العدد 3729 - الأربعاء 21 نوفمبر 2012م الموافق 07 محرم 1434هـ

الثقافة الأمنية وارتباطها بالظنية

يعقوب سيادي comments [at] alwasatnews.com

.كاتب بحريني

«العِلمُ في الصغرِ كالنقش في الحجرِ»، مَن منّا على مستوى الإنسانية لا يعرف فحوى هذا المثل؟ الذي يحض على أمرين، الأول أنه متى ما أردت لنقشك أن يبقى فانقشه على حجر وليس الرمال، والثاني أن العلم يبقى في ذهن ووجدان ذاك الذي تعلمه في صغره، فإن دربت طائراً صغيراً على النطق والفعل، بقبيح الكلام والأداء، فلن يأتيك بغيره، مهما حاولت وجهدت في كِبَرِه، وليس أمامك لإصلاح الوضع إلا الخلاص منه، وتدريب صغير آخر على الصحيح والطَيِّب.

وعلى الصعيد الإنساني، ليس الصغير بالضرورة هو حديث السن، بل هو فقير العقل والوجدان لما تود أن يتعلمه، فلا تأتِ بمن تشبع عقله ووجدانه بسوء الفعل، لتدربه على الفضائل، بل لزم تدريب غيره، ذاك الذي صفحة عقله ووجدانه ناصعة.

وهناك من وسائل التدريب والإرتقاء، الثواب والعقاب، الفعلان المُجْدِيان للإحالة والتطوير من السيء إلى الحسن. فهل سلكت السلطات ذات الوسيلة، في تنفيذ توصية اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق، بتطوير عقلية وثقافة منتسبي الأمن في تعاملهم مع الاحتجاجات الشعبية؟ وقد ساق السيد بسيوني لهم الوسيلة بتوظيف المواطنين من جميع الطوائف في سلك الجيش والأمن العام، إبدالاً وتطعيماً، في إشارة واضحة إلى وجوب تصحيح أوضاع هذا القطاع مما نقش في حجر التربية والعقول والوجدان، وتطبيق الثواب لمن يرتجى إصلاحه، والعقاب على من تمادى وأبى الإصلاح.

أما من تربى وشاب على الضغينة، واستغلال السلطة، وبات مريضاً نفسياً لا يرى لنفسه كياناً دون استصغار كيان الآخرين، ولا يعقل الأسباب والدواعي والنتائج إلا من خلال الظن والارتياب بنوايا الناس، مفترضاً فيهم السوء الذي يدعوه للبطش، فلا أمل في إصلاحه، حيث تضمحل سياسة الإفلات من العقاب التي أشار إليها السيد بسيوني في تقريره.

لقد أضناني البحث عن كليات الشرطة في الوطن العربي، التي يتخرّج منها ضباط لا يجدون وسيلة لتفريق متظاهرين ومحتجين إلا باستخدام القوة المفرطة، وللقبض عدا تصويب وإطلاق السلاح القاتل، وعندما يستسلم المطلوب القبض عليه دون مقاومة، فكأنه حرمهم متعة الملاحقة، فيعاقبونه بالضرب والركل والإهانات الشخصية والمعتقدية، من قبل إجراء القبض عليه وفي أثنائه وبعده.

كما لم أجد كلية يتخرّج منها أولئك المحققون، الذين يبادرون المتهم البرئ حتى تثبت إدانته، بالتصغير والمهانة والتعذيب النفسي والجسدي لانتزاع اعتراف منه بفعل لم يقترفه، ليصل في بعض الحالات إلى الإعاقة أو الموت جراء التعذيب.

كل ذلك جراء افتقارهم للقدرات المنطقية والعلوم الأمنية والذكاء التحليلي وعدم قدرتهم على ربط المعلومات بسياقها الزمني والمكاني، ولجهلهم بالعلوم الإنسانية ومبادئ المنطق والأخلاق، الأمر الذي يجعل منهم عاجزين عن حل أية عقدة أمنية عبر التحقيق الاحترافي.

هذه كلها نتائج تبدت إبان الأزمات السياسية عبر مائة عام، وكان واضحاً أن قوى الأمن الخاصة والتحقيقات، قد تم تدريبهم وإعدادهم خارج إطار المهنية، فاستشرى الفساد الإجرائي الأمني، المتبدي في عدم احترام حقوق الإنسان، وتجاوز الإجراءات القانونية ونصوص الدستور، جرّاء سياسة الإفلات من العقاب.

لذا تجد أن المعهود هو البطش، وما خالفه من تعامل يحفظ كرامة المتهم البرئ، ما هو إلا نتاج مستجد في العمل الأمني الخاص، ما يلبث أن يتخلّق بأخلاق البطش ودونية الآخرين، فكأنما مقياس الإنجاز الأمني وبطولات رجالاته، تقاس بكم الهول الذي يصبّه على المواطنين.

