العدد 3873 - الأحد 14 أبريل 2013م الموافق 03 جمادى الآخرة 1434هـ

أيها الهجّاؤون: اتحدوا

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في كل زمن تجد من يحتقر المدّاحين من الشعراء. أقول المدّاحين، بصيغة المبالغة، وليس المادحين. أولئك لن يخلوَ زمن منهم. وفي كل زمن أيضاً تجد من يتقصّى ويتتبّع أخبار الهجّائين. وأقول الهجّائين هنا بصيغة المبالغة؛ لكن مبالغة الصيغة في الهجاء لا تعادل معْشار ما يرتكبه أولئك في دنيا الناس وتفاصيل حيواتهم.

بين المدح والهجاء حكاية خيارات بشر. أكثر من ذلك بين هذا وذاك، حكاية أن ترى بحواسّك لا بمنافعك وما الذي ستتحصل عليه.

ما الذي يمكن لأي منا أن يقوله في مدح الضوء؟ سوى أن يستعرض ما توافر له من بلاغة. لن يزيد ذلك من الضوء شيئاً، ولن يدنو من حيث هو.

المدّاحون، وأعرضها هنا للمرة الثانية تذكيراً بصيغة المبالغة، أسهموا إسهاماً مباشراً في تراكم الكوارث في تورّم ذوات من مدحوا. يروْن جيوب من يمدحون، ويتغاضون عن الكوارث التي من تلك الجيوب والأنفس تطلع وتصعق الناس صعقاً.

هناك من يمدح الخلل في أوجهه كلها من قتل وسحل وغصب وسرقة وتنكيل ومصادرة وإهانات وسفالات. لا يجد حرجاً في ذلك الدور طالما أنه سيقبض بيمينه ليبيع بشماله ما تبقى من شرف وضمير.

ليس التاريخ وحده الذي يعجّ بالمدّاحين الكذّابين المنافقين الوصوليين الذين وصلوا درجة من الصفاقة وانعدام المروءة والشرف. ابن هانئ الأندلسي لم يجد حرجاً في أن يقول لخليفة عصره:

ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ

فاحكمْ فأنت الواحدُ القهّارُ

وكأنما أنت النبيّ محمد

وكأنما أنصارك الأنصارُ

وفي خلاعة أخرى:

ندعوه منتقماً عزيزاً قادراً

غفّارَ موبقة الذنوب صفوحا

أقسمت لولا أنْ دُعيتَ خليفةً

لدُعيتَ من بعد المسيح مسيحا.

لا يتوقف الأمر مدحاً على الشعر. ثمة فقهاء وقضاة عرفهم التاريخ لم يتردّدوا في مدح الخروج على النص وتبريره والتشجيع عليه. ذلك مديح لصنيع سيّده وولي نعمته الأرضي الذي ارتضى.

في تاريخ السيوطي، يذكر أنه لما أفْضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي - أبيه - فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك. إن أباك قد طاف بي؛ لكنه شغف بها، فأرسل إلى أبي يوسف، قاضيه الشهير والملقب بـ «فقيه الأرض وقاضيها» فسأله الرشيد: أعندكَ في هذا شيء؟ وجاءه الجواب: «اهتك حرمة أبيك، واقضِ شهوته، وصيّرْه في رقبته»!

بيننا اليوم من يعاين القتل ويشهده وإن لم يفعل تردْه شواهد وفّرتها تقنية الغرب الكافر الذي يشتم على المنابر وتستخدم تقنيته في القتل والتحريض عليه. أولئك لا يملّون من استئناف مديحهم للبربرية الجديدة، ولا يرفّ لهم جفن لدموع ثكالى أو بؤس أمة من وراء كل ذلك. المهم أن يطمئنوا على تصاعد وتنامي الأرصدة في المصارف، وهي في حقيقتها أرصدة دم يهرق، وكرامة تُسْتلب، وإهانة تُمارس على مدار الساعة. حرّاسٌ هم على كل ذلك العوج والعور؛ بل الانحطاط في واقع الأمر.

أفهم المديح على أنه تقصٍّ وانتباه لحال صفة وسلوك وتعاطٍ قائم من دون رتوش ومن دون تقبيل أحذية ومن دون نسيان أن من تمدح من لحم ودم وليس إلهاً. البعض يتعامل مع تلك القيمة وطرفها باعتبار الأولى فرْضاً، والثاني واجب ذلك الفرْض! تنتفي عن تلك الحال صفة المديح لتدخل في خانة التأليه لطلب حاجة، ينتهي (التأليه) بانتهائها حتى محاولة أخرى. تلك تجارة قذرة وخسيسة على حساب الناس وآلامهم وعذاباتهم.

ذلك ما يجعل الهجاء أكثر قدرة على تشخيص الواقع. الواقع والذين هيمنوا عليه واختطفوه في صور ومسمّيات عدّة. الهجاء الذي يتعامل مع النكرة كنكرة، ومع الوباء كوباء، ومع الوهم كوهم، ومع منظومات ومؤسسات الكذب والإغواء باعتبارها مؤسسات تدمير وسلْخ لوعي الأمة في محاولة للإجهاز على ما تبقى من أنفاس فيها.

في هذا المليء بمن يغصبون الحياة، لن يمل أصحاب الحقوق من المطالبة بحقوقهم، وعلى هجّائي العالم أن يتحدوا.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3873 - الأحد 14 أبريل 2013م الموافق 03 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:59 ص

      شروه بثمن بخس دراهم معدودة

      نعم لقد باعوا آخرتهم بثمن بخس دراهم معدودة وعمر قصير جدا لا يكفي لأن يتمتع الانسان ويمتع نفسها بما تزلّف به وباع آخرته بدنيا غيره.
      ان الصفقة الخاسرة كل الخسارة كيف يمكن ان يقارن نعيم دائم وفي رضى الله
      يقابله غنى مؤقت وصحية مؤقتة ودنيا محفوفة بالمكاره اليومية فلا يكاد
      يمرّ على الانسان يوما من دون علّة او بلية او منغص من المنغصات.
      ايها النائم تيقظ فإن قطار العمر يمضي سريعا ولا يمكنكم الاستفادة من القروش التي جنيتها من ظلم اخوتك ثم تجني تبعاتها انت وهم يتلذذون فيها

    • زائر 2 | 2:29 ص

      سئوال فقط؟

      ما لغرب وببرابره الجدد فقط مصالح ودمى يحركونهم وفي الوقت المناسب سوف يقضون عليهم .....يالغبائهم وغفلتهم يعيشون ويموتون اي يفجرون انفسهم بضغطة زر على حسب ارادة غيرهم يلتعاستهم

    • زائر 1 | 1:49 ص

      مقال جميل

      لكن الي استحوا ماتوا..
      صدقني لن يفيد الوعظ والتنبيه..
      وانما عباراتك كاشفة عن انحطاط انسانيتهم وخسة اخلاقهم..لمن يريد ان يرى..ومن لايريد لن يرى الا مطامعه ومخاوفه المصطنعة والمرضية..
      لعل الله يشفيهم منها جميعا.

اقرأ ايضاً