العدد 3786 - الخميس 17 يناير 2013م الموافق 05 ربيع الاول 1434هـ

العراق بين كسر القيود والمخاوف من التفتيت

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

عاد العراق مجدّداً إلى واجهة الأحداث، بعد اندلاع تظاهرات صاخبة في عدد من مدنه، خلال الأسابيع الأخيرة، شملت الفلوجة والرمادي والموصل وكركوك وسامراء، ويتوقع انتقالها إلى مدن أخرى.

الحدث الذي فجّر هذه التظاهرات، هو إقدام وزارة الداخلية في حكومة المالكي، على اعتقال أفراد من حماية وزير المالية رافع العيساوي، وتوجيه تهم ارتكاب جرائم إرهابية بحقهم. لقد رأى كثيرون أن دوافع عملية الاعتقال هذه هي تصفية حسابات سياسية، في بلدٍ شيّد المحتل بنيانه السياسي على أسس المحاصصة الطائفية.

وعلى هذا الأساس، بدا على السطح، أن الأسباب المباشرة لتفجر الأحداث الأخيرة، هو الصراع بين أطراف جمعتها الشراكة بالعملية السياسية، التي دشنها المحتل الأميركي، لكن هذا التفسير يبدو غير كافٍ، فليس بوسع حدث بسيط بمفرده، كاعتقال أفراد حماية لأحد الوزراء، وإن كان بحجم وزير المالية، أن يشعل فتيل انتفاضة شعبية، في مناطق واسعة من البلاد.

ما يعزّز من هذه القناعة، هو أن نقطة الانطلاق في هذه التظاهرات هي مدينة الفلوجة، التابعة لمحافظة الأنبار، التي عرفت بمقاومتها العنيدة للاحتلال الأميركي. وجاءت التظاهرات تلبية لنداءات من رجال عشائر وأئمة المساجد.

وقد تركزت هتافات المتظاهرين على اتهام حكومة بغداد بالطائفية والفساد، وخوض معركة ثأرية واستفزازية من الخصوم، وإلصاق تهم الإرهاب بحقهم، وتوجيه الصراع نحو الطيف المذهبي السني، واستخدام قضاء مسيّس وفاسد، من قبل رئيس الوزراء المالكي، لتعضيد موقفه في الصراع مع خصومه.

لقد كان اعتقال أفراد حماية وزير المالية العيساوي، القيادي في القائمة العراقية التي يتزعمها اياد علاوي، هي القشّة التي قصمت ظهر البعير. فبعدما يقرب من عشر سنوات على الاحتلال الأميركي لأرض السواد، ومرور عام على الانسحاب الأميركي، لايزال العراق مثقلاً بالكثير من الأزمات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والخدمية، وآخرها أزمة المناطق المتنازع عليها بين السلطة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان شمالي العراق.

إن حالة الاحتقان التي يعانيها شعب العراق، بسبب تفاقم أزماته، هي ما تفسّر عنف الانتفاضة الشعبية التي تجري فيه، التي وصفها البعض بالثورة، وهي أيضاً ما تفسر تطور مطالب المتظاهرين، التي اقتصرت في بداية انطلاقتها على المطالبة بإطلاق سراح بعض النساء المعتقلات، ومحاسبة الضباط الذين انتهكوا أعراض السجينات بالاغتصاب، على خلفية اتهام أزواجهن أو إخوتهن بمقاومة الاحتلال.

ثم تطوّرت المطالب إلى إطلاق سراح الرجال الذين تعتقلهم حكومة المالكي، الذين يتجاوز عددهم السبع مئة معتقل، يتعرّضون لأبشع أنواع التعذيب والمهانة. وخلال أيام قليلة، ارتفع سقف المطالب ليشمل المطالبة بمعاقبة المجرمين، بما فيهم رأس السلطة، الذي أصدر أوامره، أو تغاضى عن انتهاك الحريات، ما أدى إلى ارتكاب جرائم، توصف بجرائم إبادة.

