون عن الطعن أو استحمال الشكوك، وبذلك غدت أبحاثه في المعرفة الإنسانية ذات آثار بالغة على نظرية «الأخلاق والسياسة» فهو حين رحل إلى «المادية الجدلية» بعد انتمائه للحزب الشيوعي، أعتقد كغيره من الماديين أن الإنسان في الطبيعة - بأبعاده الثلاثة - (اللحم والدم والعظم)، إنما تنطبق عليه قوانين الطبيعة، مثلما تنطبق على بقية الأشياء، ولم يبتعد عن «المادية الجدلية» إلا بعد أن اكتشف أنها مجرد حماقات غشيت عقول بعض الناس.

وليس بعيداً أن يكون انتماء جارودي للحزب الشيوعي انتماء سياسياً مجرداً، كطريق للنضال ضد الاستبداد ونهب الثروات، في الوقت ذاته ضد النازية والفاشية المكشرة عن أنيابها آنذاك في عموم القارة الأوروبية.

أما كونه مسيحياً بروتستانتياً، فلم يكن يمنعه من «الإمساك بطرفي السلسلة»حسب تعبيره هو، حيث ظل طيلة ثلث قرن حريصاً على التوازن في الانتماءين، انتماء يخلص البشرية من الظلم والاستبداد، وانتماء يمده بمعنى الحياة، ويجعله يتحرر من تناقضاته الداخلية (محسن الميلي/ روجيه جارودي والمشكلة الدينية). ومن أعظم المعايير التي طبقها جارودي، هي أنه لم يكن يقبل من جميع المعتقدات إلا ما يبدو له أنه صادق على نحو متميز، مخضعاً ذلك إلى المنطق والعقل، فبعد اقتناعه مثلاً، بفساد وسذاجة الحكم «الثيوقراطي»، الشبيه بالبقرة المقدسة التي لا يجب أن يمسها بشر، اقتنع بحقوق الطبقة العاملة «البروليتاريا»، انطلاقاً من قناعته بمدرسة «كومنه باريس»، التي تأسست العام (1871)، والتي تعتبر أول مدرسة في التاريخ تعنى بالتنظيمات العمالية، وتدعو إلى اشتراكية جماهيرية.

وبعد رحلة مؤلفاته التي تتجاوز أربعين مؤلفاً، وبعد معاركه الفكرية المتمسكة بالراديكالية تارة، وبالمنطق الهادئ مرة أخرى، أصدر في العام 1982 كتاب «الإسلام دين المستقبل»، وكان تمهيداً لإشهار إسلامه بقناعة المفكر المحتكم إلى المنطق والعقل، حيث أشهر إسلامه في «المؤسسة الثقافية الإسلامية» في جنيف في اليوم الثاني من يوليو/ تموز العام 1982م الموافق للحادي عشر من رمضان 1402هـ على يد الدكتور مدحت شيخ الأرض «سوري الأصل»، وغيّر اسمه من «روجيه جارودي» إلى «رجاء جارودي»، ووجد في الإسلام محطة استراحة في سنوات عمره الأخيرة.

وأجمل ما قرأت له في حوار الحضارات دعوته الصادقة: «إنه على العالم الغربي بكافة مؤسساته الفكرية أن يدخل في حوار مع العالم الإسلامي، دون «تعصب»، ودون «خوف»، ودراسته دراسة موضوعية، بعيدة عن استباقية العداء، كما أنه في الوقت ذاته، على المسلمين أن يتفهموا دينهم بصورة صحيحة، فلا يقلدوا الغرب تقليداً أعمى باسم «الحداثة»، ولا يفرضوا على أنفسهم «عزلة قاتلة» عن باقي البشرية تحت شعار «المحافظة»، ثم إن عليهم أن يبقوا باب الاجتهاد مفتوحاً، حتى يتمكنوا من مواجهة المشكلات التي تطرق أبواب الإنسانية عند مطلع كل شمس.

وفي رأيي المتواضع، سيبقى جارودي شخصية عالمية على قدر كبير من الجدل، وسيبقى هدفاً لسهام القوة الخفية في العالم، فحضوره في الفضاء الفكري والثقافي الغربي والعربي الإسلامي، أسس «ظاهرة جارودية»، ومواقفه الفكرية والسياسية والدينية، كلها تقف وراء ذلك الحضور المبهر.

وقد حاول جارودي ربط الفلسفة بالحياة وبزمانها التاريخي، انطلاقاً من فكرته التي تقول: «إن الحياة تطرح المشكلات»، والفلسفة تتولى الإجابة».

أما عن «الحقيقة» في عالمنا اليوم فيقول عنها جارودي: «الحقيقة ليست وراءنا...، بل تنتج عن تصارع أفكارنا، وعن المحاورة في رؤانا، تماماً مثلما تنتج عن الاختلاف في مواقفنا».

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن كمال الدين"

العدد 3623 - الثلثاء 07 أغسطس 2012م الموافق 19 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:37 ص

      البون الشاسع !

      المادية الجدلية ترعب عقول بعض الناس ؛ لا تغشي عقول بعض الناس !!!!! . المادية الجدلية يؤمن و يضحي بها ملايين الناس من أجل ملايين الناس ؛ بعكس الأفكار الشوفينية التي مات بسببها ملايين الناس ظلماً !!!!! .

      تحياتي...

      ابوالياس الجتوبي.

اقرأ ايضاً