لنأتي إلى سؤال، ما الذي يفسخ رجال قوى الأمن العربية عن مجتمعاتهم في أخلاقهم ومواطنيتهم وإنسانيتهم؟

في تقديري، إنه التدريب الخاطئ أولاً، فبدل إكسابه المهارات وتزويده بالأدوات المحددة الأثر، التي يحتاجها لعمله في إجراءات تفريق التجمعات والقبض القانونية، نراه عديم التفكير، إلا من البطش، خصوصاً أنه يحمل من الأسلحة والعتاد ما هي مصممة للتعامل بالقوة المفرطة، فأي خيار يكون لدى المجند، في تنفيذ الأوامر باستخدام ما لديه، وهو بين فكي كَمّاشة، إن عصى ناله العقاب العسكري، وإن أساء التعامل خارج القانون، بات عرضةً للمساءلة القانونية المحتملة وليست اليقينية، في ظل أن الآمر في مأمن بجعل المجند كبش فداء، ولكن مع ضمان التعويض وجزيل العطاء.

وثانياً، أن الضباط العرب من بعد تأهلهم أكاديمياً، وقبل التحاقهم بالخدمة، يمرون بفترة تهيئة خاصة، عبر عمليات غسيل الدماغ والوجدان، ليتحقق انفصالهم عن كل ما عدا مخدوميهم، من رتب أعلى وأشخاص السلطات، وكل من عدى ذلك هم أعداء أو أعداء محتملة. فجميع الخلق على أرض الوطن، عدا الرؤساء، لا قيمة لهم ولا إنسانية ولا حقوق. وتتوزع هذه النزعة على جميع الرتب.

وحين المواجهات، حتى البسيطة منها، تراه لا يأبه بإجراء معين محدود الأثر، بل لا يتورع عن الإتيان بأفعال تعكس ما في نفسه من أحقاد على الناس، وتتعاظم هذه الدوافع السيئة حين تتبدى أنفاسه الطائفية.

فيتربى رجال قوات الأمن العرب على فنون إيذاء الآخرين، المُصَنفين لديهم في كل الحالات، كخارجين على القانون، خصوصاً في ظل غياب الحساب والعقاب، ثم لا يلبث أن يتحول فعلهم محبباً لديهم، فلا تعود لهم حاجة لأوامر فعلها، فقد أضحت لهم تسلية، أن يؤذوا ويؤلموا أياً كان.

وما إجراءات التصدي للمصلين في جمعة الصلاة المركزية (24 ذو الحجة 1433 هـ) (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) التي يوجبها القرآن الكريم نصاً، لما لها من توجيه إسلامي جمعي، إلا دلالةً على سوء الظن الذي ذكرناه، فقد جاء في خطبة الشيخ عيسى قاسم ما نصه «رأيِنا لا عنف من أي طرف تجاه طرف آخر، لا عنف من الحكومة، لا عنف من الشعب، لا عنف من أي طرف ضد مواطن أو مقيم أو ضيف على هذا البلد، لا عنف ضد أية جنسية من الجنسيات، ضد كبير أو صغير». وجاء أيضاً «أي تفجير يكون قد وقع، أو يمكن أن يقع، أبعد الله ذلك، من أية جهة كانت، مرفوض ومدان، وهو استخفاف صارخ بحرمة الإنسان، ولا مكان له من حرمة الدماء ومصلحة الوطن».

فسوء الظن المسبق لم يجعل من المعنيين بالأمن أن يأمنوا جانب نوايا الشيخ، ولو فعلوا لفتحوا الطرقات ورصفوها عاجلاً، ولدعوا جميع الطوائف والمذاهب الإسلامية لتلك الصلاة المركزية، ولهيّأوا لها أكبر المساجد والساحات، وزَوّدوها بمكبرات الصوت والتغطيات الإعلامية، لتصل إلى كل صغير وكبير من مكونات الشعب.

ولإعطاء الوصف المجرد، أسوق للقارئ الكريم، هذا الحدث الذي شهدته، ففي أحد مواقع المواجهات الأمنية، كان الشارع مغلقاً بحاويات القمامة وما بينها جسم غريب، يوحي بأنه قابل للانفجار، فما كان من قوى الأمن إلا إطلاق مسيلات الدموع على المتجمعين على بعد مئات الأمتار بالاتجاهين، لا لتفريقهم كون عددهم أقل بكثير من عدد المقذوفات التي أطلقت باتجاههم، داخل قراهم بعيداً عن الشارع العام، وقد تركوا السيارات العابرة تمر قريباً جداً من الجسم الغريب عبر منحنى الشارع، لساعة، بانتظار المدرعة والإعلام الأمني، إذ بوصولهما باشروا التعامل مع الجسم الغريب، بالتصوير وبدهسه بالمدرعة، ليتبين أنه كارتون به بعض الأحجار ومغلف بكيس قمامة مربوط على شكل عقدة دائرية، فلم يكن اهتمام قوى الأمن منصباً على حماية السيارات المارة ومستخدميها، من احتمال الإضرار بهم جراء احتمال الانفجار، بقدر ما كان اهتمامهم، بتتالي الطلقات على المتجمعين، إذ لم يوقفوا ولم يحوّلوا مسار السيارات بعيداً عن نقطة الخطر المحتمل، إلا حين بدء التعامل والتصوير، فقد أوقفوا مرور السيارات فقط حينها.

