العدد 3626 - الجمعة 10 أغسطس 2012م الموافق 22 رمضان 1433هـ

المُعلم الثاني للبشرية

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كان الجو شتوياً بارداً تشوبه رياح سريعة، بينما كان عامل محطة البترول يهم بملئ خزان إحدى السيارات المتوقفة أمام المضخة؛ وإذا بأحد الزبائن عند المضخة الأخرى يُخرج ورقة نقود لدفع ثمن ما أشتراه من بترول. وأثناء تسليمه المبلغ للعامل دفعت الرياح الورقة فطارت في الهواء وسقطت على الأرض، وحرصاً من عامل المحطة الذي مازال يملئ السيارة الأولى المتوقفة بقربه على ألا تبتعد الورقة كثيراً وبالتالي يخسر المواطن الآخر نقوده بسبب الرياح، وبما أن يديه مشغولتين فقد وضع إحدى قدميه على تلك الورقة النقدية. وللمصادفة مر رجلا شرطة في تلك اللحظة بقرب المحطة فشاهدا هذا المنظر والعامل يضع رجله على ورقة النقود فارتفعت حمى الوطنية والغيرة العربية لديهما واتجها إلى العامل ووجها له أبشع الكلمات والكدمات وما هي إلا لحظات وغدا العامل المسكين في مخفر الشرطة.

هذه الحكاية رواها لي أحد الأخوة من إحدى الدول العربية، وعندما سألته لماذا حدث لهذا العامل ما حدث؟ أجابني: لأن الورقة النقدية كان عليها، كما هي معظم الأوراق النقدية اليوم، صورة حاكم البلد وبما أن الشرطيين لم يستفسرا عن سبب فعل العامل ولم يتركا له مجالاً لأي شرح لأنهما ظنا به سوءاً وتعمداً وتمرداً على الشرعية المتمثلة في الورقة النقدية، فقد حدث له ما حدث.

بينما هناك حدث آخر فظيع ومأساوي حقاً ومن قام به كان قاصداً مع سبق الإصرار والترصد أن يقوم به لإحداث القتل المتعمد في جسد الغير. ذلك عندما قام أشقى الأشقياء (عبدالرحمن بن ملجم) بقتل أتقى الأتقياء على وجه الأرض (الإمام على بن أبي طالب «ع») في فجر يوم التاسع عشر من شهر رمضان لعام 40 هـ الموافق 26 يناير/كانون الثاني لعام 661 م، إذ ضربه بسيفه المسموم وهو يصلي صلاة الصبح في مسجد الكوفة، ومن هول ما أقترفت يداه اضطرب فلم يستطع الهرب بعيداً عن موقع الحادثة فلحقه رجل من قبيلة همدان فطرح عليه قطيفة، ثم صرعه وأخذ السيف من يده وجاء به إلى أمير المؤمنين (ع). وخرج إبنا الإمام، الحسن والحسين (ع)، وأخذا ابن ملجم وأوثقاه وأحضراه إلى والدهما. وسجل ابن الأثير في كتابه أن ابن ملجم أُدخل على أمير المؤمنين (ع )، فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى، قال الإمام: فما حَملَك على هذا؟ فاعترف ابن ملجم بلا إكراه ولا محاكمة عسكرية صورية: شحذته أربعين صباحاً «يقصد بذلك سيفه»، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، قال الإمام: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا من شر خلق الله، ثم أضاف لأبنائه: النفس بالنفس، يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قُتل أمير المؤمنين ألا لا يُقتلن إلا قاتلي، انظر يا حسن إذا أنا متّ من ضربتي هذه، فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثـلن بالرجل، فإني سـمعت رسول الله (ص) يقول: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور.

بهذه الأخلاق وقف أمير المؤمنين، وهو أعلى رأس في دولة الحق آنذاك، أمام عمل متعمد وقتل بنيَّة مبيتة وباعتراف فاعله الأثيم ابن ملجم. ومع بقاء الإمام علي (ع) يعاني من ضربة القاتل لثلاثة أيام، إلا أنه طوال تلك الفترة كان يلهج بذكر الله وليس بلعن من قتله، والرضا بقضائه، والتسليم لأمره لا بأمر الجلاوزة بصب فنون العذاب المستهجن والمتوحش على المعتقل.

