العدد 3815 - الجمعة 15 فبراير 2013م الموافق 04 ربيع الثاني 1434هـ

عمق «الثقافة البحرانية»...الأفعال الرباعية مثالاً

الثقافة البحرانية هي جزء من الثقافة الحضرية في شرقي الجزيرة العربية الممتدة من الكويت حتى عمان، وهي ثقافة تختلف تماماً عن الثقافة ذات الامتداد القبلي التي تتعايش معها في المنطقة نفسها، مع وجود العديد من الجوانب المشتركة بين الثقافتين.

ويعتبر كتاب إبراهيم أنيس «في اللهجات العربية»، والذي نشر في طبعته الأولى في العام 1946، من أوائل الكتب العربية التي أوضحت خصائص اللهجات الحضرية والقبلية وارتباطها بالثقافتين الحضرية والقبلية. ومن أهم ما يميز الثقافة الحضرية هو مصداقية النقل الثقافي بين الأجيال؛ فالخصائص اللغوية والعناصر الثقافية تنتقل بصورة متواصلة بين الأجيال المرتبطة ببعضها بعضاً ارتباطاً شديداً؛ ما يؤدي إلى بقاء الخصائص اللهجية السامية القديمة وكذلك الترسبات الثقافية للحضارات السابقة (أنيس 2002، ص 80). وبذلك؛ فالثقافة البحرانية، كغيرها من الثقافات الحضرية، ذات عمق غائر وجذور متأصلة ضاربة في عمق التاريخ.

إلا أن للحضرية ضريبتها، فهي شديدة التأثر بعوامل التغير الاجتماعي، وذلك أن الحضر «تقاس مراكزهم الاجتماعية بمقاييس لغوية في بعض الأحيان» (أنيس 2002، ص 80) فكلما تطور المجتمع وأصبح أكثر تحضراً؛ زاد مجهود أفراده في العمل «على تجويد نطقهم، وتحسين عباراتهم، وتخير ألفاظهم، لكي يصلوا إلى ما يطمحون إليه ويصبح لهم شأن في وطنهم المتحضر» (أنيس 2002، ص 80).

وبظهور مفهوم المدينة بدأ الحضر ينقسمون على أنفسهم، بين محافظين، أكثر تمسكاً بالثقافة القديمة، ومتحضرين مجددين للثقافة. وأصبح الفرع المدني المتحضر يمارس عنفاً رمزيّاً شديداً على المحافظين. ففي البحرين يلاحظ ظهور «اللهجة البحرانية المنامية» «المتحضرة» التي تسخر من لهجة أهل القرى والتي بدأت تسمى بعدة مسميات (اللهجة العكراوية، لهجة أهل الغريبات، اللهجة الحلايلية). حتى أن مهدي التاجر (في أطروحته حول اللهجة البحرانية) تأثر بهذه الثقافة فقسم اللهجة البحرانية إلى قسمين: لهجة المنامة ولهجة الآخر أي القروي.

العنف الرمزي وبداية الانحدار

في العام 1982 ظهر كتاب الباحث الاجتماعي الفرنسي Pierre Bourdieu حول اللغة والقوة الرمزية Ce que parler veut dire، ناقش فيه السوق اللغوية، والعنف الرمزي للهجات بين مجتمع المدينة والضواحي. فللغة قوة رمزية؛ فعندما تصبح هناك لهجة مرتبطة بطبقة اجتماعية معينة تصبح حينها عملية الحراك الاجتماعي بين الطبقات مرتبطة بالتغيير في اللهجة.