وللقارئ الكريم والمسئولين أن يتبينوا الصواب من الخطأ، وأخذ العبرة، وكل يتحمّل مسئوليته.

إقرأ أيضا لـ "يعقوب سيادي"

العدد 3729 - الأربعاء 21 نوفمبر 2012م الموافق 07 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 3:49 ص

      مقال في منته الدقه والتمحيص

      نشكرك يا أستاذ يعقوب المحرقي والمحب لهذا الوطن الجريح حقا بسوء الظن اتجاه اهله من قبل السلطه هذا من جانب واما من ناحيه منتسبي رجال الامن فهيه قالهاء سعادة الوزير في مقابله تلفزيونيه عندما وجه له سئوال ماالمقصود بكلمه مرتزقه, قال رجال المن الغير البحرينين لايمكن دمج البحرينين في وحدة مكافحه الشغب من الطائفه السنيه ولا من الطائفه الشيعيه وقد اعطا مثال,لوجهزناء فرقه من ابناء السنه ووجهناهم الى منطقه شيعيه تتواجد بهاء مظهرات فلم يقدموا على ضرب المتضاهرين وبالعكس ولهذا السبب ياتوا بغير البحرينين

    • زائر 7 | 3:05 ص

      التدريب يتركز جول أبشع و أعنف الطرق للتعامل مع المتظاهرين

      ظنا منهم بأنهم إذا قتلوا أحد المتظاهرين سيخاف الآخرون و سينسحبون !! و هذه إستراتيجية خاطئة أثبتت أنها لا تجدي ! فالعنف يولد العنف

    • زائر 6 | 2:59 ص

      شكراً لكم إستاذ يعقوب سيادي

      شكراً لكم كل مقالتكم في قمة اتلروعة

    • زائر 5 | 12:58 ص

      الظنية وسوء النية هما الاساسان اللذان يتعامل بهما مع شعب البحرين

      من مسالة الاقصاء والتمييز وممارسة العنصرية كلها بسبب سوء الظن بالاضافة الى سوء النيّة في هذا الشعب على الدوام لذلك محاولة ابعاده عن كل المفاصل المهمة بالدولة وعلى مدى عقود متوالية وممارسة العنصرية البغيضة على الدوام وهو الذي جعل من هذا الشعب الذي هو في قمة السلمية ان ينفجر
      والوضع الحالي يزيد من الاحتقان الى ان ينفجر بانفجار اكبر من اللذي حصل وسوف تثبت الايام ذلك
      فالكل يرى انه مستهدف في رزقه وفي مقدساته وفي كرامته وحياته وهذا شيء
      سيء جدا

    • زائر 4 | 12:38 ص

      أستادنا الفاضل

      لمن تخط ولمن تقرأ بما معناه ( مؤذّننا هندي وكردي خطيبنا ) فأرجو ا أن لايساء الظّن بمعنى العبارة الّلتي بين هلالين هو انتقاص من أحد مكوّنات شعوب العالم فكلّنا خلق الّله ولافضل لعربي على أعجمي إلاّ با التقوى والمقصود أنّ مسؤولي أجهزةنا ألأمنيه والآمرين لهم لا يفقهون تلك الّلغة الصريحة والمأدّبة النّاصحة الّلتي تفضّلت بها فى هذا المقال الرائع وكل ُّ مقالاتك رائعة يا استاذ , قال النبي المصطفى (ص ) الّلهم اهدي قومي إنّهم لا يعلمون .

    • زائر 3 | 12:14 ص

      محاسبة النوايا

      وصلنا ياسيدي الان الى الاسوء حيث تتم محاكمة النوايا فكما تعلم تم جرجرة العديد من خطباء ورواديد منابر الامام الحسين الشهيد الى التحقيق فيما يطرحون ومحاسبتهم وسجنهم . سيدكامل الهاشمي مثالا .. راجع الوسط الايام الماضية

    • زائر 1 | 11:57 م

      شكراايها الاستاذ الجليل

      شكرا أيها الاستاذ الجليل..... تقاس عظمة الانسان بقدر ما يخرجه من صدق و صفاء من داخل ضميره الحي.... استاذنا الفاضل يمتلك ضميرا صافيا ونفسا مروضة على البوح بالصدق والنصيحة للآخرين... نتمنى على الجميع ترويض انفسهم والإحتكام لشرع الله قبل ان يغلب كل فرد هواه ويتسبب في الحاق الضرر بالآخرين .... "يوم ينظر الانسان ما قدمت يداه وقول الكافر يا ليتني كنت ترابا" فليتذكر كل أنسان أنه مسؤل غدا ومحاسب !!!

اقرأ ايضاً