العدد 3793 - الخميس 24 يناير 2013م الموافق 12 ربيع الاول 1434هـ

محمد جابر الأنصاري ومفهوم الدولة المدنية (2-6)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

ظهر مفهوم الدولة العلمانية، أو بعبارة أكثر دقة النظام السياسي العلماني نتيجة ثلاثة عوامل: الأول: رد فعل لسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على السلطة السياسية وتدخلها في تنصيب الملوك وعزلهم بل تقييد حياتهم الشخصية مثل الزواج والطلاق كما في نموذج هنري الثامن ملك بريطانيا (1491-1547) وخروجه على الكنيسة ليتسنى له الزواج للحصول على وريث ذكر للعرش، لذلك قام بالزواج السادس وبالنظر لاعتراض الكنيسة الكاثوليكية فقد قام بإصلاح ديني في بريطانيا ومن هنا تحولت بريطانيا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية.

الثاني: ما عرف في الفكر السياسي باسم الحق الإلهي للملوك Divine Right of Kings وهي نظرية موازية للسيطرة المطلقة للكنيسة على الشئون الدينية.

وكان صاحب هذه النظرية المفكر الفرنسي جان بودان، ومع حركة الإصلاح الديني وظهور الدولة الوطنية تحول هذا الحق لسيطرة الملك على الشئون الدينية. ووصلت النظرية إلى ذروتها في عهد لويس الرابع عشر في فرنسا وجيمس الأول ملك انجلترا، وضعفت النظرية بعد الثورة المجيدة في بريطانيا (1688-1689)، والثورتين الأميركية والفرنسية، وتم التخلي عنها تماماً في مطلع القرن العشرين.

وقد أدت نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك إلى نشوء الديكتاتورية والاستبداد السياسي، ومن ثم فإنه مع تطور المجتمعات أحدث ذلك رد فعل مضاد سواء من طبقة الإقطاع التي سعت إلى الحصول على نصيب من القرار السياسي، أو الطبقة البرجوازية التي سعت للحصول على نصيب اقتصادي ثم سياسي، أو الطبقة العاملة التي سعت إلى الشيء نفسه.

الثالث: الحروب الطاحنة على مدى ثلاثين عاماً بين الدول الملكية الكاثوليكية، والدول البروتستانتية وخصوصاً في ألمانيا (1618-1648) وحرب الثمانين عاماً بين اسبانيا الملكية وهولندا التي أعلنت الجمهورية آنذاك (1568-1648) وانتهت لاعتراف اسبانيا بالجمهورية الهولندية.

ويضاف إلى ما سبق مخلفات الفكر الكنسي الاستعماري المرتبط بظاهرتين: الأولى: الحروب الصليبية باعتبارها حرباً مسيحيةً مقدسةً ضد المسلمين؛ والثانية: الحروب الاستعمارية وارتباطها بظاهرة التبشير الديني المسيحي الذي جاء كرد فعل أوروبي مسيحي على انتشار الإسلام والفتوحات الإسلامية.

النظام السياسي العلماني بصورته المطلقة بهذا المعنى لا يقدّم أية مساعدات لأنصار أي دين (ماعدا النموذج الأميركي الذي يعترف بدور الدين وتقدم الدولة مساعدات لمعتنقيه، أيّاً يكن الدين)، ولا تنحاز فيه الدولة إلى أي دين أو ضده. والواقع أن معضلة الدولة العلمانية تكمن في الفهم الخاطئ من قبل الآخرين لنظرتها للدين، إنها رد فعل ضد الاستبداد باسم الدين، وهي في جوهرها ليست ضد الدين، إنها محايدة بالنسبة إلى الدين، وتقوم على ما يمكن أن نسميه نظرية تقسيم العمل التي ظهرت تقريباً في الفترة الزمنية نفسها في عصر النهضة، وهذا انطبق على الصناعة والزراعة أو النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بوجه عام، كما انطبق على المجال الديني.

وقد استندت تلك النظرية إلى ما نسب إلى القديس بولس الرسول «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وهذا يعني الفصل بين المجالين، كما ظهرت في الوقت نفسه نظرية الفصل بين السلطات في الفقه القانوني والسياسي، وعبر عنها اليكسي دي توكفيل ومونتسيكو، ونظرية الإرادة العامة التي عبر عنها جان جاك روسو وجون لوك وغيرهما.

الدولة المدنية: Civil State وهي تطوير لمصطلح الدولة العلمانية، يحافظ على جوهرها قبل الاتجاه للتطرف أو التشدد، ويركز على أنها الدولة المعنية بشئون الإنسان في هذا العالم، باعتبار الدين معنيّاً بشئون الإنسان في اليوم الآخر؛ فان الدولة المدنية معنية بشئون الإنسان في هذا العالم، وليست ضد الدين بل هي تعترف به وتحترمه وتحميه كحق من حقوق الإنسان.

الإسلام والدولة المدنية

لم يسعَ الإسلام إلى بناء دولة إلا بعد الهجرة إلي المدينة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وأصدر النبي (ص) صحيفة المدينة التي أقامت النظام السياسي على حالة ما يشبه الدولة المدينة في الحضارة الإغريقية، أي محدودة المساحة، محدودة السكان، محدودة الأهداف من ناحية وتقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم ممن يعيشون في المدينة وما حولها. وقام النظام السياسي والاقتصادي في إطار نموذج من الديمقراطية المباشرة أو شبه المباشرة في حياة سياسية واجتماعية واقتصادية اتسمت بالبساطة وسيطرة الطابع القبلي والتسامح الإسلامي.

ولكن إزاء التطورات اللاحقة في انتشار الإسلام، فقد تطور مفهوم الدولة في الفكر والممارسة الإسلامية نتيجة عدة عوامل منها:

1 - اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية إلى خارج شبه الجزيرة العربية.

2 - تنوع الشعوب التي دخلت في الإسلام من حيث عاداتها وثقافاتها وحضارتها ونمط اقتصادها ونظامها السياسي والاجتماعي.

3 - الانفتاح الفكري على حضارة الإغريق والفرس والهنود، وترجمة المؤلفات العلمية والفلسفية وخصوصاً في عصر الخليفة المأمون، ومن ثم ظهرت المدارس الفقهية والفلسفية الإسلامية، كما ظهر علم الكلام وتصارعت تلك المدارس مع بعضها بعضاً.

4 - بروز عدم إمكانية قيام سلطة مركزية في عاصمة الدولة الإسلامية بعد الفتوحات الكثيرة التي ترتب عليها اتساع رقعة الدولة ثم ظهرت الولايات شبه المستقلة، بل إن بعضها دخل في صراع مع السلطة المركزية.

5 - تعمق الانقسام المذهبي في الإسلام من حيث بروز أهل السنة والجماعة من ناحية والشيعة من ناحية أخرى، والانقسامات الفلسفية حتى داخل المذهب الواحد حول مفهوم الدولة، وهل هي أصل من أصول العقيدة أم هي ضرورة من ضرورات الحياة لاستقامتها ولحفظ الأمن وتحقيق المصلحة العامة؟، وما هي أسس قيام تلك الدولة هل هي الإيمان الديني والتقوى أم الغلبة والقهر؟.

ولقد أدت تلك الخلافات الفقهية والفلسفية إلى تنوع وجهات النظر وأحياناً تصارعها، كما أدت إلى قيام دويلات إسلامية تتبع الفقه الشيعي باختلاف مدارسه مثل الدولة البويهية في إيران، والدولة الفاطمية في مصر، وبقي الفقه السني باختلاف مدارسه يعبّر عن الأغلبية الإسلامية سواءً ممثلاً في الدولة العباسية أو الدولة الأيوبية وغيرها من الدول التي ظهرت في الأقاليم الإسلامية المختلفة. (يتبع).

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3793 - الخميس 24 يناير 2013م الموافق 12 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 9:36 ص

      سقوط الفكر

      كان المفكر الكبير محمد جابر الانصاري من الشخصيات الفكريه المرموقه في العالم العربي وكان له الكثير من المحبين ولكنه سقط في امتحان تطبيق المفاهيم الفكريه على ارض الواقع والحقيقه عندما قبل بدور الطبال بعدما كان الناس تتصور انه قائد الاوكسترا ..
      لاتأسف على الطباله .. البضاعه دائما متوفره على الارصفه
      متأمل

اقرأ ايضاً