اللهجة البحرانية، وعلى رغم كونها لهجة محاصرة ومهمشة؛ فإنها مارست العنف الرمزي على نفسها، وأصبحت المنامة مركزاً لذلك العنف الرمزي. ويتمثل خطر العنف الرمزي في كونه عنفاً غير مرئي، فممارس العنف الرمزي ينكر ممارسته لهذا العنف، والممارس عليه العنف لا يشعر به؛ لأنه عنف يؤثر في اللاوعي، وتنعكس تلك الآثار على سلوك الممارس عليه ذلك العنف (Bourdieu 1991، p. 51). ونتيجةً لذلك العنف الرمزي حدثت تباينات واضحة في اللهجة البحرانية، وهو تباين يمكن قياس شدة انحرافه، عن اللهجة البحرانية العتيقة، بحسب البُعد عن المنامة. فانقسمت اللهجة البحرانية إلى قسمين أساسيين، قسم شمالي، متدرج في خصائصه المتطورة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق. وقسم جنوبي (من جزيرة سترة في الشرق حتى كرزكان وما حولها في الغرب) أكثر انعزالاً وأكثر حفاظاً على الخصائص اللهجية القديمة، وهو أيضاً متباين في خصائصه (ناقشنا ذلك بالتفصيل في فصول سابقة).

على الطرف النقيض يلاحظ أن لهجة العرب، ذات الامتداد القبلي، وهي أيضاً لهجة السلطة السياسية في المنطقة، لم تتأثر كثيراً بالتغيرات الاجتماعية؛ فاللهجة التي تمثلها السلطة السياسية لها قوة رمزية، وتعتبر، من قبل ممثلي السلطة، اللهجة المعيارية والتي تقاس على أساسها بقية اللهجات في المنطقة، والتحدث بهذه اللهجة يعطي المتحدث بها نوعاً من «البرستيج» ومكانة مرموقة في المجتمع (Bourdieu 1991، p. 45-46)). وهنا أصبحت اللهجة البحرانية واقعة تحت نوعين من العنف الرمزي، أحدهما خارجي، تمثله اللهجة القياسية السياسية، وآخر داخلي، يمارسه الشق المدني على القروي. القوة الوحيدة التي كانت تجعل اللهجة البحرانية متماسكة، كما ذكرنا سابقاً، هي العلاقة القوية بين الأجيال الجديدة والقديمة. وبقدوم الموجة الأخيرة من التطور، واختفاء العوائل المركبة، انهارت تلك العلاقات الحميمة بين الأجيال، وأصبحت الأجيال الحديثة أكثر انعزالاً عن الأجيال القديمة؛ وبذلك أصبحوا أكثر عرضةً للتأثر بالعنف الرمزي الذي يمارس عليهم. وبدأت عملية الانسلاخ من الهوية وتقمص هويات أخرى ولهجات جديدة.

الثقافة البحرانية من العمق إلى الضحالة

لمصطلحات اللهجة البحرانية القديمة عمق كبير؛ بسبب تراكمات عديدة من الثقافات الحضرية التي مرت على البحرين سابقاً، وقد تناولنا العديد من المصطلحات التي لها أصول في اللغات السامية كالأكدية والآرامية. ولا يقف الحد عند هذه اللغات بل هناك تراكمات من اللغة العربية الجنوبية والتي وثقت في نقوش المسند التي يعود تاريخها إلى حقبة ما قبل الإسلام. هذه التراكمات تعرض بوضوح الحقب اللغوية التي مرت على البحرين والتي تناولناها بالتفصيل في فصول سابقة. هذه التراكمات تصعب من عمليات تحقيق الألفاظ البحرانية بل تعقدها. على سبيل المثال، من مصطلحات أماكن الري القديمة في اللهجة البحرانية «التنگاب» (التنقاب) وهي مشتقة من التناگيب (التناقيب) وهي القنوات التحت أرضية (الأفلاج) أو ما يتعارف عليها حاليّاً باسم الفقب (الثقب)، فمن أين جاءت التناقيب؟، كذلك مصطلح الكراف، والذي بحث فيه مؤلفو كتاب «كرزكان» ولم يجدوا له معنى (يوسف وآخرون 2010، ص 76). مصطلحا التناقيب والكراف لم يردا في كتب اللغة، لكنها مصطلحات مشتقة من اللغة العربية الجنوبية، جاء في بحث جواد علي عن ألفاظ الزراعة في نقوشات المسند اسم «نقب» ومفردها نقبة وهي القنوات التحت أرضية وهي لفظة استعملت حتى في اللغة العبرية بالمعنى نفسه (علي 1985، ص 64).