وشملت مطالب المتظاهرين أيضاً، محاسبة اللصوص وسرّاق المال العام، الذي بلغ بحسب تقارير دولية، أرقاماً فلكية. وتشمل المحاسبة عدداً كبيراً من السياسيين والمسئولين في الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ بداية الاحتلال الأميركي عام 2003 حتى تاريخه. لقد اتهم هؤلاء جميعاً بتبديد ثروة البلاد، في أوجه صرف وهمية، في الوقت الذي يعاني منه المواطن الفاقة والجوع، ونيل أبسط مستلزمات العيش الكريم في بلد غني بثرواته.

يضاف إلى ذلك، أن هناك استياءً لدى عموم العراقيين، بسبب بقاء البنية التحتية التي دمّرها القصف الهمجي دون إصلاح حتى هذا التاريخ. فلا كهرباء ولا أجهزة صرف صحي، ولا صحة ولا اهتمام بشبكة الطرق والمواصلات. لقد أدى السطو على مقدرات العراق وثرواته، إلى تحوله إلى مصاف أفقر الدول. لكل هذه الأسباب يجد كثير من العراقيين فيما يجري من تظاهرات واسعة، بداية ثورة حقيقية على الحكم القائم، متسقةً مع ما يجري من تحولات سياسية دراماتيكية في عدد من الأقطار العربية.

الخشية هي أن تستمر هذه التظاهرات في المناطق التي يشكل الطيف السني غالبية سكانها، وألا تنتشر لبقية المحافظات العراقية. إن اقتصار المظاهرات، على محافظات الأنبار وصلاح الدين وكركوك والجزء الغربي من العاصمة بغداد، المناطق المتعارف عليها منذ الاحتلال، بالمثلث السني، يسم الانتفاضة بالطائفية، ولا يجعلها معبرةً عن إرادة جميع العراقيين بمختلف طوائفهم.

ويعزز من هذه الخشية رفع شعارات طائفية، في هذه التظاهرات حتى وإن كانت من عناصر محدودة وهامشية، ولا تمثل غالبية المشاركين في الحركة الاحتجاجية. وأيضاً دعوة بعض رجال الدين في محافظة الأنبار، وعلى رأسهم الشيخ مشعان العيساوي، رئيس مجلس علماء مدينة الفلوجة، بكلمةٍ ألقاها أمام المتظاهرين وسط المدينة، «أبناء المكوّن السني بالانسحاب الفوري من حكومة المالكي الطائفية دون تأخير»، مطالباً باحترام المكوّن السني والكف عن استهداف رموز السنة، والابتعاد عن منهج الإقصاء الذي يتعرض له هذا المكون في جميع مؤسسات الدولة».

إن اقتصار هذه التظاهرات على هذه المناطق، وعدم امتدادها لوسط وجنوب العراق، من شأنه إعادة الملف الطائفي، الذي أسهم في تفتيت العراق، وإعادة تشكيله، استناداً إلى الهويات الجزئية، ولاسيما أن هناك تأكيدات عدة، من قبل قادة وسياسيين عراقيين، من أن الاعتقالات تطول في غالبيتها رموزاً من المكوّن السني، وأن قانون الإرهاب يطبق عليهم دون غيرهم من مكونات العراق.

خلال هذا الأسبوع، خرجت تظاهرات في مدينة بغداد ومحافظتي النجف وكربلاء، مؤيدةً لرئيس الحكومة نوري المالكي، ومندّدةً بالانتفاضة الشعبية التي تجري في مواجهته. إن ذلك يعني أن المجتمع العراقي منقسم في موقفه السياسي، على أساس طائفي، بما يهدد العراق ومستقبل وحدته الوطنية.

الخطورة في هذا الأمر أنه يتسق مع المشروع الغربي الهادف لتحقيق سايكس - بيكو جديدة، وشرق أوسط جديد، ينبثق بفوضى خلاقة ومخاض ولادة، يكون من نتائجها، تفتيت أرض السواد إلى ثلاث دول: دولة كردستان في شمالي العراق، وقد أصبحت أمراً واقعاً، ودولة شيعية في الجنوب، وأخرى سنية فيما صار معروفاً بالمثلث السني، لتضيف إلى تجزئة الأمة، تجزئة جديدة تشمل الكيانات الوطنية، في متتاليات لا يبدو أن لها نهاية.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 3786 - الخميس 17 يناير 2013م الموافق 05 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً