العدد 3815 - الجمعة 15 فبراير 2013م الموافق 04 ربيع الثاني 1434هـ

اليوم الأخير

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

لميخائيل نعيمة رواية جميلة عنوانها «اليوم الأخير»، تحكي قصة رجل يسمع في منامه صوتاً يقول له: «قم ودّع اليوم الأخير!» فيستفيق فزعاً متسائلاً عن مصدر ذلك الصوت. ويدرك بعد قليل أن أمامه أربعاً وعشرين ساعة قبل أن يموت، فيتذكر الأشياء المهمة التي عليه إنهاؤها قبل الرحيل، ويتساءل، طوال القصة، عن مغزى الحياة والموت.

وبينما هو كذلك تدخل عليه خادمته وتسأله عن سبب تغير حاله، وفي خضم حوارهما الوجودي يسألها «أم زيدان، أتعرفين ما هو الموت؟» فترد عليه: «الموت هو الموت يا ابني. ما هذا السؤال؟» فيسأل: «أتحبين الموت؟» فتقول «ومن يحبّه؟ لا كان الموت». ثم يسألها «أتحبين الله؟» فتقول مستنكرةً ومؤكّدةً: «ومن لا يحب الله؟ المجد لاسمه»، فيباغتها بسؤال فلسفي، لكونه أستاذاً في الفلسفة «والله هو الذي ابتلانا بالموت. فكيف تحبّينه وتكرهين الموت؟» فيوقعها في حيرة لم تخرج منها إلا باعتراف إنساني محض «مَن أنا يا بني لأفهم إرادة الله سبحانه وتعالى؟ أنا أمّ زيدان لا أكثر ولا أقل».

ولاشك في أن سؤاله وإجابة أم زيدان هما تجسيدان لصراع وجودي ظل يؤرق الناس والفلاسفة لآلاف السنين. فمع مرور الزمن واتساع المعرفة، كثرت الأسئلة حول الحياة والموت، إلا أن الإجابات تزداد شحّاً وسطحية، حتى قال الفيلسوف الهندي أوشو: «إن الحياة ليست مشكلة تُحَلَّ، بل لُغزٌ يُعاش».

فكل تساؤلات الإنسان، بحسب قوله، زائفة وغير حقيقية أو جوهرية. ويقول أيضاً إن الإجابات لن تريح الإنسان، فمع كثرة الإجابات تظهر أسئلة أكثر.

«ما الحل إذاً؟ وكيف نفهم الموت؟» سألني أحد الأصدقاء، فقلتُ له إن لكل إنسان مهمة في الحياة، وما إن يتمّها حتى تنعدم حاجة الحياة إليه. أما من يبقى بعد إنجاز مهمته فإنه غالباً ما ينتهي به الحال منسياً على هامش التاريخ، أو قد يرتكب أعمالاً لا تليق بمقامه وبإنجازاته فيهدم في آخر حياته ما بناه خلالها.

ولقد وجدتُ عند الأستاذ معز مسعود إجابة جميلة، حيث يقول إن مشكلتنا في فهم الموت هو عدم فهمنا لحالنا بعده، ولو أيقنا حقاً بأننا ننتقل من حال قاصرة مؤقتة في الدنيا إلى حال مكتملة دائمة في الآخرة، فسنجد في الموت راحة وطمأنينة. ووجدتني مرتاحاً لكلامه الذي أضيف إليه أننا ننهمك في محاولة فكّ لغز الموت، ونبحث في العقائد الدينية والفلسفات الإنسانية عن إجابات شافية، ولا ندرك أننا ليس بالضرورة أن نستوعب مفهوم الموت، بل مبدأه: وهو حتمية النهاية. والواجب علينا فهم الغاية من الحياة، وما المطلوب من كل واحد منا فيها.

حاول أن تراجع حياتك الآن وتتذكر متى كنت سعيداً ومتقناً لعمل ما؟ لابد أن تجد شيئاً واحداً على الأقل؛ وستدرك حينها أن هذا العمل هو ما يجب أن تقوم به لبقية حياتك. فقبل أسبوع فارقنا الأخ والصديق العزيز ثامر سلمان؛ نائب مدير جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، وعندما أتذكره، رحمه الله، أجده متقناً وشغوفاً بعملية التعليم. فلقد كان يدير جامعة ومدرسة، إلى جانب إدارته لاستثمارات أخرى، إلا أنه كان يشعر بالراحة النفسية كلما دخل إحدى مؤسستيه التعليميتين. ولقد أدرك في حياته القصيرة المثمرة، أنه يحب التعليم أكثر من أي شيء آخر، ولذلك كانت رؤيته واضحة؛ فعاش سعيداً بحسب رغباته وقناعاته ومثلما أراد، لا كما أراد له الآخرون، ولهذا أنجز كثيراً وفي وقت قصير.

فكّر مرة أخرى: ماذا تُحسن وتُحب؟ فإن كنتَ تحب الكتابة فاكتب، وإن كنت تحب الصناعة فاصنع، وإن كنت تحب التدريس فدرّس، وإن كنت تحب الإخراج فأخرج. ثم نمِّ قدرتك وطوّرها حتى تتقنها وتتميز فيها، وأخيراً قدّم إبداعك للناس وساعدهم ليكونوا أفضل مما هم عليه، فهذا هو المغزى العظيم من حياتنا.

إن أرقى إنجازات الإنسان أن يعطي حياته قيمةً، ولن يستطيع تحقيق ذلك إلا من خلال إيجاد معنى لوجوده، يتجلى له عندما يعرف حقيقة نفسه، ثم يبذلها ليسعد غيره. يقول ميخائيل نعيمة: «ستصبح في الموت أقوى من الموت. لأن الموت يميت كل شيء إلا الموت. ففيم ارتباكك؟ وفيم اضطرابك؟».

ولو أمعنا التفكير لوجدنا أنه لا قَلَق في الموت، ولا مرض، ولا خسارة، ولا أخبار كئيبة... لا شيء في الموت سوى الصمت، ولا شيء في الصمت سوى السكينة. الموت ليس بشعاً أو مخيفاً أو سيئاً؛ إنه غامض فقط، ولأنه كذلك فإننا لا نحبه. إلا أن الذين يملأون حياتهم بالإنجاز والبذل، كثامر، يدركون أن الموت ما هو إلا تتويجٌ عظيم واحتفالية كبرى بعطاءاتهم ومرورهم الكريم في حياة البشرية.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3815 - الجمعة 15 فبراير 2013م الموافق 04 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 7:13 ص

      حماك الله وأطال في عمرك

      من صميم القلب شكرا مقالاتك رائعة رائعة بكل معنى الكلمة ننتظرها اسبوعيا بشغف بسيطة راقية وذات نغزى كبير وفقك الله وبانتظارجديدك وابداعاتك

    • زائر 2 | 4:13 ص

      متابع مقالاتك

      مرحبا الساع ترحيبه اماراتيه ...الله يطول عمرك كل التوفيق في حياتك ونحن بالاماراتي متابعين لمقالاتك بجريدة الوسط التي تستقطب الكتاب المتميزين امثالك وشرواك / بحريني معجب ومتابع لك

    • زائر 1 | 12:06 ص

      Very nice article

      Many thanks for the writer, amazing column

اقرأ ايضاً