وجاء في البحث نفسه لفظة «كرف» وهي النهر الصغير في نقوشات المسند، واستخدمت في العربية الجنوبية برسم «كريف» عند الهمداني، وهو يمني، في كتابيه «صفة جزيرة العرب» والأكليل، وهي بمعنى النهر الصغير وكذلك الأخدود الذي يبنى حول القلاع والقصور ويملأ بالماء (علي 1985، ص 65).

ولا يقتصر عمق الثقافة البحرانية على الألفاظ فقط؛ فهناك عناصر ثقافية أخرى تعتبر من ترسبات الحضارات السابقة، كطقوس الحجة أو الحاجية (المسماة حاليّاً باسم الحية بية). ذلك الطقس لم يكن في السابق مجرد لعبة للأطفال، بل كان له رمزية وعمق ثقافي متجذر. أصحاب نظريات التطور الثقافي الحديثة يطلقون على كل جزئية أو وحدة ثقافية، كطقس معين مثلاً، اسم «مِيم» أو «مِيمة» meme، هذه الميم لها جوهر ولها مظهر. وخلال انتقال هذه الميم من جيل إلى آخر يتلاشى الجوهر تدريجيّاً، وربما يستبدل، ويبقى المظهر. وفي ظل التطور الثقافي الحالي واستمرار العنف الرمزي الممارس ضد الثقافة البحرانية، تم استبدال المظهر والجوهر. فاستبدلت العديد من المصطلحات والألفاظ القديمة بأخرى مستعارة، لا تحمل في طياتها ملامح الثقافة الأصيلة.

الأصالة في الأفعال الرباعية

طور ابن فارس (المتوفى العام 1004) في معجمه «مقاييس اللغة» نظرية عن أصول الألفاظ التي تزيد على ثلاثة أحرف مفادها أن تلك الألفاظ إما أن تكون منحوتة من أكثر من لفظ أو أنها مشتقة من أصل ثلاثي بواسطة إضافة حروف معينة (الخماش 2010، ص 18).

وقد أثبتت الدراسات التي أجريت على الأفعال الرباعية في اللهجات العامية المعاصرة أن العديد من هذه الأفعال لا توجد في معاجم اللغة بصورتها الرباعية المتعارف عليها عند العامة بل توجد بصورة فعل ثلاثي؛ ما يدل على أن عدداً من الأفعال الثلاثية التي وردت في معاجم اللغة تطورت صورتها عند العامة لتصبح رباعية (انظر الحلقة السابقة).

وفي الفصول القادمة سنقوم بدراسة قرابة مئة فعل رباعي من أفعال اللهجات في البحرين، وبالخصوص اللهجة البحرانية، التي لا توجد في المعاجم اللغوية. هذه الأفعال المئة تطورت من أفعال ثلاثية بحسب قواعد معينة.

العدد 3815 - الجمعة 15 فبراير 2013م الموافق 04 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:21 ص

      أنا أؤيد المحافظة على جميع اللهجات البحرانية لأنها ثروة لغوية

      الملاحظ أن بعض أهل القرى من الجيل الجديد أستبدلوا لهجاتهم باللهجة المنامية أو باللهجة القبلية و هم بذلك ينسلخون من جلدهم و يؤدي هذا السلوك لضياع ثروة لغوية و هذا مايسمية كاتب الدراسة العنف الرمزي ..علينا المحافظة على لهجاتنا لأنها تعبر عن هويتنا فأنا مثلا إذا تحدثت يعرفون أسم المنطقة التي أتيت منها و البعض يسخر من بعض المفردات و لكنني لا أبالي لأني أفتخر بلهجتي فهي تعبر عن هويتي

    • زائر 1 | 1:44 ص

      احسنت

      رائع

اقرأ ايضاً