ولم يحرض على قاتله بل كان يُصدر الوصية تلو الوصية، داعياً إلى إقامة حدود الله عز وجل، محذراً من اتباع الهوى والتراجع عن حمل الرسالة الإسلامية. كان يوجه للرفق بالقاتل الأسير وإطعامه مما يأكلون والاعتناء بصحته ومنامه. فشتان بين الموقفين والدرسين لما حدث لعامل المضخة عند العرب بما عامل به الإمام قاتله وهو بالسيف قد ضُرب.

فماذا يعني مداوة أطباء أشراف لجرحى مواطنيين، أمام ما أحدثه ابن ملجم من قتلٍ وليس جرح لخليفة المسلمين المنتخب شرعياً وأمام الملأ، ليتم معاقبة أولئك الأطباء كل هذا العقاب الذي غدا مسلسلاً مكسيكياً مملاً بئس من أخرجه؟ وماذا تشكل المطالبة بحقوق مدرسين مظلومين، أمام الجهل الذي عاشه ابن ملجم والجرم الذي ارتكبه بقتل معلم البشرية الثاني، ليتم ملاحقة رئيس جمعيتهم وزجه هو ونائبته في غياهب السجون؟ وما الذي جناه عمال وموظفون غيارى على بلدهم وتطوره إصلاحياً نحو الأفضل، أمام ما أحدثه ابن ملجم من فساد ضد رأس دولة الحق بقتل أفضل العباد في زمانه وفي كل زمان، ليتم توقيع العقاب الجماعي الطائفي عليهم دون رحمة وهم الذين لم يسيلوا قطرة دم واحدة ولا حملوا سيفاً يهددون به عباد الله أمام العامة؟

والأدهى والأمر، ما الذي فعلته مساجد من حجارة وطين يُعبد فيها الله لُتهدم بلا وجه حق، وهناك حتى دار المجرم الحقيقي وهو ابن ملجم لم تُمس بسوء؟ ثم حتى أصحاب الإمام وتلامذته الذين رباهم بفيض أخلاقه وعلومه النبوية لم يقفوا من ابن ملجم موقفاً يدل على سوء أخلاقهم كما فعل بعض أبناء جلدتنا حين جعلوا من أنفسهم خصماً في وضع وقضية كانت بين السقف والقاعدة ولم يكونوا هم أساساً من أحدثها في البلاد وظلم بها العباد حتى يتبنونها بهذا الشكل الملجمي العجيب؟

وهكذا هي أخلاق خليفة المسلمين علي بن أبي طالب (ع) المغدور قتلاً المظلوم فهماً لكنه يعطيناً درساً لا يمكن أن نجده عند غيره؛ وبذا يمكن القول، إذا كان رسول الله (ص) هو المعلم الأول للبشرية الحديثة فإن الإمام علي (ع) وهو ربيبه وحامي بيضة الإسلام؛ لعمري هو المعلم الثاني لهذه البشرية، ومنهم ممن حولكم، لا يريد أن يتعلم اليوم الدروس جيداً. فتأملوا من دروسه الكثير وهو ينصح حكام اليوم بقوله: «شرُ البلاد بلدٌ لا أمن فيه ولا خِصبَ. وسلاح الشر الحقد، وشر ما سكن القلب هو الحقد، وأن الحقود مُعذب النفس مُتضاعف الهم. فحاربوا أنفسكم على الدنيا واصرفوها عنها.. واتعظوا بالعبر واعتبروا بالغير فإن في تعاقب الأيام مُعتبر للأنام». ورمضان كريم مع من يعتبر ويتعظ.

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3626 - الجمعة 10 أغسطس 2012م الموافق 22 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:22 ص

      اثنى عشري

      يا علي يا غلي ما اعدلك يا علي اسد الله الغالب حنون ختى على اعدائك يا علي .

اقرأ ايضاً